(تحدّيات الواقع وآفاق المُستقبل)
حذّر التقرير العربي للتنمية المستدامة لعام (2020) الصادر عن الأمم المتحدة من أنّ المنطقة العربية لن تستطيع تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، وذلك لوجود تحديات عابرة للحدود كأزمة جائحة كورونا وتبعاتها، وما تشهده المنطقة من صراعات وتداعياتها، وقضايا التجارة، وتغيّر المناخ وندرة المياه والبنى التحتية، والاتصالات، والهجرة، والقضايا المتعلقة بالتنوع البيولوجي، وحماية النظم الإيكولوجية.
وعلى الرغم من تحقيق جهود التنمية في العالم العربي في الربع الأخير من القرن العشرين نتائجًا إيجابية مهمة على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، نتيجة وفرة المداخيل المالية إبان القوة النفطية بتنفيذ سياسات اجتماعية جعلت غالبية الخدمات الاجتماعية مجانية أو شبه مجانية في بعض الدول العربية النفطية، وقد بلغ التوازن بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية حدًّا أقرب إلى المعايير الأكثر نموًّا في العالم. فانخفضت نسب الأمية والفقر والبطالة إلى الحدود الدنيا في بعض الدول العربية. وارتفعت نسب التحاق الإناث بالمدارس والجامعات، بشكل غير مسبوق لدرجة أن عددهن في بعض المؤسسات التعليمية فاق أحيانًا عدد الذكور. وهذا التطور الإيجابي ساهم في تعزيز دور المرأة العربية ومشاركتها في العمل، والإنتاج، والحياة الثقافية والفنية، وتحررها التدريجي من بعض القيود التي فرضتها العادات والتقاليد الموروثة.
تحديات التنمية في العالم العربي
تشمل التنمية الشاملة كافة السبل التي تساعد على التقدم واستغلال كل ما يسهم في تفجير الطاقات الكامنة في المجتمع، مما يؤدي إلى التحديث والتطور، وهي عملية متكاملة متشعبة ومتوازنة، فعندما تتحقق التنمية يكتسب المجتمع قوة ذاتية تدفعه نحو التطور المستمر (التنمية المستدامة)، وتسهم التنمية في عملية التغيير الاجتماعي وتوجهه نحو مرحلة تسمح باستغلال الموارد المتاحة لصالح كافة أفراد المجتمع.
وعلى الرغم من إحراز معظم الدول العربية تطورًا في مجالات التنمية الإنسانية، وتخفيض معدل الفقر، وعدم المساواة بشكل كبير في القرن العشرين، وقدرتها على تحقيق ذلك مرة أخرى في القرن الحادي والعشرين. إلا أنها لم تتطور بالدرجة المنشودة، ويعود ذلك بشكل رئيس لافتقار المؤسسات الحكومية للشفافية والمساءلة، وضعف مشاركة المرأة في العمل، وفي الحياة السياسية، والمهنية بدرجة أقل مما هي عليه بالمقارنة بدول العالم الأخرى.
وقد ركزت الاستراتيجيات التي بنيت عليها التنمية المستدامة في بعض البلدان العربية، على استيراد التكنولوجيا من دون توطينها، وتطويرها والإبداع فيها. كما أن انتشار الفساد على نطاق واسع في عديد من البلدان العربية، وتشجيع الاستهلاك غير المجدي في كثير من القطاعات، والهجرة الكثيفة للأدمغة والأيدي العاملة الماهرة أدَّى إلى استنفاذ نسبة عالية جدًّا من ميزانيات الدول العربية، إضافة إلى هدر كبير للموارد المالية ناجم عن صفقات سنوية بمليارات الدولارات، واستغلال السلطة لجني أموال طائلة لمصلحة مجموعة صغيرة من أصحاب الثروات، والصراعات المستمرة منذ عام 2011، وهذه العوامل شكلت معوقات أمام تحقيق التنمية العربية المستدامة في المرحلة الراهنة.
لقد أحدث عدم الاستقرار الداخلي تبدلات سكانية ذات أبعاد اجتماعية، وقبلية، وطائفية، وعرقية خطيرة، وهجرة أعداد كثيفة من الشباب من الأرياف والبوادي إلى المدن للاستقرار فيها، طلبًا للعلم والعمل، فواجهت بطالة حادة أدت إلى مآزق حادة لدى الفئات الشبابية، كما ازدادت حالات النزوح واللجوء في بعض الدول العربية نتيجة الحروب، والتهجير القسري لأعداد كبيرة من السكان عن أراضيهم.
ومع تراجع معدلات النمو بصورة متزايدة في كثير من الدول العربية مع أزمة كورونا وما قبلها، زادت نسب البطالة والأمية والفقر، وبرز خلل كبير في معدلات التنمية الداخلية بالدول التي كانت تعتمد كليًّا أو جزئيًّا على العاملين من أبنائها في الدول العربية النفطية، وتزامنت تلك الأزمات مع تفشي الأمراض الاجتماعية لدى فئات سكانية واسعة بدت عاجزة عن تأمين المسكن، ولقمة العيش، وحبة الدواء. وتزايدت نسبة تفكك روابط الأسر العربية، وارتفعت معدلات الطلاق في المنطقة، وازدادت معدلات جرائم الاغتصاب، ونسب الانتحار والجريمة، وجرائم المخدرات على نطاق واسع.
كما تعاني غالبية الدول العربية من استخدام العمالة الأجنبية الوافدة على حساب العمالة العربية، إضافة إلى مشكلات اجتماعية جديدة نجمت عن الحروب الإقليمية والمحلية، وتزايد عدد مشوهي الحرب، والأرامل، والأيتام، والمشردين، وتشغيل الأطفال في سن مبكرة، وغياب مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والانحراف المبكر نحو عادات اجتماعية خطيرة كالجريمة والدعارة والمخدرات.
وعلى جانب آخر بنت معظم الدول العربية خطط التنمية على أساس تعزيز القطاع العام على حساب القطاع الخاص، ثم وضعت خططًا جديدة لتنمية شاملة تعتمد على القطاعين العام والخاص، وأطلق على هذا المسار صفة “الانفتاح الاقتصادي” الذى قاد إلى ولادة ما سمي بـ “القطط السمان” وهو توصيف لقوى الملكية لكي تجمع ثروات كبيرة على قاعدة النهب الفاضح وغير الخاضع لرقابة الدولة. ولم تحصل القوى الاجتماعية الفقيرة على مكتسبات جدية من سياسة الانفتاح، بل خسرت كثيرًا من مكتسباتها السابقة، فلم يلعب القطاع الخاص دورًا فاعلاً في تحقيق أهداف التنمية العربية الشاملة والمستدامة، أو في دعم التنمية الاقتصادية، والاجتماعية والتربوية، والإعلامية الشاملة.
فسياسة خصخصة القطاع العام في بعض الدول العربية، وبيعه بثمن بخس إلى القطاع الخاص من دون ضوابط جدية تندرج في إطار الاستجابة لضغوط عولمة تقودها احتكارات مالية واقتصادية تمتلك نسبة كبيرة جدًّا من الدخل القومي مقابل إفقار مستمر للطبقات الوسطى والدنيا والفقيرة. فخسرت الدول العربية كثيرًا من مؤسساتها، بعد بيعها بأثمان بخسة للقطاع الخاص دون تحقيق التنمية الشاملة، ولم تندرج سياسة الخصخصة في سياق التكامل الاقتصادي أو التنمية العربية المستدامة الشاملة عبر تطوير القطاعين العام والخاص على غرار ما قامت به دول عصرية حققت تجارب تحديثية ناجحة وفي طليعتها دول النمور الآسيوية. كما أن زيادة انتشار الفساد، وجشع الرأسمالية الطفيلية التي تسعى فقط إلى الربح السريع، وسياسة التهميش المستمر للقوى المنتجة، جعلت من الخصخصة المشوهة التي قدمت كحل للتنمية الشاملة مدخلاً لمزيد من الفساد والإفساد على مختلف المجالات.
على جانب آخر شكل الإنفاق العسكري أحد أبرز المعوقات الأساسية للتنمية العربية منذ بداية الاستقلال السياسي، فقد أثر سلبًا على دعم موازنات التعليم، والحماية الصحية، وتطوير الزراعة، والصناعة، والخدمات؛ مما أدَّى إلى أزمات متلاحقة ضربت الركائز البنيوية، والاجتماعية والنفسية للتنمية الشاملة في غالبية الأقطار العربية.
وبرز تخلف مريع في مختلف حقول الإنتاج والمعرفة على المستوى العربي العام، كما بلغت مديونية الدول العربية مجتمعة للخارج آلاف المليارات من الدولارات، مع تبعية واضحة في مجال إنتاج الغذاء، وزيادة الاعتماد على تأمينه من الخارج. وإلى جانب الخلل الحاد في الأمن الغذائي العربي والأمن العسكري، والأمن السياسي، نشأ خلل مماثل في الأمن الثقافي، والتربوي، والإعلامي وغيرها.
آفاق التنمية المستدامة في العالم العربي
إن نشر العلوم العصرية مع توطين التكنولوجيا الحديثة يشكلان المدخل السليم للنهوض بالمجتمعات العربية في مختلف حقول المعرفة، والإنتاج، والإبداع؛ والارتقاء بالفرد والمجتمع معًا وبالثقافة الإنسانية، وبناء الكوادر العلمية القادرة على مواجهة الأزمات ومواجهة مشكلات الانفجار السكاني، والفقر، والأمية، ومحاربة البطالة، والجوع، والتصحر، وتلوث البيئة، وإيجاد حلول لها.
ولا بد من رسم استراتيجية طويلة الأمد لتمويل البحث العلمي في جميع الدول العربية وحل هذه الأزمة التي فتحت الطريق أمام هجرة آلاف من أفضل الأدمغة العربية إلى الخارج. ولا بد من إنشاء المراكز البحثية الضرورية المتطورة للبحث العلمي، مع توطين التكنولوجيا، وتشجيع العلوم العصرية، وإعداد خطط مدروسة لتنمية النظام التعليمي ليصبح قادرًا على تلبية احتياجات سوق العمل، ومده بقوى عاملة مزودة بعلوم عصرية، ومدربة على أحدث أشكال التكنولوجيا. فالتنمية المستدامة تتطلب تحديث وتطوير قوى الإنتاج، وعلاقاته، ورفع شروط الكفاءة والمهارة في مختلف القطاعات المنتجة.
إن نجاح التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة على المستوى العربي العام يتطلب توحيد الجهود العربية المشتركة، وتبني ركائز التنمية المستدامة التي تتناسب مع طبيعة عصر العولمة، والتحولات الإقليمية، والدولية المتسارعة. ولا بد من قياس التنمية العربية المستدامة على أساس الانتعاش المستمر في قطاعات الإنتاج الأساسية كالزراعة، والصناعة، والتجارة، مع زيادة واضحة في حجم الخدمات، وتجنب الاستنزاف الشديد للموارد الطبيعية، كالنفط، والغاز.
وترتبط قدرة بلدان العالم العربي على التطور، ومواجهة التحديات بحماية الحقوق الأساسية للمواطنين، وضمان استقرار المجتمعات العربية، وممارسة الحريات الأساسية بصورة طبيعية، ونشر العلوم العصرية، والإفادة من التكنولوجيا المتطورة، بحيث تشكل المدخل السليم للتحرر من كل أشكال التبعية والمعوقات الاجتماعية التي تطول كرامة الإنسان كالجوع والمرض والجهل والفقر والخوف، والبطالة. فالمواطن الفعال الحر هو أساس التنمية المستدامة وغايتها، وبه تحقق التنمية البشرية المستدامة كامل أهدافها؛ فوحدها المجتمعات التي تنعم بالحرية، والإبداع، والقيم الإنسانية قادرة على حماية تراثها الإنساني، وبناء التنمية المستدامة.
المراجع
الأمم المتحدة (2020): المنطقة العربية لن تحقق أهداف التنمية المستدامة، https://www.unescwa.org/ar/news، تم الاطلاع في 25/4/2022.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2016). تقرير التنمية الإنسانية العربية، http://www.un.org
مسعود ضاهر (2018). آفاق التنمية العربية المستدامة في المرحلة الراهنة، مجلة العربي، ص 22- 27.
مصطفي العبد الله الكفري (2022): آفاق التنمية المستدامة المستقبلية في الدول العربية، https://www.ahewar.org/، تم الاطلاع في 25/4/2022.