إن تربية الأطفال لا تعني فقط أن ينفق الأهل على أبنائهم ويلبون لهم متطلبات الحياة، بل إن التربية هي مفهوم أشمل من ذلك، إذ تشمل الجانب النفسي والأخلاقي للطفل قبل الجانب المادي، وكلما كان الأهل صالحين وبارين بأهلهم، كلما ردّ الله سبحانه وتعالى لهم جزاء برّهم ببرّ أبنائهم لهم وطاعتهم في شئون التنشئة والتربية.
فالأهل يُعتبَرون هم أصحاب النبتة الأساسية التي تزرع في نفوس الأطفال لتمنحهم كل ما هو طيب وقويم من الأخلاق والسلوك.
وفي هذا السياق يقول أحد الحكماء لابنه: (يا بنيّ إنما الإنسان حديث، فإن استطعت أن تكون حديثًا حسنًا فافعل). فخبرة الأب وتأمله الطويل، وتفكيره العميق وتجاربه العملية، يوجزها بكلمات رصينة ترشد الابن وتهديه، وتزين له الفضائل التي يحمدها المجتمع لنيل الثناء واكتساب الذكر الجميل.
ومن هنا تبقى الأسرة العربية والإسلامية قيمة أخلاقية وسلوكية واجتماعية كبرى للأبناء، تغرس فيهم القيم التي توارثوها عن الآباء والأجداد للقيام بواجباتهم تجاه مجتمعهم، فكثيرًا ما كان العربي يوصي بنيه، ويمنحهم تجارب حياته وخبرته الطويلة في الحياة، من أجل الوصول بهم إلى طريق الشرف والمجد والسؤدد.
فالطفل حينما يولد تتلقاه الأسرة منذ اللحظة الأولى بالفرحة الفطرية التي تلتقي عندها البشرية كلها. ويخيم على البيت فرحة عارمة وغير محدودة، إلا أن ما يشغل الأبوين، إلى جانب الحنان الفطري والرعاية الفطرية بالوليد، الإحساس بالمسؤولية وجسامتها من أجل تربيته وتهيئ الجو المناسب له حتى ينشأ سليمًا نفسيًّا وعقليًّا، ومعافى جسديًّا.
إن مطالب الأطفال جميعًا في مراحلهم الأولى أو حتى بعدها متقاربة ومتماثلة وإن اختلفت الطبائع والأمزجة كثيرًا فيما بعد. كل الأطفال يطلبون الحب والحنان والرعاية والأمن في حضن الأم أو قريبًا منها، كلهم يريدون أن يستدفئوا تحت هذا الرداء النفسي والروحي والمعنوي، والأم بفطرتها تمنح ذلك الحنان والحب وتؤدي تلك الرعاية المرغوب فيها.
إن الحب الذي تعطيه الأم للطفل، ولا يمكن لأحد أن يحل محلها فيه، هو الذي يعلم الطفل الحب، ويوازن في نفسه خط الكره الفطري الذي ينبت في النفس تلقائيًّا وطبيعيًّا، لأنه من خطوط الفطرة التي يولد بها الإنسان، إذ كل إنسان سوي يولد وفي نفسه مجموعة من الخطوط المتوازية المتعاكسة في الاتجاه كالخوف والرجاء، والحب والكره، والفردية والجماعية، والالتزام والتحرر. وكلها خطوط أصيلة وطبيعية في الفطرة البشرية، وتقوم بعملها في تكوين البناء النفسي للإنسان.
ويرى المهتمون بعلم نفس الطفل أن أغلب الانحراف عند هذا الأخير ينشأ في الخطوط المتقابلة، فهي في حالتها السوية متوازنة ومتساوية في حدود معقولة من الميل هنا أو هناك. ولكن حين يبقى الطفل خارج دائرة التوجيه والرعاية فهو عرضة لنوع معين من الاختلال في هذه الخطوط. فمثلاً، قد يحب الطفل نفسه أكثر مما ينبغي، فيتمركز حول ذاته، وفي التالي يكره الآخرين ويستقبحهم وينفر منهم. وهنا تأتي مهمة التربية لإعادة التوازن إلى هذه الخطوط المتقابلة ومنعها من الزيغ والانحراف.
وفي هذا السياق يثمن المشتغلون بحقل التربية وعلم النفس الجهد النفسي والعاطفي الذي يبذله الوالدان نحو طفلهما، والذي ينشئ التوازن ويعيده إذا اختل هو هذا الحب والحنان والرعاية الذي يضفيه الوالدان، والأم خاصة، على ذلك الطفل، بالقدر المضبوط الذي يحتاج إليه، بلا زيادة ولا نقصان.
فإذا لم يجد الطفل ذلك الحب لأي سبب من الأسباب، فسوف يترتب عن ذلك نتائج كلها سيئة على الإطلاق وأبرزها أن ينمو خط الكره على حساب الحب، فتنشأ في نفس الطفل الكراهية للآخرين والحقد عليهم، فلا يرتبط برابط الحب والتعاون الضروريين لبناء المجتمع، وينطوي على نفسه فيكون سلبيًّا لا ينتفع منه المجتمع بشيء.
والأم يجب عليها أن تدرك ذلك منذ البداية، وعليها أيضًا أن تدرك أنه لا شيء على الإطلاق ينبغي أن يحول بينها وبين منح الطفل حاجته الطبيعية من الحب والحنان والرعاية. وأنها تفسد كيانه كله إن هي حَرَمَتْه حقه من هذه المشاعر التي أودعها الله برحمته وحكمته في كيانها.
فالعاطفة الأسرية حينما تكون فاعلة وقوية وحاضرة لدى الطفل تكون هي المفتاح الحقيقي لكل أنواع الآداب، وهي شرط أساس في تربية الطفل، بل توصّلَ بعض الباحثين في هذا المجال إلى أن أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة والالتزام بالقيم هي هذه العاطفة الأسرية المشتملة على الحب والحنان والرعاية التي يشعر بها الطفل من كل أفراد الأسرة، وأصل هذه العاطفة هما الوالدان. فحب الأطفال للوالدين هو رد فعل لحب الوالدين لهما، بل إن هذه العاطفة هي خير معين للطفل على استيعاب القيم، وهي توفر المناخ الملائم للنمو الخلقي في النفس. والطفل الذي لا يشعر بحب والديه، فإنه من الصعب أن نتصوّر في هذه الحال كيف يمكن لهذا لطفل أن يتمثل معايير أسرته وقيم مجتمعه.
بالإضافة إلى ذلك، على الوالدين أن يدركا، في نفس الوقت، أن هناك قدرًا مضبوطًا ومحدودًا من الحب والحنان والرعاية هو المطلوب، وأن الزيادة فيها كالنقص، كلاهما مفسد لكيان الطفل الذي هو رجل الغد أو امرأة الغد.
وعليه، فالحب والحنان والرعاية، كما رأينا، هي عناصر حيوية للنمو النفساني السليم للطفل، وللإنسان عامة، ولكنه حين تتجاوز حدها تنشئ الرخاوة والترهل البدني والنفسي والروحي والفكري، وتجعله غير متوازن، وغير صالح للاعتماد عليه في مهمات الأمور، ولا يعول عليه في المسائل الصعبة. والمدللون ذوو الطبائع الرخوة والمترهلة لا يقدرون على الكد والكدح، فيَتعَبون في حياتهم ويُتعِبون.
إن أي خلل في هذه العاطفة تجاه الطفل سيؤدي حتمًا إلى الجنوح والانحراف والابتعاد عن القيم المرغوبة في المجتمع، فقد ثبت من الدراسات العديدة حول العلاقة بين الحرمان من حنان الأم والسرقة، مدى تكرار التصرفات غير المتكيفة في مؤسسات رعاية الأطفال المحرومين عاطفيًّا، كما أن الممارسة العملية تبرز أن غالب الجانحين والمتشردين يعانون من أحد أشكال الحرمان الدائم أو المحدد بفترة زمنية من حياتهم، وأن هذا الحرمان لا زال قوة مؤثرة في الآلام المعنوية التي يعانونها والتي تساهم بقدر كبير في دفعهم إلى الانحراف.
وهكذا تتضح أهمية التربية الأسرية المؤسسة على منح الحب والحنان والرعاية للأطفال بكيفية معتدلة لا تفريط فيها ولا إفراط، في ترسيخ القيم والمعايير التي يتبناها الوالدان، كما أنها تعتبر في حقيقتها مسؤولية أمام الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» أخرجه البخاري ومسلم.
فنحن كلنا آباء وأمهات محاسَبون أمام الله عز وجلّ عن كل فساد نحدثه في الفطرة السوية، وعن كل تضييع لطاقة كان يمكن أن تُبذَل في اتجاهها السليم والسوي.
فإذا قدرنا هذه المسؤولية الملقاة على عاتقنا تجاه أبنائنا حق قدرها منذ النشأة الأولى، وراعينا جميع مراحلها ونموها حق رعايتها، وبذلنا ما في وسعنا من جهد وطاقة في الحفاظ على هذه البذرة وأسقيناها حبًّا وحنانًا ورعاية، فإننا بذلك نكون فعلاً نحب أولادنا، ونتمنى لهم استقرارًا نفسيًّا ووجدانيًّا، ونضعهم في الطريق الصحيح نحو استشراف المستقبل خال من العقد النفسية والانحرافات السلوكية. إنها تبدو مهمة صعبة في البداية، ولكن مشوار الطريق الطويل يبدأ بالخطوة الأولى، ولا بد من التجمل بالصبر واليقظة ورباطة الجأش، لأن أولادنا هم عماد الغد، ونريدهم أن يكونوا أسوياء وسليمين عقلاً ووجدانًا، جسدًا وروحًا، ونتباهى بهم في جميع الميادين والمحافل. فهم يعتبرون، بحق، أوتاد الحضارة الإسلامية المنشودة وأدواتها الخلاقة.
فإذا صلحت الأسرة صلح النشء المتخرج من مدرستها، وإذا فسدت فسد الجيل الذي تربَّى وترعرع في أحضانها، وفي التالي سيتفكك عرى المجتمع وقوامه، وسيصعب علينا بناء حضارتنا التي نتوق إلى تشييدها من جديد.