لقد كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، على الطريقة الشرعية المعترف بها قبل الإسلام وبعده، والذي استثنته وخصصته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حديثها عن نكاح الجاهلية، حيث تقول بأنه: “كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاحُ الناس اليومَ، يخطب الرجل إلى الرجل وليَّتَه فيُصْدِقها ثم ينكحها” (رواه أبو داود).
إذ الروايات كلها تؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تقدم إلى خطبة السيدة خديجة رضي الله عنها، بكرامة وتكريم، وخطوبة وخطابة، وولاية وتقديم، وإيجاب وقبول، وصداق وإشهاد.. فكان الزواج وجماله وبهجته بحسب المقام، إشهارًا من غير سر، وإكبارًا من غير صغار.
“فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فزوجه أحدهم، وقد اختلف في المزوِّج لها على أقوال كثيرة، كما اختلف في المزوِّج له عليه الصلاة والسلام. والصحيح أن المزوِّج لها عمها عمرو بن أسد، لأن أباها مات قبل الفجار، وأن المزوج للنبي صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب. ولما تم الإيجاب والقبول أمرت السيدة خديجة بشاة فذبحت واتخذت طعامًا”.
فكان من أدبيات هذا الزواج والعقد الكريم هو تلك الخطبة البليغة التي عبر بها عمه أبو طالب في المجلس، والتي تحتوي دلالات وآثارًا نبوية نورانية واضحة، كما أنها تدل على مستوى الجانب الخلقي الذي كان يتمتع به أبو طالب، والذي نضح من ثمرة كفالته للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وعطفه عليه، بل استمداده منه هذا النبع التعبيري والسمو اللغوي أيما استمداد.
وسواء ثبتت الرواية أم لا، بالحرف أو المعنى، إلا أنها عبارة صحيحة وصادقة ترسم الواقع كما هو، وأيضًا فهي متناسبة مع رؤية أبي طالب إلى مقام ابن أخيه نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي مطلعها: “الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ (أي: أصل) معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح، وإن كان في المال قل فالمال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله كذا”.
وفي المقابل كانت خُطبة ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها، باعتباره رجل كتاب وعلم وأنه أحد عصبتها، وأنه من النخبة المثقفة والمرجعية في المجتمع، وفيها اعتراف بفضل بني هاشم وفضل النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
فلو حاولنا تحليل هذه النصوص من الناحية الاجتماعية، فإننا سنجد هذا الوعي قد كان قارًّا في المجتمع القرشي على مستوى راق وإدراك لمقومات السيادة والريادة، وذلك بالاعتماد أولاً على عنصر العصبية في تأسيس الملك.
إذ تصدرها اعتبار الجانب الروحي كأساس رئيسي في تحديد قيمة القرشية واحتضانها للحرم المكي، والتي في أصلها تنتمي إلى دوحة النبوة والرسالة، كان مبتدؤها من سيدنا إبراهيم ثم إسماعيل عليهما السلام.
وهذا ما سيؤكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم” (رواه الترمذي).
في حين ستذكر المُضَرية باعتبارها الممثلة لأكبر قبيلة مؤسسة للعصبية على أوسع نطاقها، كما يقول عنها أبو عمر بن عبد البر: يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو هاشم فخذه، وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبه”.
وبهذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، مكتمل البنية الاجتماعية وحاضرًا في كل أنماطها الإيجابية، ومؤهلاً للتربع على عرشها، وهذا هو منتهى العصبية وذروة قوتها التي سيبني عليها ابن خلدون نظريته في تأسيس الدولة وجدلية البداوة والحضارة، وذلك حينما ذهب إلى أن “الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا ما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح: “ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه”؛ وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغالب بغير عصبية.. وهكذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء، كونه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة، والله حكيم عليم”.
ولقد سبق هرقل كحاكم وخبير بأحوال السيادة والسياسة، أن سأل أبا سفيان حين أول ما سأل عن هذا الشأن بقوله: “كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب…”، ثم عقب بعده قائلاً: “سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها”.
هذا المقام الاجتماعي سيكون حاضرًا في أذهان القرشيين المعترضين على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد المبعث ونزول الوحي، وذلك من خلال العرض الذي اقترحوه عليه ليَعْدل ويتراجع عن رسالته، ويكفّ عن إبطال وتسفيه آلهتهم وأصنامهم، والتي قد كان أبرزها هو أن يؤمِّروه عليهم ويلبسوه تاج الملك، لكنه صلى الله عليه وسلم أبى هذا العرض. حيث تؤكد لنا هذه الرواية سمو المشهد في ردِّه على إبلاغ عمه إياه اقتراحات قريش: “يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته، قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا”.
كما أنه سيختار حينما خيره الله تعالى بواسطة الملك بين أن يكون نبيًّا ملِكًا أو نبيًّا عبدًا، فاختار العبودية التي هي جوهر الملك الحقيقي والحصول على مستلزماته ونتائجه. يقول القاضي عياض في هذا المقام: “وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم على علو منصبه ورفعة رتبته، فكان أشد الناس تواضعًا، وأعدمهم كبرًا. وحسبك أنه خير بين أن يكون نبيًّا ملكَا أو نبيًّا عبدًا فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع”.
الظاهرة الجمالية في نسب النبي صلى الله عليه وسلم
فأقصى درجة العصبية عند العرب قد كان هو الانتماء إلى الكتلة الشعبية التي كان من أبرزها حينذاك قبائل مُضر وربيعة، لكن مضر قد كانت هي المؤهلة لتصدر هذه الريادة بحسب تموضعها عند الحجاز، وبخصوص عوائدها في الصبر والجلد وتحمل الأعباء كما يقول عنهم ابن خلدون: “واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة، لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذي زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب، كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب”.
كما أن مضر وربيعة كما يقول محمد رضا: “هم صريح ولد إسماعيل باتفاق جميع أهل النسب”.
يضاف إلى هذا كإشارة تناسب روحي وجمالي وخصائص شخصية، بأن مضر جد النبي صلى الله عليه وسلم كان جميلاً: “ولم يره أحد إلا أحبه، ومن حِكَمه المأثورة: “خير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق” والفواق ما بين الحلبتين. ومضر أول من حدا بالإبل، وكان أحسن الناس صوتا”.
وهذا الجمال الخاص أكيد هو من فيض أنوار نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي كان له أثره على أجداده بحسب استعدادهم ومواقعهم، إذ الوراثة الجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجمال والمحبة، هي وراثة استباقية أو استردادية قد تعيد الفضل إلى أهله في الظاهر بعدما كان تزويدها لأجداده بها وهو ما زال في أصلابهم باطنًا. فبه صلى الله عليه وسلم تميزوا وعليه رجعوا بما استودعوا.
هذا الاستطراد في عرض هذه الخصائص القبلية والاجتماعية عند قريش، ووجود النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ومنهم، قد كان من تلخيص ما عبر عنه أبو طالب عند خطبة الزواج، ثم تعقيب ورقة بن نوفل عليه.
فلقد رسم لنا الواقع الاجتماعي العربي والقرشي خاصة، من حيث قوة عصبيته وثبات مبادئه، وبعد آفاقه في حماية النسب وتقويته والحفاظ على صفائه ووضوحه.
إن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها هو أقوى زواج وأنقاه عرفته العرب قبل الإسلام، كما أنه كان نقطة وصل النسب النبوي بما بعده لما قبله، والذي كان محوره هو هذه السيدة الخالدة؛ أم الشرفاء وسيدة نساء أهل الجنة وأم الصِّديقات في هذه الأمة.
فقد قال ابن هشام في كتابه السيرة النبوية: قال ابن إسحاق: “فولدتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَدَه كُلَّهم إلا إبراهيمَ: القاسمَ، وَبَهْ كان يُكنَّى صلى الله عليه وسلم، والطاهرَ، والطيِّبَ، وزينبَ، ورُقَيَّةَ، وأمَّ كلثومٍ، وفاطمةَ، عليهم السلام”.
إن علاقة السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن علاقة زمان ومكان، ولا مصالح أو مجرد استمتاع، وإنما هي صلة وجودية، ومسألة مقام بالدرجة الأولى غير قابلة للتوسط والمقارنة، كما أنها كانت علاقة محبوبية متواصلة ومتسامية بالروح والجسد، بالذكر والتذكير، بالإشارة والبشارة، وتحقيق استمرارية الحضور في وجدان الأمة بحضور صورتها وصفائها رضي الله عنها في كل عترته الطاهرة ونسل الشرفاء المنحدرين من رحمها الطاهر إلى يوم الدين.
فكان جوهر هذا التواصل واستمرارية الحضور، يتجلى في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وذكر فضائلها بالتكرار، والتأكيد على رسوخ مقامها واستقراره في أعلى المراتب.
هذا مع العطف والتأكيد على أهم ما يزيدها قوة وفخرًا ومنقبة وفضلاً، وهو أنها ولدت له ذكورًا وإناثًا لتحقيق صفة الكمال في الأنوثة والرحمية، التي هي من مظاهر كمال رجولة النبي صلى الله عليه وسلم وشمولية رسالته وعدالته لكل الأجناس، وأنه ليس بأبتر أو مقطوع النسل، سواء على مستوى الأبدان أو الأرواح.
وهذه المعاني تتجلى بوضوح في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما قالت: “ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد”.
والتركيز على “وكان لي منها ولد” له دلالات الاستمرارية والحضور التشخيصي للنبي عن طريق آل بيته ممن جمعوا بين كمال النسب وكمال الروح والنسبة، الركن الأساس في تحقيق هذا التواصل.
إذ فضلهم مستمد من فضله صلى الله عليه وسلم وحبهم من حبه، ومن مظاهر امتزاج هذا الحب وقوة عراه أن أنتجت الولد منه، أي أنه حب موَلِّد، ومتفرع من الذات ونحو الآخر بالتسلسل الانبعاثي المتجذر.
وهذا ما يمكن أيضًا تفسيره بالربط بين رواية البخاري ورواية مسلم التي جاء فيها عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أيضًا: “فأغضبته يومًا فقلت: خديجة؟ فقال: إني رزقت حبها”.
فحبها حب مقام وفضل وليس أنه مكتسب بحسب الظواهر المادية وتبادل المصالح أو مجرد عاطفة ذاتية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيض محبته ويمنحها إلا لمن هو أقرب منه فالأقرب، والسيدة خديجة رضي الله عنها قد كانت في مقام السيادة ونبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق وسيد ولد آدم. وهنا كان التناسب في هذا الحب السيادي الراقي، والذي قد نالت قصب السبق فيه سيدتنا خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ببشارته صلى الله عليه وسلم وتخليده لذكرها في العالمين حينما قال على صيغة الضمير المفيد للعموم: “خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة”، وفي رواية مسلم تفسيرًا: قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض”.
والخيرية والسيادة مترادفتان أو متلازمتان على كل حال، وملازمة السيد والفوز برضاه سيادة وخير، وهذا ما يفسر به مقام سيدتنا خديجة رضي الله عنها في علاقتها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنها لم يكن يوجد لها منافس في المقام، ظاهرًا وباطنًا، ومن ثم فلم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها بغيرها في حياتها، حيث لا مدعاة للزيادة أو التنويع في المظاهر والمقامات، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: “لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت”.
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها وإن مات لها الولد، لأن العلاقة التي كانت بينهما هي علاقة مقام، وهو ما لا يمكن له أن يموت أو يتخلى عنه أبدًا لصفته التصاعدية والمتسامية.