لو تأملنا حال الأمة الإسلامية اليوم وما يستصحبها منذ قرون، لألفينا أن واقعًا من الغربة عن الذات أضحى عنوان وجودها، واستقر في الأذهان أنه ثابت لا تغيّر لسيرورته، بل سيطرت على عامة الأمة جبرية ساهمت في تكريس الواقع واعتبار جهود الإصلاح ضربًا من العبثيـة المضيّعة للجهود والوقت. وقد يعتبر البعض أن غياب مشروع حضاري يكون دليلاً للأمة للنهوض والانبعاث، أو غياب الآليات والأدوات -الكفيلة بتطبيق البرامج الإصلاحية القائمة هنا وهناك- هو أحد أسباب هذا الواقع.

فهل الإشـكال في غياب المشروع الحضاري؟ أو في عدم القدرة على تطبيقه؟ أم أنه في التشخيص الخاطئ و تبنّي الحلول الجزئية؟ أو في اللجوء إلى المهدّئات الموضوعيـة التي طال بها غياب الأمة عن ساحة الإسهام الحضاري؟

يرى الدكتور “عبد الكريم بكّار” أن طرح إشكال المشروع الحضاري سفسطة فكرية، إذ يقول: “حيث أرى المطالبة ببلورة مشروع حضاري لا تعدو أن تكون سفسطة كلامية”(1)، لأن المشروع الحضاري باعتباره منظومة تشريعية قيمية وما تحويه من أصول ومبادئ كبرى تحكم الحياة بمجالاتها المتنوعة، متوافر في الإسلام عقيدة وشريعة، وهو أساس ومرجعية الحضارة الإسلامية. والدليل أنه رغم أفول هذه الأخيرة، إلا أن أسس ومرجعية قيامها بقي موجودًا وما يزال، ومنه فالإشكال المطروح يكون في البحث الجاد بعيدًا عن هذا المشروع.

المسلمون اليوم بحاجة إلى الرجوع إلى نقطة البدء. حين تمازج الوحي وتعاليمه بالنفوس التائهة في صحراء شبه الجزيرة العربية، فتحقق لها الإحياء، وخرج إلى الدنيا جيل محمدي ملأ الأرجاء نورًا وهدى.

كما يرى “فتح الله كولن” أن الانبعاث الحضاري(2) قديم قدم الزمن، ومعالم المستقبل رُسمت منذ 15 قرنًا، والمسلمون اليوم بحاجة إلى الرجوع إلى نقطة البدء. حين تمازج الوحي وتعاليمه بالنفوس التائهة في صحراء شبه الجزيرة العربية، فتحقق لها الإحياء، وخرج إلى الدنيا جيل محمدي ملأ الأرجاء نورًا وهدى.

ومنه فنحن بحاجة إلى “التجديد”، ولن نتيه في مفهوم هذا المصطلح الذي يزعم البعض أنه جديد ومنشؤه ملازم للعلمانية والحداثة، إلا أن المصطلح قديم وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها”؛ والمراد هو التجديد بمعنى الإحياء، وكذلك الإصلاح الشامل بوصفه ضرورة ملحة يتطلبها الواقع الذي يعيشه المسلمون، فهل تحتاج الأمة إلى تجديد فكرها أو إلى فقه التجديد؟ في الحقيقة تحتاج الأمة إلى الأمرين معًا؛ فبتجديد الفكر يتكون الشخص الذي يكرس حياته في سبيل أهداف سامية أعلاها الفوز برضوان الله، ثم تحقيق إنسانيته التي تتم له بقدر ما يعيشه من ترقٍّ في كمالات العبودية لله، وممارسة خلافته في الأرض بتعميرها ونشر قيم الخير والصلاح فيها. وتجديد الفكر الذي هو استجابة للتحدي، يوصل إلى كسر جدار العجز الذي أحاطت به الأمة نفسها لما جمدت على تراث السابقين بإغلاق باب الاجتهاد والإبداع، ففرض على الأجيال المتعاقبة أن تتحاور مع عصرها بوسائل قديمة انتهى زمنها فبقيت خارج التاريخ. وهو أيضًا إجابة عن الأسئلة التي يطرحها العصر بتعقيداته المتشابكة ليتحقق للأمة حضور هذا العصر، والقدرة على التعامل معه، والتواصل مع معطياته بإعادة صياغة خطابها المعبر عن ذاتيتها، والمنسجم مع طروحاته وإشكالاته المتشعبة(3). والمطلوب فكر مستنير ترسخت فيه قناعات الأمة، لينشر في وعيها خياراته التي استقر عليها للانطلاق في اتجاه تنفيذ الأهداف، وبلوغ الغايات التي يجعلها رهانًا يحتاج لتمثله في الواقع إلى جهود منتظمة، يزيد توترها كلما اجتمعت المحرّضات المطالبة ببلورة الجهود، وفهم حقائق الدين وتشريعاته، لضبط العلاقات وتفعيل مجموع القيم والمبادئ في واقع الحياة. ثم يأتي فكر التجديد بعدما طرأ على الحياة عديد التغيرات، ليكون ضرورة لتنزيل النص الثابت على جميع المتغيرات، ومن ثم الاستجابة عند توفر شروطها، إذ ليس المطلوب النظر إلى نصوص القرآن وصحيح السنة بفكر الماضين وحيثيات واقعهم، فهو أحد أسباب فشل كثير من المحاولات الإصلاحية التي عوض إيجاد طريقة منهجية تحدث تفاعل النص القرآني مع كل مناهج المعرفة والثقافات الإنسانية المعاصرة، اكتفت بسحب الفهم والتنزيل الماضي على قضايا الحاضر، والسعي وراء المقاربة بينهما، بترك الأصل الذي هو أساس هذه الفهوم. ولا أعني إبعاد التراث، بل بالعكس هو مجال الاعتزاز، إنما الرجوع إلى الأصل هو عمق الإشكال المطروح ومخرج الأمة مما تعانيه. إن فهم النص لإمكان تنزيله هو المطلوب، إذ القرآن الكريم وما يلحق به من أحاديث نبوية نصٌّ -مع قدمه- يتميز بقابليته لإعادة الفهم، وهو سبب صلاحيته لكل زمان ومكان، وتميزه عن غيره من النصوص والمصادر جميعها.

فالأمر يتطلب من ذوي الأمر معالجة منهجية تتسم بالشمول والعمق، لوضع القرآن أمام تحديات عصرنا الراهن وخصائصه الفكرية وتصوراته الكونية الجديدة، للوصول إلى إثبات قدرته على امتلاك منهج نتجاوز به الحضارة الغربية بإخضاعها إلى التحليل والنقد وإدراك بدائلها الهشة، مستدلين بالدورة الحضارية الإسلامية على مدار قرون من الزمن، والتي ما قامت إلا على أسس هذا المنهج الفريد. مع الحذر من تأويل مسألة الفهم من أن يقصد بها تجاوز النص أصلاً، بل القضية تعمق في فهم النص للوصول إلى تنزيله في الحياة، ليعيد صياغة المعارف والثقافات من منظور كوني توحيدي يحرر العقل من سيطرة الفكر المادي، ويحسم جدلية الإنسان والطبيعة بما يفضي إلى توجيه الخلق نحو الحق، ونحو إنجاز الوظيفة الوجودية التي خلق الإنسان لأجلها، وخلقت الأرض لتكون مسرحًا لهذا الإنجاز.

(*) دكتورة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة / الجزائر.

الهوامش

(1) المشروع الحضاري نحو فهم جديد للواقع، لعبد الكريم بكّار، ط1، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2010، ص:5.

(2) ونحن نبني حضارتنا، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2012، ص:6.

(3) خطاب التجديد الإسلامي، أنور أبو طه-وآخرون، ط1، دار الفكر، دمشق 2004.