حدائق غناء تتمايل، وتتماوج في الماء الدافئ الصافي. وحياة زاخرة تختال بمئات الألوان الزاهية، والأشكال المتنوعة، والأحجام المتباينة. وتبدو كثيفة كأشجار مُصغرة، أو كنباتات مورقة، أو كواحات في صحراء البحار والمحيطات. وهي تأوي ما تأوي من مخلوقات وكائنات أكثر جمالاً، وبهاءً، وتنوعًا، وروعة.
الشعاب المرجانية واحدة من أبهى وأعجب المخلوقات التكافلية (الحيوانية، والنباتية معًا). فالمرجان حيوان لا فقاري صغير (يتبع فصيلة القناديل البحرية)، ويسمى “البولب المرجاني” Coral polyp (طولها نحو ثلاث سنتيمترات). ويتكون البولب المرجاني من جسم كيسيّ الشكل، به فم محاط بمجسات لادغة، ويكوّن لنفسه هيكلاً كأسيًّا حجريًّا واقيًا من الجير الحي (كربونات الكالسيوم). لذا يشبهون المرجان “بالجماد لهيكله الحجري هذا). وتغطي كل شجرة مرجانية آلاف البوالب، بهياكلها؛ لذا يطلق عليها مستعمرة. وتستكين البوالب المرجانية داخل هياكلها العظمية.. نهارًا. لكنها تخرج، ليلاً، لاصطياد غذائه على الهائمات الحيوانية (بلانكتون). وعندما ينفق “البولب المرجاني” فإنه يترك هيكله، لتنمو على قمته، بوليبات جديدة. ومن ثم تتراكم وتتكون ـ عبر آلاف السنين ـ الشعاب، والحيود، والجزر، والحلقات المرجانية.
ويرجع نجاح الشِّعاب المرجانية في بناء الصخور الجيرية إلى وجود طحالب مجهرية وحيدة الخلية تسمى “الحيوانات الصفراء/ الزوزنتلي”. تعيش داخل خلايا أنسجة البولب، وتعطي للشعاب المرجانية لونها البني المخضرّ. وتقوم الحيوانات الصفراء، مثل سائر النباتات (التكافيلية)، باستخدام الطاقة من ضوء الشمس لإنتاج المواد التي تُستخدم في تغذيتها وتكاثرها. وبذلك فهي تستفيد من ثاني أكسيد الكربون الذي تنتجه الشعاب المرجانية. كما تقوم بنقل بعض المواد إلى الشِّعاب المرجانية. ويساعد وجودها البوالب على زيادة معدل إفرازها للهياكل الجيرية.
ويقال إن لفظ المرجان معرب عن اليونانية Morginto، وفي اللاتينية Morgarita. وعمومًا.. أطلق اسم “المرجان” على “العروق الحُمر، التي هي أجود أنواعه، ويتخذ منها الحُلي، وأحجار الزينة”. وهو ذو ألوان مختلفة منها الأحمر، والأسود، والأبيض. وكلما كان أشد حمرة كان أشد اعتبارًا للزينة، وأحسنه الرزين الأملس الأحمر الوهاج وأردؤه الأبيض، وبينهما الأسود. وصلادة المرجان 3.25، ووزنه النوعي 2.65، وقانونه الكيميائي: كورال Coral، كربونات الكالسيوم (كاك أ3 Ca CO3).
ومن المرجانيات أنواع مثل: مرجان قرن الغزال، والمرجان المخيّ، والمرجان المخروطي، والمرجان الجبلي… إلخ. ويتأتى لون الشِّعاب المرجانية التي تبني صخورًا من الصبغات الموجودة في أنسجة البولب. وينمو المرجان الحي متخذًا ألوانًا مختلفة، ولكن بقايا الميت منها تكون، عادة، بيضاء اللون. وعندما تموت مستوطنة من الشِّعاب المرجانية لا يبقى منها سوى الهيكل الجيري الأبيض.
وتوجد الشعاب المرجانية في المياه الاستوائية التي تقل عمقها عن 50 متر، وذات شفافية عالية. حيث تحد من وجودها قلة الإضاءة، ودرجات الملوحة العالية، ونسبة التعكير والتغير في درجات الحرارة. وتتراوح درجة الحرارة المثلى لنمو حدائق المرجان ما بين 25- 29 درجة مئوية. كما قد وتنمو بعض الأنواع في مياه يصل عمقها إلى 120م. وعادة.. وتنمو الشعاب رأسيًّا ببطء شديد بمعدل يتراوح من 0.2 – 0.7 سم سنويًّا. ويستمر نمو المرجان لمئات السنين. مما يجعله من أكثر المخلوقات المُعمرة في المملكة الحيوانية، وتبلغ مساحتها في العالم 660 ألف كم أي ما يعادل 0.2 % من مساحة البحار والمحيطات.
وعادة ما تتوافر الظروف المناسبة لنمو هذه الحدائق الرائعة الجمال في منتصف مستويات المد وإلى عمق 40م. وتشمل طرق تكاثر الشعب المرجانية: “التكاثر اللاجنسي” حيث ينقسم الحيوان انقسامًا ثنائيًّا بسيطًا. ومن ثم تتكون المستعمرات المرجانية. وهناك “التكاثر الجنسي” حيث يقذف الحيوان كلًّا من الحيوانات المنوية (الحيامل) والبويضات بصورة منفصلة إلى الماء. ومن ثم ترتفع إلى الطبقات السطحية للماء لتتم عملية الإخصاب. وبعد مرور 3-15 يومًا تخرج يرقات تسمى بلانيولا (يتراوح قطرها ما بين 1- 3 ملم) مغطاة بشعيرات قصيرة تساعدها على الطفو في الماء. وقد تبعد التيارات المائية هذه اليرقات عن مواطن ولادتها إلى أن تجد البيئة المناسبة للاستقرار. فتلتصق على سطح مناسب لتكون مستعمرة من الشعاب المرجانية. وتختلف الشعاب المرجانية في سرعة نموها؛ فبعض الفصائل ينمو بمعدل من 5 – 25 مليمترًا في السنة. في حين قد يصل معدل النمو في فصائل أخرى إلى 20 سنتيمترًا سنويًّا.
فيها حياة زاخرة
تعتبر بيئات الشعاب المرجانية من أجمل وأغنى البيئات الطبيعية على الكرة الأرضية. فهي مأوى لأكثر من ربع الكائنات البحرية المعروفة، وبخاصة الأسماك زاهية اللون، والقشريات، والرخويات إلخ. فترى هذه المخلوقات المتنوعة (مقارنة ببيئات بحرية أخري) تتحرك حول، وداخل هذه الحدائق. وتستخدمها كغذاء، أو كمأوى للراحة، وبيئة للتكاثر. هي بيئة هامة لنمو وتغذية وتكاثر ما بين 3-4 آلاف نوع من الأسماك من بينها: السمك الملائكي، والقد، وشيطان البحر، والأسقمري، وسمكة الفراشة، والسرغون، والروبيان (القريدس)، وجراد البحر، وقنفذ البحر، ونجم البحر، وخيار البحر، والمرجان الرخو، ومروحة البحر، وشقائق البحر، والديدان إلخ. وتقدر إنتاجية كيلومتر مربع من الشعاب المرجانية السليمة بنحو 35 طن من الأسماك سنويًّا..
وأما خيار البحر وغيره من منظفات البيئة البحرية، فيحافظ على نظافة الشعاب بأكله الحيوانات والنباتات الصغيرة، والطحالب التي تنمو بينها. كما توجد كذلك أنواع من السلاحف البحرية: الخضراء، وسلحفاة البحر، وكبيرة الرأس. ويعيش أربعة آلاف نوع المحار على الشعاب المرجانية أو بالقرب منها. وتلتصق بالشعب كثير من الإسفنجيات. لذا تعتبر الحدائق المرجانية من البيئات البحرية ذات الإنتاجية البحرية العالية. وتوفر، بأشكالها المختلفة، حماية للسواحل من فعل الأمواج العاتية. هذا بالإضافة إلى كونها مصدرًا للكثير من المستحضرات الطبّيّة الدوائية، والتجميلية في آن واحد.
أشكالها، وانتشارها
تنتشر، بكثرة، الشعاب المرجانية في البحار، والمحيطات الدافئة. وتنقسم حدائق الشعاب المرجانية إلى أنواع منها: “الشعاب السجافية أو الحافية” وهي مصاطب أو أرصفة ملاصقة للشواطئ، وتحفها. ولا تظهر فوق الماء إلا أثناء الجذر. وهناك “الشعاب الحاجزية” التي تكون أرصفة عالية/ حواجز حول الشاطئ. وتفصلها عن الشاطئ بحيرات شاطئية طويلة “لاجونات”. وتنمو الشعاب السجافية والحاجزية بجوار مساحة قارية أو جزر صخرية. أما “الشعاب الحلقية” أو “الأتولات” (ومفردها أتولة) فشكلها دائري، تحصر بداخلها “لاجونات” مستديرة الشكل. وتنمو “الأتولات” في أعالي البحار مكونة جزرًا مميزة لا سيما في المحيط الهادي. وكما يوجد نوع رابع هي “الشعاب النضدية” التي تكون جزرًا مثل “الأتولات”. لكن ليس بها “لاجونات”. بسبب النمو السريع للمرجان داخلها هذه اللاجونات وما يتراكم بها من الفتات الجيري الناتج عن نمو الشعاب، وتحطمها بفعل الأمواج.
وكما تنقسم أشكالها إلي عدة أشكال: الحيد، والحواجز، والحلقات، والجزر المرجانية. ويعد “الحيد المرجاني العظيم” إحدى روائع وعجائب العالم الطبيعي. اكتشفه “جيمس كوك” عام 1770. ويتكون من شعاب مرجانية رائعة التوهج (نحو خمسمائة نوعًا). وتمتد إلي ما يقارب خمسة وستين كيلومترًا على سواحل ولاية كوينزلاند، في أستراليا. وببرز كثير من هذه الشعاب الجميلة فوق سطح الماء. ويشكل موئلاً لعدد هائل من المخلوقات البحرية حتى إنه ليماثل “دغلاً” يعج بها. وقد أدرجته منظمة اليونسكية على لائحة التراث العالمي، وأصبح مزارًا سياحيًّا عالميًّا، وأحد أهم مواقع السباحة والغوص لرؤية الجمال الخلاب.. سواء فوق الماء أو تحته.
حدائقنا العربية
تتميز حدائقنا المرجانية بأنها غنية، وجيدة بيئيًّا، ومتنوّعة حيويًّا. فعلى ساحلي البحر الأحمر، وخليج العقبة، يزدهر نحو 265 فصيلة من الشعاب المرجانية (يكثر فيها النوع الهدّابي fringing reefs). مما يمثل أكبر تنوع شمال المحيط الهندي. وتوفر المياه الدافئة في البحر الحمر وخليج العقبة ملاذًا رائعًا لمجموعة من الأسماك المرجانية الفريدة ذات الألوان الرائعة فضلاً عن الزواحف والثدييات البحرية. ونظرا لصفاء المياه، فإن هذا الطيف الواسع من المخلوقات والألوان يمكن رؤيته بيسر وسهولة.
بينما ينتشر نحو 60 نوعًا من الشعاب المرجانية في مياه الخليج العربي. كما يوجد على شواطئه مجموعات من السلاحف “الودودة” التي تمضي وقتها في السباحة بين المجموعات المتماوجة من الأسماك المتنوعة. كما يمكن رؤية الحيتان، والدلافين، وأبقار البحر. ولا تتعرض هذه الشعاب وتلك المخلوقات البحرية إلى اضطرابات طبيعية خطيرة. حيث لا توجد نشاطات مدن ومجتمعات ساحلية كبيرة تؤثر عليها. فضلاً عن القدرة الكبيرة لهذه الشعاب المرجانية على التكيف والتأقلم البيئي. وتهتم دولنا العربية كثيرًا بتلك الثروة الطبيعية. وتسعى للحفاظ عليها، من خلال زيادة التوعية، وإصدار القوانين، لضمان سلامة شعابنا المرجانية المتميزة والرائعة. فالشعاب المرجانية من أهم البيئات الطبيعية العالمية التي يعتمد عليها في السياحة البيئية.
المحافظة على حدائق البحار
تغطي البحار والمحيطات نحو 71% من مساحة سطح الكرة الأرضية، ونظرًا لأهميتها وخطورة ما قد تتعرض له من مشاكل مزمنة كالتلوث، والصيد الجائر، وآثار تطوير السواحل خصصت الأمم المتحدة يوم الثامن من يونيو سنويًّا ليكون “يوم البحار العالمي”. ويتم فيه عرض المشاكل المختلفة التي تواجه البحار والمحيطات، وبحث كيفية التصدي لها. وعلى رأسها كيفية المحافظة على الشعاب المرجانية. فخلال العقدين الماضيين فقدَ العالم نحو 20% منها. وقد كانت مزدهرة لأكثر من 50 مليون سنة، ويُخشى أن يتم تدمير المزيد منها خلال العقود القادمة. فعليها يعتمد ملايين البشر في توفير غذائهم، وكمصدر رزق لهم، من خلال صيد الكائنات البحرية التي تتواجد بها، ومن خلال السياحة البحرية.
وتهدد الأنشطة البشرية أكثر من 58% من الشعاب المرجانية على مستوى العالم (27% منها تواجه أخطارًا شديدة)، ومن أمثلة تلك الأنشطة: إنشاء قرى ومدن ساحلية بطريقة غير مسؤولة: فيتم صبّ الأسمنت فوق المرجانيات؛ لزيادة مساحة الشاطئ. كما أن عمليات الجرف لقيعان الموانئ وممرات السفن، والتخلص من النفايات يؤدي إلى تدمير النظام البيئي البحري. كما قد يتم استخراج الرمل والجير من الشعاب المرجانية ذاتها، لصناعة الأسمنت. كما أن التخلّص من الصرف الصحي داخل البحر يؤدي إلى زيادة نمو الطحالب البحرية، التي تحجب الضوء عن الشعاب المرجانية، وبالتالي تفقد “الزوزانثللي” القدرة على توفير الغذاء للبوالب المرجانية..
كما ينتج تلوث مياه البحار عبر التسربات النفطية، والتخلص المتعمد لمياه صابورات السفن الزيتية. أما الصيد الجائر فيؤدي لعدم توازن النظام الإيكولوجي للحدائق المرجانية؛ وهو ما يؤدي إلى هيمنة بعض أنواع الكائنات البحرية الضارة بالشعاب. فضلاً عن أن أساليب الصيد المدمرة كالصيد باستخدام السيانيد، والكيماويات السامة، والمواد المتفجرة مدمر للبيئة البحرية. ويبقى أن ارتفاع درجات حرارة المياه بسبب الاحتباس الحراري يؤدي إلى موت “الزوزانثللي”، مصدر طاقة البوالب. وقد يؤدي لزيادة تكرار وحدّة العواصف الاستوائية، وارتفاع مستوى البحار، الذي يؤثر تأثيرًا خطيرًا على الحدائق المرجانية.
صفوة القول: يبقى الترحال عبر الكون ثاريًا للوعي والذائقة الجمالية. وتتضح آيات الإبهار الجمالي والإعجاز اللوني في الحدائق المرجانية، وكائناتها البحرية. إذ ثمة ضرورة نفعية/ حياتية “تحتم” وجود تلكم المظاهر الجمالية واللونية في هذه الحدائق الغناء في عمق الماء. لكن الجمال عنصرٌ كوني أصيلٌ في الأحياء والجمادات في آن واحد. ففي الوجود الحي جمال كما الحال في الوجود الميث. بيد أنه ينبغي أن لا يُرى هذا الجمال دون تذوقه، ورؤية مبدعه، ومن ثم حبه, إذ “لا يُتصور محبة حقيقية إلا بعد نظر وتأمل، ومعرفة وإدراك”.