وسائط التواصل الاجتماعي في الميزان

لم يتردد ماكس فيبر في الجزم ذات يوم بأن عالم الغد سيكون تقنيًّا بامتياز، وأنه لا يمكن أن تتوقف هذه السيرورة إذا لم تحدث لمة تلم الإنسانية جمعاء، ولم يتردد غيره من الباحثين والمفكرين في الإقرار بأن ما شهده العالم من تحولات تكنولوجية عاتية وتحرير للاقتصاديات وعولمة للمبادلات وتراجع الأيديولوجيات الكلاسيكية قد أدى إلى تحويل هذا العالم إلى فضاء مفتوح مشروع يسوده واقع اتصالي ومعلوماتي مفارق تجري في إطاره المعاملات وتنجز المبادلات وتروج الإنتاجات الاقتصادية والثقافية والفنية.

وتتفق الدراسات والأبحاث السوسيولوجيا والنفسية على فاعلية وسائل الاتصال الجديدة، وخطورة دورها الحيوي في حياة الفرد والمجتمع، فهي لا تكتفي بصناعة الرأي العام وتوجيهه، بل إنها تشترط في بناء شخصية الفرد وتحديد قيمه والتحكم في مواقفه وسلوكياته، ولا سيما إذا كان الفرد لا زال صغيرًا لم يكتسب الخبرة والمعرفة الكافية التي تحصنه إزاء ما يواجهه من أفكار.

وينظر الكثيرون إلى وسائط التواصل الاجتماعية على أنها تحولت إلى ملاذات يحتمي بها الشباب في حين أنها في الأصل كما يرى الكثيرون ومنهم تيودور أدرنو ما هي إلا أدوات لتسويق السلع وترويج البضائع طلبًا للربح الفاحش، وخدمة اقتصاد رأسمالي غايته القصوى المادة وهدفه الأثير المستهلك لا الإنسان.

منذ أن وُجد الإنسان على وجه الأرض وهو مدفوع بشغفه للاستكشاف من ناحية، ومدفوع بشعوره بالخوف والبحث عن الطمأنينة، فكما أن الإنسان أقام السكن المادي ليحمي جسده، فإنه في نفس الوقت يبحث عن الملاذ لعقله وروحه وذلك من خلال البناء الروحي والقيمي لكون الإنسان كائنًا يعيش بالمعنى. ومن هنا فإن الثقافة والأديان والفنون لم تكن نتاجًا فقط لرغبة الإنسان في الاستكشاف والمعرفة، بل كانت استجابة لخوفه من الوجود في عالم لا يُعرف له معنى ثابت ومستقر. ونشأت السرديات الكبرى والقصص والحكايات التي تحاول منذ مرحلة الطفولة إلى رسم صورة للملذات الكبرى، والطرق التي يمكن اتباعها للتعامل مع هذا العالم الواسع عبر الأجيال المختلفة.

لقد شهدت قصة الإنسان مؤخرًا منعطفًا جديدًا أدى إلى تغير النظرة إلى الملاذات الكبرى التي كان الإنسان يلجأ إليها لحماية عقله وروحه، فقد صارت فضاءات التواصل مفتوحة ولا يمكن إغلاقها مع ثورة الاتصالات ونشأ الارتباك في العلاقات بين مختلف الأطراف ضمن ثنائية (نحن) و (هم).

فقد شكلت منظومة الروابط المتينة مثل اللغة والهوية والعادات والتقاليد والعرف والعقائد والموروثات وغيرها ملاذات تلجأ إليها الشعوب والمجتمعات والأفراد، لتستمد منها يقينها والاستقرار والاتزان والضبط في مقابل الانحرافات والاهتزازات التي تتعرض لها مسيرتها من حين إلى آخر. لكن هذا التوصيف يصدق على مرحلة ما قبل ثورة الاتصالات، أما أجيال الاتصال الشبكي التي نشأت في فضاء لانهائي من الانفتاح والتحرر، وتلاشي القيود والحدود، فإنها تبحث اليوم عن ملاذات جديدة تناسب الواقع الراهن وتجاريه.

لقد ثارت أسئلة من قبيل كيف يمكن أن نعيش بدون ملاذانا السابقة؟ وهل هناك ملاذات جديدة؟ وكيف نتعامل مع الآخر؟؟؟ وكلها أسئلة مشروعة في منطقها، وتدعو الإنسان إلى أن يتعلم من جديد كيف يتعايش ويتعامل.

طبيعة وسائط التواصل الاجتماعي:

اشتق مفهوم الميديا لغويًّا من المصطلح اللاتيني Medium، والذي يعني مجموعة التقنيات المستعملة لنشر معلومة أو بث خبر، أو في الدعاية أو التربية وقد شهد هذا المفهوم تطورًا كبيرًا فشاع الحديث عن Mass media للدلالة على الصحافة المكتوبة والراديو والسينما والتلفزيون والأقراص الليزرية، حتى ظهر مصطلح الميديا الجديدة للدلالة على التكنولوجيا الإعلامية الجديدة ثم أدت الرقمية للمكتوب والصوت والصورة إلى دمج كل الميديا التقليدية في شكل واحد Plate form أطلق عليه الملتيميديا.

الآثار الإيجابية لوسائط التواصل الاجتماعي:

هناك العديد من الآثار الإيجابية لوسائط التواصل الاجتماعي، والفوائد على المجتمع الإنساني عمومًا والشباب خصوصًا، وذلك على النحو الآتي:

1-تحقيق الاستقلالية:

ترتبط مرحلة الشباب ارتباطًا وثيقًا بفكرة الفردية، والاستقلالية التي انتشرت في مقابل تراجع مفهوم الجماعة الذي كان سائدًا في الثقافات القديمة، وإذا كانت المدرسة كأحد مؤسسات التنشئة الاجتماعية تسهم في غرس الاستقلال والاعتماد على النفس لدى الأطفال والشباب، فإن الميديا المعاصرة تسمح لهم بالاتصال المتحرر من رقابة الكبار، وتمنحهم فرص الاندماج في تكتلات قد تصير بمرور الوقت أطرًا للاحتجاج والمطالبة والتحول إلى قوة اجتماعية بارزة، وقد ظهر دور وسائط التواصل الاجتماعي واضحًا في الحركات الاحتجاجية ضد العولمة الرأسمالية والتي انتشرت في العالم كله منذ المنتصف الثاني للتسعينيات.

ولقد حاول علماء الاجتماع تفسير هذه الظاهرة وتفسير التحركات الاجتماعية للشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، فذهب جزء منهم إلى النظر إلى الشباب كمجموعة اجتماعية منتظمة، ويحكمها نوع من الانتظام الثقافي الخاص. وذهب تيار آخر مثل بورديو وباثرون إلى تفنيد هذا المذهب والقول بأنه من الإيهام والمغالطة تصور وجود ثقافة خاصة بفئة الشباب، وأن تصنيف المجتمع حسب السن ليس إلا وهمًا صادرًا عن الطبيعيين أو هو وهم لا يهدف إلا إلى إلغاء المحددات للطبقة الاجتماعية ومصدرها.

2- التحرر:

يرى باثرون أن ثقافة الشباب وخصوصًا في مرحلة المراهقة قائم على اللامسوؤلية بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والاستمتاع والترويح عن النفس، ولذلك تمثل وسائل الاتصال الاجتماعي أنسب السبل إلى تحقيق غاية الشباب في الانطلاق والتحرر، فأغلب الدراسات المختصة تؤكد أن شبكات التواصل الاجتماعي تمثل الفضاء الرحب الذى ينفتح فيه الشباب على الآخر للتفاعل والتجريب ولا غرابة في ذلك فهذه الفترة من العمر هي فترة اختبار وتجريب بامتياز وخصوصًا أن مرحلة الشباب تمتد من فترة المراهقة إلى ما بعد انتهاء فترة الدراسة في ظل تواصل الحاجة الاقتصادية والاجتماعية للأسرة لأن نهاية التعليم لا تؤدي مباشرة إلى الحصول على العمل.

ونظرًا لأهمية الدور الحيوي لوسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها الفعال في هذه السن الحرجة التي هي مرحلة بناء الشخصية والميل إلى تحقيق الطموحات وتجسيد الآمال، تبنت الدول الأوروبية اعتمادًا على مؤسساتها وأنماطها الثقافية صيغًا وأشكالاً لمصاحبة الشاب وتنشئته، وتختلف هذه الصيغ من بلد إلى آخر، ففي بلدن شمال أوروبا يتحرر الشباب مبكرًا من سطوة الأسرة وتوفر الدولة الحماية له ومساعدته حتى يحقق الاستقلالية بأمان، أما في بلدان الجنوب مثل فرنسا فإنها تمثل نموذجًا وسطًا يحصل فيه الشباب على قدر من الحرية مع المحافظة على تلاحم الأسرة، في حين تميل دول أخرى إلى بقاء وضع الأسرة ودورها في حياة الشاب كما كان في القديم.

3- تدفق المعاني والأفكار:

تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في إنتاج المعاني، وتحديد الهوية للشباب، فهي تقترح سرديات تضفي معنى ما على العالم، وتشيع في الحياة اليومية المتعة، كما تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في نمذجة الأذواق كما يرى دومنيك باسكير Dominque Pasquier وتجدير الانتماء الثقافي للشباب إلى جمهور الشباب، كما أنها تعطي أهمية متزايدة للمظهر الجسدي والملابس، فوسائل التواصل الاجتماعي تكرس ضربًا من المطابقة فعلى الشباب أن يحاول أن يشبه الآخرين، وأن يتخذ لنفسه الصورة التي يتخذها باقي الشباب.

الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي:

أشار كثير من الباحثين للآثار السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي بصفة عامة، وما ينجم عنها من آثار على الشباب والفئات المحدودة الوعي بصفة خاصة، وتأثيرات مرضية على شباب سرعان ما يسهل انقيادهم وييسر ترويضهم، وخصوصًا في ضوء نقص خبراتهم، ومعارفهم.

ونتيجة العولمة الثقافية وانهيار الحدود زحفت التيارات الفنية والثقافية الكونية وتراجعت المؤسسات التقليدية وفقدت الملذات القديمة دورها، وضعفت، وتضاءلت إزاء اتجاه الجمهور إلى وسائط التواصل الجديدة وما تتيحه من فضاءات مفتوحة، بما أدى إلى تهديد الملذات التقليدية، وتفكيك الروابط الاجتماعية، واكتساح أنساق ثقافية وافدة للنسق المحلي، فضعفت أو وهنت قدرته على إنتاج الصور والرموز، بل إن بعض الباحثين يتهمون وسائط التواصل الاجتماعي بأنها هادمة للهويات المحلية والوطنية، وأنها تؤدي إلى ترسيخ نزعات عقلانية استعمارية، وأنها ترسخ التماثل والتشابه وتعمل على تفقير الأنساق الثقافية وجعلها خاوية جوفاء، بل إن البعض ينظر إلى وسائط التواصل الاجتماعي على أنها منافي للذات تؤدي إلى الغربة والاغتراب.

الخاتمة:

لقد أدت ثورة الإنترنت، والانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية بمصادر لا حصر لها لإلهاء الإنسان والاستحواذ عليه من رسائل نصية، وبريد إلكتروني، وانستجرام، والواتساب، وتغريدات الأصدقاء، وتشغيل ملفات الموسيقى والفيديو والأخبار، والمزيد من الأخبار، ويصف البعض هذا العصر بأنه “عصر التشتيت” أو “عصر الإلهاء”، فلم يعد عدم الانتباه عرض يصيب قلة من الناس، بل نشأت مشكلة وجودية تتمثل في تآكل القدرة البشرية على الانتباه نتيجة الآثار الناتجة عن التدفقات الرقمية الهائلة من المعلومات التي تتسرب إلينا باستمرار، ويصف نيكولاس كار في كتابه “الظلال”: (كيف يغير الإنترنت الطريقة التي نقرأ ونفكر ونتذكر بها؟) الصادر عام 2010م. “إن الإنترنت يستحوذ على اهتمامنا لتبعثره” ووفقًا لعالم الأعصاب الأمريكي دانييل ليفتيين فإن الملهيات في العالم الحديث يمكن أن تخرب أدمغتنا فعلاً.

لقد صارت مواقع التواصل الاجتماعي واقعًا ومتطلبًا من متطلبات الحياة اليومية نظرًا لما تقوم به من أدوار، وما تتيحه من مزايا وفوائد، بل يصل البعض بالنظر إليها على أنها أتاحت الفرصة لتشكيل هويات جديدة فردية وجماعية متحررة من منطق الهيمنة السائدة، وأتاحت نوع مختلف من الحرية ومن الحق في المعرفة والتعبير، بحيث صارت تشكل ملاذات بديلة أو موازية للمجتمعات والملاذات التقليدية، لكن يبقى السؤال مطروحًا بقوة كيف نهيئ الشباب للتعامل مع تلك الوسائط؟، وكيف نحصنهم من آثارها السلبية؟

إن إجابة السؤال تكمن في عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها كافة مؤسسات المجتمع من أسرة ومدرسة ومسجد ونادي ووسائل إعلام وغيرها من المؤسسات الاجتماعية ككل، إذ لا بد من توعية الأطفال وغرس القيم الثقافية والانتماء والولاء للمجتمع من المراحل الأولى للحياة، وتدريب الأطفال والمراهقين على التعامل مع تلك الوسائط والإفادة منها، وفي نفس الوقت الحفاظ على خصوصياتهم وهوياتهم، حتى لا تتحول تلك الوسائط إلى ملاذات لتفكيك المجتمع وهدم أواصره الاجتماعية أو تتحول إلى ملاذات للاغتراب والانعزال عن المجتمع.

كما يجب تطوير التشريعات والقوانين التي تحافظ على سلامة الأطفال والشباب والأسر على شبكات الإنترنت، وأن تتولى جهات متخصصة متابعة تلك المواقع وآثارها على الأطفال، وأن تتولى المراكز البحثية والمعاهد العلمية دراسة التطبيقات والبرامج والتقنيات الحديثة وآثارها المختلفة على مختلف فئات المجتمع.