إن أول دعائم التربية المثالية للأطفال هو تهيئة الجو والبيئة المناسبين للقيام بذلك، فالشخصيات تتكون في الأعم الأغلب وفقًا للوسط الذي تنشأ فيه وتترعرع. والإنسان ابن بيئته شاء أم أبى، والبيتُ في صدر القائمة التي يتشكل منها هذا الوسط والبيئة، ثم تأتي من بعده في الترتيب المدرسةُ ثم الأصدقاء ثم زملاء المدرسة وما بعد ذلك من عناصر الحياة الاجتماعية؛ كالبائع في السوبر ماركت والحلاق والخياط والسائق.
فإذا لم نعمل على ضبط هذا المحيط الاجتماعي الذي يتجول فيه الطفل ويدور، ولم نجتهد في تطهيره؛ فلا مهرب أو مفر من حتميّة إصابته بالفيروسات يومًا ما، لأن فساد الظرف سيتمخّض عنه فساد المظروف.. ولذلك فمن الواجبات الأولية علينا أن نهيئَ الجو المناسب ونطهره ونعدّه لتربية أبنائنا تربيةً مثالية، فنبدأ بتطهير البيت من العناصر المتعارضة مع الفطرة ومع قيمنا المجتمعية، ثم ننتبه إلى كل الجوانب المجتمعية التي تعتبر جزءًا من البيئة التي تحتضن أطفالنا، لأننا إن لم نفعل ذلك وتهاونّا إلى أن غزت الفيروساتُ أذهان أبنائنا وشوّهت فطرتَهم وذوقهم، فلن نستطيع بعد ذلك تصحيح المسار وإعادةَ الأمر إلى ما كان عليه.
جاء في حديث شريف: “افتحوا على صبيانكم أول كلمة بـ “لا إله إلا الله“(1)، وهذا يعني تهيئة الأطفال وتحضيرهم وتجهيز البيئة لهم بما يتناسب مع قيمنا الدينية من توحيد للخالق جل جلاله.
لا جرم أن أول كلمة تخرج من أفواه الأطفال غالبًا هي “بابا” أو “ماما” ولا حرج في ذلك، فهم يقولونها بالتلقين دون فهم، ولكن علينا أن نعمل على أن تكون أول كلمة تنبس بها شفاههم عن قصد وإرادة وإدراك وفهم، هي لفظ الجلالة “الله”، لأن الله هو الأول فلا شيءَ قبله، والآخر فلا شيء بعده، وهو القديم الباقي، الأزلي الأبدي، ثم بعد ذلك ندندن مع الطفل ونبني له شخصيته وخياله وتفكيره، ونُشبِعُ ذهنه بما يتناسب مع هذا المبدإ الأصيل، ونرفده بالمصطلحات والقصص والمفاهيم والقواعد المتناسبة مع سنّه ونموّ إدراكه. فمن الطبيعي أن الجرعات التي تُعطى للطفل في سن الابتدائية ليست هي التي تُعطى لمن هم في سن الإعدادية أو الثانوية، ففي الابتدائية التلقين ثم في الثانوية نعلّمهم الأدلة والبراهين العقلية التي تشفي تساؤلاتهم وتستجيب لمحاكماتهم العقلية. وهذا كله شريطةَ ألا يتخلّى البيتُ عن أجوائه المشحونة بحب الله ورسوله وتوقيره لهما.
لا يقصد النبيُّ من خلال الحديث السابق، مجرَّد أن يتلفّظ الطفل أو ينطق لفظ الجلالة “الله”، ولكنه يقصد أن تكون البيئة الحاضنة قد جهّزت نفسها لرعاية هذا الطفل ابتداءً باسم الله، وأن يترعرع الطفل في هذه البيئة وهو يتشرب الفطرة الصحيحة التي تدلّه على أن الله معه ويراه كيفما كان وحيثما استدار.
فالبيتُ الذي لا تخلو منه الأذكار، ولا يُفارقه ذكر الله، واستنارت أركانُه وزواياه بالركوع والسجود لله، وجاشت فيه العواطف وانهمرت فيه الدموع حبًّا لله ورجاءً وخشيةً.. يُتوَقّع للطفل المترعرع فيه أن تكون أول كلمة تجري على لسانه هي كلمة “الله”؛ لأن كل ما في هذا البيت يُشير إلى ذلك.
علينا أن ننظر إلى الأسرة على أنها مؤسّسةٌ قائمة على روح الدين، تتّخذ من مرضاة الله سبحانه وسيلةً للمحافظة على بقائها واستمرارية حيويّتها. وفي هذا الصدد أخبرنا النبيٌّ صلى الله عليه وسلم بأن أمثال هذه الأسر ستكون مثار فخر بالنسبةِ له فقال: “تناكحوا تكثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة“، فإن كانت الأسرة والأجيالُ لا تعرف شيئًا عن الله ورسوله، ولم تسبح في فلك محبتهما وتوقيرهما، فلن تكون مدعاة للفخر بالنسبة لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تكتسب أيَّة قيمة عند الله جل جلاله، ولا عند رسوله صلى الله عليه وسلم مهما ازدادَ سوادُها وتكاثرت أعدادها.
إن كثرة العدد ليست مطلوبة لذاتها، وها هو القرآن الكريم في شواهد عديدة يُثبت ويبيّن أن الأسبقية والأهمية لا تكمن في كثرة العدد، ومن ذلك قوله جل شأنه:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة:25).
يوم “حنين” هو ذلك اليوم الذي شنَّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحرب على “هوازن وثقيف”، وهي أول معركة يخوضها النبيُّ مع صحابته بعد فتح مكة. لقد كانت أعداد الجيش الإسلامي فيها كثيرة وكبيرة لدرجة لم يعهد مثلها المسلمون من قبل. فقد كانوا قبل تلك الوقعة قد اعتادوا دائمًا على محاربة المشركين بأعداد أقل من أعداد المشركين، لكنهم اليوم -ولأول مرة- يتفوّقون على العدوّ من حيث العدد، فقال الصحابة في أنفسهم “إنما كنا من قبل نقاتل الكفار ونحن أقل منهم في العدد فنغلبهم وننتصر عليهم، ونحن اليوم أكثر منهم عددًا وعدّةً، فالنصر حليفنا لا شك في ذلك، ومن دون جهدٍ أو تعب”، وهذا هو المقصود بقولهم “لن نُغلَب اليوم عن قلّة”.
لكن المتتبع لسير الأحداث في المعركة، سيجد أن جيش المسلمين عندما اغتر بكثرة عدده ما إن حمي وطيس المعركة ودارت رحاها حتى أصيب بصدمة مُرْبِكة مؤقتة فتراجع متبعثرًا، وتشتّت الجيشُ وفرَّ كثيرٌ من الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصمد أحدٌ في المواجهة سوى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بضعة نفر لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.. وكان النبيُّ ثابتًا راسخًا لم ينهزم أو يفر، بل كان يقول بكل ثقة وطمأنينة ورباطة جأش:
أنــا النــبــي لا كـــذب | أنا ابن عبد المطلب |
لقد أطلق النبي نداءاته المتكررة للجيش المتبعثر المهزوم بأن يستجمع قوته اعتمادًا على الله لا على الكثرة، فبدأ النبي ينادي ويقول: “إليّ عباد الله أنا رسول الله”، فكان أول من أجاب النبيَّ عمُّه “العباس”، ففرح لأن العباس كان صوته عاليًا. فقال له النبي: “نادِ عليهم يا عباس”، فقال: ماذا أقول؟، قال النبي: “قل يا أصحاب بدر“، فبدأ المسلمون يتجمّعون حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عددهم 66 من الأنصار و33 من المهاجرين.
لقد أراد النبي ذلك الإنسان الجوهر الذي قاتلَ يوم بدرٍ وهو أقل عددًا وعدة، لكنه أعلى في الاستعداد والماهية، فجاءت النداءات المتكررة من خلال العباس بن عبد المطلب إيذانًا بزوال أهمّية الكمّية والالتفات إلى أهمية الكيف والماهية. وبالفعل فقد بدأ الجيش الإسلامي المتبعثر يتجمع شيئًا فشيئًا، ويستجيب للنداءات المتكررة والتوجيهات التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. إلى أن عادت الغلبة لجيش المسلمين وكتب الله لهم النصر المؤزر. وكانت تلك الهزة بمثابة درس مهم ثبَّت وأكد لديهم أن كثرة العدد ليست شيئًا مهمًّا لهذه الدرجة، إنما الأهم هو العمق والكيفية وسعة الأفق.
لقد كان هذا الأمر بمثابة هزّة عنيفة بالنسبة للصحابة، وهم رضوان الله عليهم كانوا من المقرّبين، والهزّة أو الرجّة والتشتت والتراجع المؤقت قد يُعدّ ذنبًا بالنسبة لهم وليس لنا، إذ “حسناتُ الأبرار سيّئاتُ المقرَّبين”. فثبّتَت هذه الهزة في قرارتهم أن الميزان هو الكيفية والعمق الداخلي، وليس الكمية أو العدد الخارجي، والعبرة بالكيف لا بالكَمّ.
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:100).
قد يكثر الخبث والخبثاء حدَّ الدهشة، ولكنه لن يستوي مع الطِّيْبِ والطيبين أبدًا، فلنهتمّ بتربية النشء والذرية التي تذكّرنا بالجنة بروائحها المعنوية التي تنثرها هنا وهناك، ولنهتم بهؤلاء الأجيال، ونعمل على تهيئة البيئة المناسبة لهم ولنهتمّ ببناء ذاتهم أكثر من اهتمامنا بكثرة أعدادهم.
علينا أن نعلم أن “الكثرة” في الذرية الفاسدة تفتح على رأس صاحبها سلسلةً من حلقات الهاوية نحو الحضيض، وما من حلَقةٍ إلا والتي بعدها أشأم منها. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التسلسل فقال: “كيف بكم إذا فَسَق فِتْيانكم، وطغى نساؤكم؟” قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لَكائنٌ؟ قال: “نَعَمْ، وأشدُّ منه، كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟” قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائنٌ؟ قال: “نَعَمْ، وأشدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفًا، والمعروفَ منكَرًا؟“(2).
هذا يعني أن الإكثار من الأولاد الفاسقين لا يرجى منه أيُّ فائدة، وأنَّ الغاية الأسمى هي تنشئة جيل مفعم بالإيمان، راسخ الإرادة، متماسك مادّيًّا ومعنويًّا، ذي بصيرة قويّة تحتقر الدنيا بوجوهها الجسمانية والنفسية، هذه صفاته ومؤهّلاته حتى لو كان عدده قليلاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأممُ أن تَداعى عليكم كما تَداعى الأكَلَة إلى قصعتها“، فقال قائل: ومِن قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا، وكراهية الموت“(3).
فأيُّ مجتمع يعتبر الجوانبَ الجسمانيةَ للدنيا مقصودةً لذاتها، فيحبّها ويتّجه بقلبه وروحه إليها، ويغمض عينيه عن ضرورة العمل في سبيل مرضاة الله وينسى الآخرة.. فيفضّل الدنيا وما فيها على الله تعالى، ويفضل المادة على المعنى، فلا يمكن اعتباره مستقيمًا حتى وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله.
فليس المعيار في الصواب والخطإ هو القلة والكثرة، وكما يقول ابن القيم: “عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين”.
ليس المهم هو كثرة العدد بغض النظر عما يحملونه من شمائل وصفات وخصال، وإنما المهم هو ما تكتنزه شخصياتهم من الفضيلة والطهر، وما تتمتّع به أرواحهم من الصفاء والنقاء، وفي هذا يقول البُستيُّ في نونيّتِهِ:
يـا خـادمَ الجـسمِ كـمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ | أتَطلُبُ الرِّبْـحَ فيما فيه خُسـرانُ! |
أقْبِلْ على الروح واسْتكمِلْ فَضائِلَها | فَأَنْتَ بالروح لا بالجسمِ إنسـانُ |
نعم لقد أراد النبيُّ الكثرةَ، ولكنه أرادها بالتوازي مع الكيفية، وعندما يزيد العدد دون تربية صالحة يأتي التحذير النبوي من الكثرة التي لا قيمة لها “أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل” أيْ لا قيمة ولا وزن.
(*) كاتب وباحث سوري.
الهوامش
(1) البيهقي، شعب الإيمان، 6/398.
(2) عبد الله بن مبارك، الزهد والرقائق، 484؛ أبو يعلى، المسند، 11/304.
(3) سنن أبي داود، الملاحم، 5؛ مسند الإمام أحمد، 37/82.