مدينة البتراء

(في الصخر نُحتت وكأنها بالسحر نمت)

مدينة البتراء الأثرية الأردنية أصبحت واحدة من عجائب الدنيا، فقد وضعت البتراء عاصمة دولة الأنباط بين قائمة العجائب الدنيوية، حيث صوت ملايين الأشخاص عبر الإنترنت والهاتف في بداية الحملة عن قائمة نهائية لعجائب الدنيا السبع الجديدة، والتي لن تبلغ العجائب السبع القديمة أو استبدالها، بل ترمي للحفاظ على المعالم التاريخية ودعم الوعي بالتراث الثقافي العالمي.

وقد وضع مصوتون من مختلف أنحاء العالم البتراء بين قائمة تلك العجائب التي أضيفت لأهرامات الجيزة المصرية، وتمثال الحرية في نيويورك، وبرج إيفل في باريس، ودار الأوبرا في سيدني، وبقايا قلعة “ستون هنج” في بريطانيا، وقلعة تيمبوكتو في مالي، وسور الصين العظيم، وتاج محل في الهند، والتماثيل المنحوتة في جزيرة إيستر، وتسلمت الملكة رانيا شهادة رسمية بالترشيح معلنة البتراء كواحدة من بين 21 موقعًا أثريًّا دخلت التصفية النهائية للفوز باللقب.

إن سكانها يعيشون على الدخل الذي يأتي من السائحين الذين يأتون من مشارق الأرض ومغاربها، لزيارة هذه المدينة الساحرة المحفورة في الصخور، التي أقامها الأنباط العرب كعاصمة لدولتهم قبل أكثر من ألفي عام، وظلت شاهدةً على المعجزة البشرية التي تخرج المدن من بطون الجبال فكلها مقطوعة من الحجارة الصخرية للجبال، ويعرفها زائرها والقارئون عنها باسم المدينة الحمراء الوردية، نسبة إلى لون الصخور التي شكلت بناءها الفريد، هي مدينة أشبه ما تكون بالقلعة، حتى إن الكثيرين أشاروا إلى أنها تعد بحق أعجوبة ثامنة من العالم.

البتراء، هي مدينة الخيال والرومانسية التي يشاهد زائرها مئات المعالم، حفَرها وأنشأها الإنسان من هياكل شامخة وأضرحة ملكية باذجة، إلى المدرج والمسرح الروماني الكبير الذي يتسع لسبعة آلاف متفرج، والبيوت الصغيرة والكبيرة، والردهات، وقاعات الاحتفالات، وقنوات الماء والصهاريج والحمّامات، إضافة إلى صفوف الدرج المزخرفة، والأسواق، والبوابات المقوسة، ويعتبر الدير من أضخم الأماكن الأثرية في البتراء، حيث يبلغ عرضه 50 مترًا، وارتفاعه 45 مترًا، ومن المرجح أن يكون الدير قد بني في القرن الثالث الميلادي، وعلى قمة الدير يمد الناظر بصره إلى أبعد مدى، فيرى الأرض الفلسطينية وسيناء المصرية كاملتين.

والبتراء تعني الصخرة؛ إذ إن معظم منازلها وقبورها منحوتة في الصخر قبل مئات السنين، وكانت البتراء قديمًا عاصمة لدولة الأنباط وأهم مدنهم، التي دامت ما بين 400 ق م وحتى 106م، والتي امتدت حدودها من ساحل عسقلان في فلسطين غربًا وحتى صحراء بلاد الشام شرقًا. وقد شكل موقع البتراء المتوسط بين حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر أهمية اقتصادية كبيرة، فقد أمسكت دولة الأنباط بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها وكانت القوافل التجارية تصل إليها محملة بالتوابل والبهارات من جنوب الجزيرة العربية، والحرير من غزة ودمشق، والحناء من عسقلان، والزجاجيات من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي. وبعد نهاية دولة الأنباط التي كانت على يد الرومان سنة 105 الذين أسموها المقاطعة العربية. وفي سنة 636 أصبحت البتراء خاضعة للحكم العربي وعاش من تبقى من سكانها على الزراعة، لكن الزلازل التي أصابتها على التوالي أفرغتها من أهلها.

مواقع أثرية إعجازية

مع بدء رحلات المستشرقين للوطن العربي، في القرن الثامن عشر تم اكتشاف البتراء عام 1812م، على يدي المستشرق السويسري يوهان لودفيج بيركاردت، و قد احتوى كتابه المطبوع عام 1828 والمعروف باسم رحلات في سوريا والديار المقدسة على صور للبتراء. ومن أهم الرسومات التي اشتهرت بها البتراء كانت الليثوغرافيا التي رسمها ديفيد روبرت للبتراء ومنطقة وادي موسى أثناء زيارته عام 1839، والتي تجاوز عددها عشرين لوحة ليثوغرافية، طبع العديد منها مما أعطى البتراء شهره عالمية. ويوجد للبتراء العديد من اللوحات والصور الأخرى التي تعود للقرن التاسع عشر مما يدل على مدى الاهتمام الذي أضفاه إعادة اكتشافها على أوروبا في ذلك الوقت.

من الأعمال المشهورة للبتراء؛ لوحة فنية بالألوان المائية لمناظر البتراء للفنان شرانز حوالي 1840، وأول خارطة مخطوطة للبتراء باللغة الإنجليزية من رسم الرحالة لابودي حوالي عام 1830، وصور للبتراء تصوير فريت عام 1830، وفي عام زارها 1896 الويس موصل وكتب عنها كتابًا أسماه البتراء العربية مما أكسب البتراء شهره على صعيد أكبر، وتعكس أعمال النحت والزخرفة في جميع أنحاء هذه المدنية التأثير الهيليني الذي انتقل مع التجار العرب أثناء ذهابهم وإيابهم إلى اليونان عبر الجزيرة العربية.

إن المواقع الأثرية داخل البتراء متعددة ومثيرة منها (السيق، الخزنة وهي من أجمل المواقع على الإطلاق، والدير، والمدرج والمسرح الروماني، قصر البنت أو ابنة فرعون، والمحكمة، والمعبد الكبير وغيرها. البتراء محفورة في الصخر ومختبئة خلف حاجز منيع من الجبال المتراصة، التي بالكاد يسهل اختراقها وتحظى بسحر غامض. فالمرور بالسيق، وهو ممر طريق ضيق ذو جوانب شاهقة العلو بالكاد تسمح بمرور أشعة الشمس، مما يضفي تباين دراماتيكي مع السحر القادم. وفجأة يفتح الشق على ميدان طبيعي يضم الخزنة الشهيرة للبتراء المنحوتة في الصخر التي تتوهج تحت أشعة الشمس الذهبية. وهنالك أيضًا العديد من الواجهات التي تغري الزائر طيلة سيره في المدينة الأثرية، فكل معلم من المعالم يقود إلى معلم آخر بانطواء المسافات.

الحجم الكلي للمدينة، علاوة على تساوي الواجهات الجميلة المنحوتة، يجعل الزائر في حالة من الذهول الدائم والدهشة الغامرة، ويعطيه فكرة عن مستوى رقي الإبداع والصناعة عند الأنباط الذين جعلوا من البتراء عاصمة لهم، واستطاعوا تأسيس شبكة محكمة من طرق القوافل التي كانت تحضر إليهم التوابل والبخور والتمر والذهب والفضة والأحجار الثمينة من الهند والجزيرة العربية للإتجار بها غربًا. ونتيجة للثروة التي حصلوا عليها، قاموا بتزيين مدينتهم بالقصور والمعابد والأقواس، لكن العديد منها التي تم بناؤها قد اختفت، إلا أن العديد الذي تم نحته في الصخر، كالخزنة والأضرحة والمذبح العالي، لا يزال قائمًا حتى هذا اليوم في حالة سليمة وكاملة وممتازة لدرجة تشعرك بأنك قد دخلت في آلة زمنية أعادتك إلى الوراء.

سحر البتراء يثير الحواس

إن البتراء مكان ساحر يأسرك ويثير حواسك، كما أن حجمها الساحق وبنيتها الغنية وبيئتها المذهلة تخلق جميعها مشهدًا يبدو من المستحيل وصفه. وحالما تنطلق من بوابة مدخل المدينة يبدو الوادي رحبًا ومفتوحًا. إن هذا القسم هو مدخل ضيق يعرف بباب السيق. وأول ما تمر به هو مجموعة الجن، وهي عبارة عن مجموعة من ثلاث مكعبات صخرية تقف إلى اليمين من الممر. ولدى عبور المزيد خلال الشق يرى الزائر ضريح أوبيليسك المنحوت في المنحدر الصخري.

في لحظة يتحول الممر من عريض إلى فجوة مظلمة لا يتجاوز عرضها عدة أقدام. وفجأة وعلى بُعد عدة خطوات تحصل على أول رؤية لأروع إنجاز للبتراء وهي الخزانة، فخر البتراء حيث تشع منها البهجة، فهي بناية من قطع الصخر الصلبة ذات واجهة وردية، وهي الأكثر جمالاً ويعتقد بأنها بنيت لتكون القبر الملكي. فالخزانة هي الأعجوبة الأولى للبتراء التي يراها الزائرون وهم يعبرون السيق حتمًا، أيضًا هي من أم الخلفيات المستخدمة كثيرًا عند مخرجي ومنتجي الأفلام العالميين، كما حدث في سلسلة إنديانا جونز السينمائية وأفلام الحملة الصليبية الأخيرة.

الخزانة المنحوتة في الصخر التي تبدو للعيان تحت أشعة الشمس متوهجة كبرق سماوي. وعند أعرض نقطة في خارج السيق، يوجد أخدود باتجاه الجنوب. ثم يأخذك الممر إلى أعلى نقطة في الموقع وهي الموقع النبطي الأثري لتقديم القرابين، أو المذبح المنحوت في الصخر. إن رؤية البتراء من ذلك العلو يعتبر أمرًا جديرًا بالاهتمام. وبعد المذبح يتجه الزائر إلى معبد الحديقة. هنالك يوجد صفان من الأعمدة مصطفان أمام بقايا معبد. ولدى المسير أكثر يمر الزائر بشق جداري قبل الوصول إلى معبد الجنود الرومانيين والتريكلينيوم.

كما يوجد في البتراء العديد من المواقع المقدسة.. فعلى القمة التي تذروها الرياح كان الأنباط يمجدون آلهتهم في ذلك المكان العالي المسمى بالمذبح، وفي المنطقة المعروفة بشارع الوجوه، يمكن مشاهدة العديد من الأطلال النبطية، وينعطف السيق الخارجي انعطافات حادة نحو الشمال ويؤدي إلى المسرح الروماني المبني على الطراز الروماني النموذجي، ويسع حوالي سبعة آلاف شخص، وما زال في حالة صلبة وجيدة، بالرغم من أن أجزاء كثيرة منه متآكلة، وفي الطريق القريب منه توجد واجهات عالية، هي واجهات للقبور الملكية.

إن قصر ابنة فرعون يبين أن الأنباط كانوا قادرين على بناء مبانٍ منفصلة. وعبر قصر ابنة فرعون هنالك درجات تقود إلى متحف البتراء الذي يضم مجموعة صغيرة من أفضل التذكارات، ويعتبر الدير ثاني المواقع المهمة والمدهشة في البتراء، ومن أجل الشعور بضخامة البتراء والقوة الهائلة للصخور، فإن الرحلة تعتبر ضرورية، ويوجد في البتراء العديد من الفنادق التي تستضيف السياح الآتين إليها مثل فندق الأنباط وفندق الموفنبيك وفنادق عديدة أخرى.

إن هذه المدينة الأثرية في جنوب الأردن محاطة بسحر المكان، وغموض يكتنف جنباتها. إن البتراء الساحرة تناديكم وتأمل بترجمة الحملة الوطنية التي أطلقتها وزارة السياحة والآثار وهيئة تنشيط السياحة، لحشد الدعم للتصويت إليها بمضاعفة التصويت باعتباره انجازًا وطنيًّا أردنيًّا مهمًّا وكبيرًا، خاصة أنها تنافس معالم أثرية وسياحية في بلدان ذات كثافة سكانية كبيرة جدًّا، كسور الصين العظيم وتاج محل في الهند.

إن من يرى البتراء ينبهر بعمل النحّاتين القدماء الذين عدّلوا الجبال والصخور وتحدوا الطبيعة القاسية بعمل يدوي بحت دون تكنولوجيا متقدمة تساعدهم، حتى الحجر الرملي ذو الطبقات المصقولة، تم تخطيطه بشكل حرفي نادر ليقاوم الريح والوقت، إنها تجربة إلهام وإبداع ذات إعجاز خرافي رهيب، حقًّا إنها صورة جالبة للخيال، بل ساحرة للبصر.

 المراجع:

  • أعداد مختلفة من مجلة منظمة الأمم لمتحدة للعلوم والتربية والثقافة (اليونسكو).
  • مطبوعات وزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة الأردنية.
  • بعض مواقع الإنترنت مثل موقع تراث منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة.