إذا كان اعتبار المآل قد اصطبغ بصبغة أصول الفقه فظهر كأنه منهج مقصور على النظر في خطاب الشارع بقصد تنزيله على محله، فإن النورسي منحه صفة العموم والشمول فجعله منهجًا في الحياة كلها، وظهر عنده -خاصة- في جانب التربية وترسيخ الإيمان والسلوك، بالإضافة إلى فروع الشريعة من العبادات والمعاملات.
اعتبار المآل في فقه الخطاب الشرعي وتنزيله على محله
إن النورسي ممن يرى أن الأفعال التي تنزل في درجتها عن الوجوب إلى الندب، وخاصة إلى الإباحة، لا بد فيها من اعتبار الآثار التي سيؤول إليه العمل بها ولا يقتصر على ما يترتب في الحال. وهذا يختلف باختلاف مراتب المكلفين وأحوالهم، وما يختلف بهم من الظروف. وهذه القاعدة لم يفصح عنها النورسي صراحة في شكلها النظري، وإنما تستنبط من تصرفاته وما اختاره في مسلكه في العلم والدعوة والسلوك والتربية. وأظهر مثال على ذلك ما اختاره من حياة العفة والكف عن الزواج مع تنصيصه على سنيته، ثم منع تعميم هذا الحكم على غيره. ووجه ذلك أنه -رحمه الله- وضع لنفسه هدفًا عظيمًا، ومقصدًا ساميًا جمعه في إنقاذ الإيمان وإظهار حقائق القرآن. ثم رأى أن بلوغ هذه الغاية عسير، لأن دونها حواجز كثيرة ومعوقات كثيفة. فكيف يخلص إلى غاية عظيمة هي قوام أمة كاملة، وخصومها قد جمعوا العدد والعدة وأحكموا القبضة على البلاد والعباد، وجردوا حملات ووقفوا أموالاً لتزيين الباطل ونشر الإلحاد، ونصبوا المشانق لمن خالف سبيلهم؟ وكيف السبيل إلى ذلك والأمة في ركود فكري وسياسي؟ فهذه هي الظروف التي حفت بالنورسي وهو يضع غايات في حياته.
فبعد طول نظر وتأمل وتفكير رأى أن هذه الغاية لا تنال إلا بالتضحية والصبر والمصابرة وركوب المعاناة. وفي إعداد نفسه لهذه المعاناة، رصد كل ما يمكن أن يكون سببًا لانكسار المرء أمام معاناة الحياة، أو سببا لغياب الإخلاص عنه، فظهر له أن التعلق بالدنيا ومحبتها والتنعم بأذواقها، مما يسجن النفس ويضعفها عن المقاومة والمغالبة وينال من صفاء الإخلاص. ولهذا حمل نفسه على التجرد من نعيم الدنيا فاختار طريق العفة في أقوى درجاتها فلم يقبل حتى الهديّة. ثم رأى أيضًا أن محبة الأهل والأولاد والحدب الأبوي عليهم مما يحمل على ذلك، فوضع لنفسه حكم الكف عن الزواج. ومما يدل على هذا أن هذه المسألة كانت حاضرة عنده دائمًا، فكان كلما وجد نفسه مسجونًا أو منفيًّا، يحمد الله على صحة مسلكه، لأنه ليس له من الدنيا ما يتعلق به ليداري ويداهن من أجل بقائه.
أما من حيث العمل للقرآن، فلقد وهب لي الله عز وجل إخوانًا ميامين في العمل للقرآن والإيمان، وستؤدى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلاً من مركز واحد.
وفي وجه امتناعه عن الزواج قال: “في الوقت الذي يلزم -لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة- فدائيين يضحّون بكل ما لديهم، قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم.. فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي، ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطرة إلى التخلي عنهن جميعًا لأجل تلك الحقيقة؛ حقيقة القرآن.. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد -لصدها- من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.. لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض، إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة”.
ويعلم النورسي أن هذا المسلك قد يلقى من يعارضه بدعوى مخالفته للشريعة، ولهذا أورد من الأدلة ما يجعل هذا المسلك من روح الشريعة. من ذلك أن تاريخ المسلمين يشهد على عمل كثير من علماء الإسلام بمنهج اعتبار المآل في الأعمال خاصة في قسم المباح، فكفوا عن المباحات من الدنيا وكفوا عن الزواج. وإن من كان في مثل مقامه خاصة فيريد أن يكون دليلاً على الله في مثل زمانه، لا يعتبر خارجًا عن الشريعة إذا كان قصد مثل قصده.
وليس هذا عنده مسلكًا عامًّا، إنما هو استثناء من الحكم الأصلي بحسب مقام الشخص وأحواله. ولهذا ينبه طلبته خاصة لهذه القاعدة في قوله: “لا نقول لطلاب النور: تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين، ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألا يربط نفسه بحاجات الدنيا -قدر المستطاع- في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغًا إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم. وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت، إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن. ولله الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضًا، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام”.
اعتبار المآل في التربية والسلوك
يبقى مجال التربية والسلوك، أبرز مجال أعمل فيه النورسي هذا الأصل. وقد اهتدى النورسي إلى ذلك من خلال تدبره لآي القرآن الكريم، وطول تفكره في أحوال الكون والإنسان.
فمن القضايا التي أخذت بعقله وسيطرت على تفكيره مسألة الزمان. فالزمان قيد تخضع له كل المخلوقات، فالإنسان والكون بجميع أجزائه الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يجري عليه الزمان ضرورة، فهو تحت سلطانه اضطرارًا. ومن آثار ذلك نفاذ الزوال إليها وجريان الفناء عليها. ومعنى هذا، أن الحياة حلقات متوالية يؤدي بعضها إلى بعض، ويتوقف بعضها على بعض، وإن حياة الإنسان تدل على هذا بوضوح. إن أحوال هذه الدنيا لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الإنسان بهذا السؤال: “إن جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في أيدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن أن يحل البقاء بهذا الفناء؟!”.
فالعمر ليس على صفة واحدة، وإنما محطات متسلسلة تؤدي كل منها إلى التي تليها ضرورة. فالطفولة تؤدي إلى الشباب، والشباب إلى الرشد، والرشد إلى الكبر، والكبر إلى الهرم، ولا يعقب الحياة إلا الموت. فلماذا لا يتخلف الترتيب ولو مرة واحدة أو عند شخص واحد على الأقل؟ إنه قانون مطرد قطعًا، لأنه من آثار اسم الله المحيي، واسم المميت، واسم القهار، وغيرها من أسماء الله الحسنى التي من آثارها حركة التجدد في الكون في كل لحظة.
والفائدة التي أقامها النورسي على هذه الحقيقة في مجال التربية والسلوك، هي أن كل لحظة من لحظات حياة الإنسان تتوقف في صفتها على استحضار المكلف للحظة التي تؤول إليها. فليس سواء في الحال والسلوك من يحيا مستحضرًا مستقبل أيامه ومن يحيا غافلاً عنه.
ولهذا فإن مآلات الأحوال ومستقبلات الأيام والحياة ملك على النورسي أقطار نفسه وتفكيره، فكان مستحضرًا لها مستشرفًا لتفاصيلها.. فكثيرًا ما تجده يتحدث عن المآلات كأنه يراها في شاشة معنوية منصوبة أمامه، وأحيانا ينتقل بنفسه وبالقارئ معه في سفر خيالي إلى بعض محطات المستقبل فيستشرف كل التحولات ويصور جميع الصفات التي تؤول إليها الأحوال. فالقوة مآلها الضعف، والغنى مآله الفقر، والشباب مآله الهرم والشيخوخة، وجمال الصورة مآله قبح الهرم، وفتوة الجسم مآلها العجز، والحياة مآلها الموت، والوجود مآله الزوال، والحياة الدنيا مآلها الفناء، والدار الدنيا كلها مآلها ومنتهاها إلى الآخرة.. فالدار الآخرة -إذن- غاية كل شيء ومستقبل كل مخلوق، وكل مستقبل من هذه المستقبلات إنما هو اقتراب منها وإيذان بدنوها.
والغرض المقصود من هذا أن يحصل الجمع في التفكير بين الحال والمآل، فالوقوف عند الحال وحده قصور. فعلى هذا النحو، تحدث النورسي في رسائله عن الإنسان والحياة، فلا يذكر الشيء إلا مقرونًا بمآله، ولا اللحظة من الحياة الخاصة للفرد المكلف أو للحياة العامة في الكون إلا مستحضرًا مآلها، لما في ذلك من التربية للمكلف.
من ذلك -مثلاً- أنه لما كان في السجن، دخل في لحظة تفكير عميق يتأمل فيها شاشة معنوية أوحت له بها مشاهد الشباب، يقول: “كنت في أحد أيام عيد الجمهورية جالسًا أمام شبّاك سجن “أَسْكي شَهير” الذي يطل على مدرسة إعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأة على شاشة معنوية ما يؤول إليه حالهن بعد خمسين سنة، فرأيت أن نحوًا من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة، يتحولن إلى تراب ويعذبن في القبر، وأن عشرة منهن قد تحولن إلى عجائز ذميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنّ يتوقعن منهم الإعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن أيام شبابهن.. نعم، رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخنًا أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فأسرعوا إليّ مستفسرين، فقلت لهم: “دعوني الآن وحالي.. انصرفوا عني”. أجل، إن ما رأيته حقيقة وليس بخيال، إذ كما سيؤول هذا الصيف والخريف إلى الشتاء، فإن ما خلف صيف الشباب ووراء خريف الشيب، شتاء القبر والبرزخ. فلو أمكن إظهار حوادث ما بعد خمسين سنة من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفائتة -بجهاز كجهاز السينما- وعرضت حوادث أهل الضلالة وأحوالهم في المستقبل، إذن لتقززوا ولتألموا ولبكوا بكاء مرًّا على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرّمات في الوقت الحاضر”.
وتحت هذا الأصل، حمل المصائب التي تنزل بالإنسان على أنها من رحمة الله، لأنها تحمل المبتلى على التفكر في المآل واستحضار المستقبل، وإن العافية قد تكون بلاء وفتنة لما تسببه من توهم الأمن والسلامة فتحصل الغفلة عن المآل وينسى المستقبل. فعن المرض والصحة قال مخاطبًا المريض: “إن قسمًا من أمثالك، يزعزعون حياتهم الأبدية بل يهدمونها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لمضيّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة، ناسين الموت، وغافلين عن الله سبحانه وتعالى. أما أنت فترى بعين المرض القبرَ الذي هو منزلك الذي لا مناص من الذهاب إليه، وترى كذلك ما وراءه من المنازل الأخروية الأخرى، ومن ثم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضك -إذن- إنما هو بمثابة صحةٍ لك، والصحة التي يتمتع بها قسم من أمثالك إنما هي بمثابة مرضٍ لهم”.
ومن آثار هذا المسلك أيضًا عند النورسي، أن نعيم الدنيا ولذاتها ليس مقصودًا لذاته، لأنه ليس جمالاً حقيقيًّا وإنما هو لذة متوهمة. ودليل ذلك أنه ليس نعيمًا خالصًا، وإنما مشوب بمشقة العيش وخطوب الحياة، ولأنه زائل فانٍ، وحقيقة الجمال تقتضي البقاء وليس الزوال. ومعنى هذا أن نعيم الدنيا ليس مقصودًا في الحال لأنه غير خالص، ثم لأنه قد يورث عذابًا غامرًا وشقاء سرمديًّا، مثل نزوة يقضي بها لذة عابرة تورث أمراضًا جسدية ونفسية وعقلية، وتؤول إلى عذاب في الآخرة. وليس من الجمال واللذة شهوة يسيرة عابرة تؤول إلى شقاء عظيم دائم. فلم يبق لنعيم الدنيا من مقصد في الحال إنما المقصد منه المآل. فالإنسان في الدنيا يرشح نفسه ويعدها لكمال الجمال وتمام السعادة عند رؤية الله تعالى الجليل الجميل في بحبوحة الجنة، ومن رحمة الله به أن جعل له لذة الدنيا بمنزلة قبس يسير وظل حقير من اللذة من أجل التذكير وفتح الشهية إلى هذا المقام. وهذا هو الوجه المحبوب شرعًا من الدنيا، لأنه يجعل لذات الدنيا طريقًا سالكًا إلى مرضاة الله تعالى، ويجعل الدنيا معرضًا لتجليات أسماء الله الحسنى وإظهار آثارها الجميلة.
ولعل قائلاً يقول: أليس التفكر في هذا المآل له مفاسد لأن فيه شؤمًا من الحياة، والمطلوب التفاؤل وتحريك قوى الإبداع والعمل في الدنيا؟ إن النورسي يسعف في الجواب فيبين أن هذا المشرب وحده هو الذي يورث التفاؤل واللذة ويمنح القوة المعنوية الكافية للحياة. ويكفي من ذلك أن النورسي نفسه بعد أن سلك هذا المسلك، كانت حياته كلها حياة جد وعمل وصبر ومصابرة على تحمل للمعاناة، مع لذة نفسية وروحية غامرة؛ فبعد أن وجد نفسه وحيدًا منفيًّا في “بارْلا”، ممنوعًا من التواصل مع الناس، يعاني آلام المرض والشيخوخة والغربة، يذهب ويجيء في وديان “بارلا” حزينًا وحيدًا، إذا بنور من أنوار القرآن الكريم يعلو قلبه لمّا قرأ قول الله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(القصص:88)؛ ففكر في مآله ومآل الدنيا كلها فوجد اللذة والسلوان، قال رحمه الله:
“أجل، رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة.. رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمسًا وخمسين سعيدًا ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة. الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جدًّا -كالنملة- يدبّ على وجهه في هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام. أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي -بسرّ هذه الآية الكريمة- موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(التوبة:129)، وأمدني بنور لا يخبو فبدد ما كنت أعانيه من الحزن، واهبًا لي التسريَ والتسلي الحقيقي. نعم، لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه ما دام الله عز وجل موجودًا، فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقيًا، فهو كافٍ عبده. وإن تجليًا من تجليات نوره العميم، يمنح تلك الجنائز الثلاث، حياة معنوية أيما حياة، بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر”.
استشراف المستقبل
ومن منهج النورسي أيضًا، استشراف المستقبل عن طريق التدبر في أحوال الحاضر وتحكيم سنن الاجتماع وقوانين المعاش، ومحاولة الاهتداء إلى ما تؤول إليه الأحوال. ففي غمرة التحولات التي حصلت في الدولة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين من إعلان الدستور ورفع شعار الحرية، كان للنورسي نظر دقيق، إذ انتهى إلى أن هذا التحول إنما هو سير نحو العلمانية؛ لأن الحرية في ظل تلك الظروف، لا تعني سوى شيئًا واحدًا هو التحلل من الدين. ولهذا، أعلن عن نتيجة نظره فقال مستشرفًا مستقبل العالم الإسلامي ومستقبل أوروبا بالنسبة لعصره:
“كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة، ويقول لهم مكررًا: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية.. حتى إنه في السنة الأولى من عهد الحرية، سأل الشيخ بخيت -مفتى الديار المصرية- سعيدًا القديم: ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوربائية؟ فأجابه سعيد: إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلد يومًا ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلام وستلد يومًا ما”.
وبالنسبة لحركة الإصلاح في العالم الإسلامي، فإنه من خلال نظرة فاحصة يحكمها الإنصاف والتجرد عن العواطف، رأى أن الركود الفكري والعلمي والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي في عصره، أكبر من أن يتم إصلاحه في ظرف وجيز، فخلص إلى أن التغيير المنشود لن تكتحل عينه برؤيته وشهوده، فخبر حال عصره، ووضع نفسه موضعها، وجعل غايته أن يبذر بذور الربيع، أما نموها واستواءها، فذلك ليس له وليس مما ينال في زمنه أو قريب منه، لكنه آت، لأن زمانه زمان الغرس وسيأتي الحصاد في زمانه، لكن لا حصاد من غير غرس.
ومن حكمة النورسي وعمله بمنهج المقاصد والغايات، استشرافه لمستقبل دعوته ومآل فكره ورسائله التي تفانى في نشرها هو وطلبته. فقد خبر -رحمه الله- طلبته فرأى شدة محبتهم له وقوة تعلقهم برسائل النور بسبب ما وجدوا فيها من السلوان الفكري والروحي، وآنس منهم حسن الخلُق وعلو الهمة والتفاني في أنوار الهداية القرآنية التي أشربتها قلوبهم من خلال رسائل النور، ورغبتهم الشديدة في نشرها وتبليغها. ومن خلال كل ذلك تصور مآل دعوته ورسائله بعد موته، وهو ما عبر عنه بقوله: “أما من حيث العمل للقرآن، فلقد وهب لي الله عز وجل إخوانًا ميامين في العمل للقرآن والإيمان، وستؤدى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلاً من مركز واحد. ولو أسكت الموت لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلاً عني وتديم تلك الخدمة.. فآمل أن يكون موتي -كذلك- وسيلة لخدمة القرآن أكثر من حياتي”.
(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير / المغرب.
المراجع
(1) كليات رسائل النور (الملاحق، الكلمات، الشعاعات، اللمعات،
المكتوبات)، دار النيل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.