يقول رب العزة جل جلاله في سورة السجدة الآية 7: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)؛ آية يظهر من خلالها تصورًا شموليًّا لموضوع الجمال: (الَّذِي أَحْسَن كُلَّ شَيْءٍخَلَقَهُ)، والدافع لوجوده: (وَبَدَأَ خَلْق الْإِنْسَانِ مِن طِينٍ). والجمال كالخير والحق يفهم من خلال الفعل ومقاصده، ولا يمكن التطرق له إلا من خلال التوصيف لهما. فمن خلال الآية المذكورة يمكن استشفاف ذلك، بحكم أن الحسن والجمال هو في فعل “خلق كل الأشياء”. ومن ثم فكل الموجودات -الماضي منها والقادم- هي صورة من صور هذا الجمال، تمهيدًا وإيذانًا، ومن أجل ظهور أرفع الصور منه وهو “خلق الإنسان”.
هذه صورة يمكن إسقاط دلالاتها على الفعل الإنساني جملة وتفصيلاً؛ فهذا المخلوق في بحث دائم عن تجليات الجمال المكنون في صورته وباطنه من خلال الأداء الإبداعي (العمل الفني). ويمكن القول بأن هذا العمل الفني هو صورة أو واحد من المقاصد في الشريعة السمحاء، ووجوب وجوده في حياة هذا الإنسان، ما هو إلا تجلّ وانعكاس للصورة الأولى التي أودعها الخالق في مخلوقاته، والإنسان أرفعها والقادر على إعادة إنتاجها بأوجه عدة.
استشفاف الجمال الركيزة الفكرية الأولى والأخيرة المؤطرة لأداء الفنان، وخاصة في منظومة “الفنون الإسلامية” (بحكم أن الإسلام على رأس الهرم في الجدلية التاريخية للأديان). فالله سبحانه وتعالى هو الأصل والمنطلق فعلاً وقصدًا، فهو الجمال وخالق الجمال، ثم إن الجلال المتصف به مطلقًا هو أرفع صور الجمال، وإذا كان التشريع في الإسلام من جهة قد حرم تصور الذات الإلهية كصورة مادية: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى:11)، فقد أجاز للإنسان التطلع لتجلياتها الجلالية وصورها الجمالية، من خلال مدخلات متعددة يمكن إجمالها في:
• الاتصاف والتأسي بصفاته وسبر غور أسمائه الحسنى، وتقييد النفس بها قولاً وعملا. ويتجلى هذا في المعيش اليومي للإنسان في معاملاته وعباداته.
• مراعاة كون أن ما في الوجود من شيء إلا وقد سخر لهذا الإنسان، ويتمظهر هذا في إلزامية التعايش مع المحيط المعيشي بالتقدير ومراعاة الحاجيات المتبادلة.
• العمل والأداء الإبداعي للترسيخ القطعي للحب الإلهي للجمال، وهو في شقين اثنين:
1- العمل عبادة.
2- الجمال وسيلة وليست غاية.
فقد ورد في كتاب “بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار” من تأليف الشيخ “عبد الرحمن بن ناصر السعدي”؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال” (رواه مسلم).
في إطار الفنون الإسلامية، من في الإنسانية يمكن تقييده بما سبق؟ إنه حتميَّا الإنسان/الفنان (الممسك بالعملية الإبداعية)، فهو الوحيد الذي يمكنه إظهار الجمال من خلال ما يتمتع به من تراكمات المعرفة بمواد الاشتغال، وأساليب الاشتغال بها. بالإضافة إلى توظيفه لحواسه المتمثلة بالبصر، والشم، والتذوق، واللمس، والسمع.. توظيفًا كاملاً غير منقوص، وتمتعه بقدرة الإحساس بالحركة ومعرفة التوازن. وهذا ما سمح له في أدائه (إبداعاته) بالبعد عن المحاكاة أو محاولاتها، وهي أصلاً شيء مستحيل، يقول تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(لقمان:11)، والتوجه الشامل شكلاً ومضمونًا، إلى البحث عن كيفية تجلي جلال الذات الإلهية، من خلال الوسيلة الذاتية في العمل الفني وهي “الجمال”.
إسقاطات فعل الخلق على فعل الإبداع
من هنا وبعد هذا العبور التأملي الذي رأيته واجبًا في حق مصطلح “الخلق” ما له وما عليه في فاتحة هدف هذه القراءة بين “تجليات فعل الخلق” و”ما يصنعه المخلوق”، أرجع لعملية إسقاط مدخلات الشق الأول على مخرجات الشق الثاني في هذه المنظومة المعرفية، والتي هي -في حد ذاتها- مدخلات العمل الفني (صور الاشتغال بالطين) لإخراجه في صور متعددة يمكن أن نسميها “صنائع الطين”.
من آيات الاستقراء السالفة، يمكن تشكيل جملة معرفية مترابطة بين المصطلحات فيما بينها، بحكم تسلسل حالة المادة التي يدل عليها كل مصطلح على حدة في الآيات الكريمة، وبين المصطلح وما يقابله في المعرفة العامة للصانع بدلالاته.. فإجمالاً وبالترتيب الملزم، “الأرض” هي مصطلح واسع في تدقيقه، يعتبره الصانع “الأصل الشامل” وهو بالفعل كذلك. ومن ثم يُدرج مصطلح “التراب” وهو “كلمة عامة” كتعيين لمادة الاشتغال المقصودة في الأداء (الإبداع)، ليُدقق المفهوم بالمسمى “طين” (نخبة النخب من كل التراب).. فيكون بذلك قد وضع المتلقي على بداية طريق العبور للعمل الفني، وما سيأتي هي دروب متراكبة توصل للهدف؛ فالطين يصبح”حمأ مسنونًا” (طين وماء) ليتحول إلى”طين لازب” (قابل للتشكيل)، ومن ثم “صلصال كالفخار” (طين محروق)، وهي الصورة النهائية للعملية الإبداعية.
الأرض هي منبع كل الخامات الأساسية للصنائع التي يمارسها المخلوق/الإنسان. أعمل تفكيره وما فطره العزيز القدير فيه من نعمة العقل، فرشد إلى أساليب استخراج المواد، واستنباطها بالخلط والمزاوجة، مستعينًا -في ذلك- بالمراكمة المعرفية والبناء العلمي لتجاربه وخبراته.. ومن مشاهداته وملاحظاته بالإضافة إلى الضرورة الاحتياجية، عرف هذا الإنسان الفرق بين المكونات الأساسية لتركيبة هذه الأرض التي يعيش فوقها.. فهناك صخور وهناك تراب، وكيف يمكنه الاستفادة من كل مكون؛ في البداية صنع أدواته من المكون الأول، ولاحظ قابلية المكون الثاني للتشكيل كذلك بأنماط مختلفة، وما تتيحه له خصائصه الكيميائية من طيف واسع في النمذجة والتصنيع، فكان أن اشتغل على مادة التراب؛ أولاً كمادة يستعين بها في إنشاءاته المعمارية.. ولما تمكن مما يوصله لمعرفة أنواعها معرفة تامة، استقى منها ما أطلق عليه تسمية “الطين” وهي نخبة النخب من أنواع الأتربة الموجودة على الأرض، ليتمكن بها من صناعة أدوات معيشه اليومي، وما يساعده في تدبير تصريفات حياته من أمور المناولة والتخزين وغير ذلك.
الصانع/الفنان، وكما ورد في محكم الكتاب من الآيات السالفة، لا يمكنه الاشتغال بمادة الطين إلا بعد مرورها بمجموعة الحالات الفيزيائية المقررة في الآيات المذكورة. فمن طين مستخرج من الأرض، يعمد الفنان إلى مرحلة خلطه بالماء (الحمإ المسنون) حتى يتمكن من تنظيف مادته من الشوائب العالقة بها، وكذلك لتنتقل من الحالة المتكتلة إلى الحالة الشبه رخوة وذات طواعية، قابلة للتشكيل والنمذجة حسب ما يرتئيه من إخراجات فنية (طين لازب)، وبعد ذلك فمصنوعاته هي “صلصال” و”فخار”.
كما وبخلاف هذا التسلسل المرتبط ارتباطًا وثيقًا بين مراحل فعل الخلق التي ذكرها المولى ، وبين أداء الإبداع لهذا الصانع/الفنان، في التعامل مع المادة الأولية، فهناك كذلك تأسيس لعلاقة وثيقة بين ما تبدعه أياديه وما أوجده الخالق عليه مثمثلاً في الصورة الظاهرية لشكله. فهذا الصانع/الإنسان ومن خلال الآنية الفخارية، هو يعكس هيئته عليها من خلال ما يطلقه من مسميات على تفاصيلها. فمصطلحات “الخزاف” التي يسمي بها تفاصيل الآنية، هي إسقاط لما قد نجده من أسماء في عملية تشريح للجسم الإنساني. فهناك حديث عن الرقبة، الأذن، البطن، الكتف.. إلى آخره من المسميات. وهذا نادرًا ما نجده في الصنائع الأخرى التي تعتمد غير مادة الطين في الاشتغال، مما يجعلنا أمام علاقة وطيدة ووشائج ترابط كلي بين الإنسان/المخلوق، والأرض منبع الخلق، يقول رب العزة: (هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ)(هود:61).
فمن بدائع سر الكينونة في خلق الخلق، ما أودعه الخالق في هذا المخلوق من أسرار، وما جبله عليه بمعرفة التعامل مع المسخرات، وما علمه من فنون وصنائع، وجعل له الأفضلية على سائر مخلوقاته، وكشف له سبلاً يسعى من خلالها للتعرف على ذاته، وبمعرفتها يرتقي درج العلا في القرب منه عز وجل، حيث يقول عز من قائل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(فصلت:53).
(*) كلية الفنون الإسلامية، جامعة البلقاء التطبيقية، السلط / الأردن