يتسم زماننا المعاصر بتضخم عمليات الإنتاج وكميات الاستهلاك، وبالتبعية تضخم النفايات أو المخلّفات الناجمة عنهما، مما جعل تلك النفايات تشكل تهديدًا خطيرًا للبيئة، ومشكلة عويصة تُبذل جهود علمية وإدارية كبيرة بصدد معالجتها وبميزانيات ضخمة.
وقد تزايد الوعي والاهتمام بالاستفادة من النفايات، من خلال إعادة استخدامها (Reuse) وإعادة تدويرها (Recycling)، وذلك ضمن المعالجات الحديثة الهامة لهذه المشكلة.
بيد أن حداثة هذه المعالجات، لا يعني بأنها لم تكن معروفة من قبل، وخاصة في تراثنا الذي اعتدنا منه الريادة والسابقية في مجالات عديدة.. وفي إطلالتنا هذه، سنسلط الضوء على نماذج ريادية من التراث، فيما يتعلق بالاستفادة من النفايات.
في البدء، تطيب الإشارة إلى حديث شريف يحث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الانتفاع من جلد شاة ميتة، ونص الحديث كما جاء في صحيح مسلم: تُصُدِّق على مولاةٍ لِمَيمونةٍ بشاةٍ فماتتْ، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “هلَّا أخذتمْ إهابَها فدَبَغْتموه فانتفعْتم به”، فقالوا: إنها ميْتةٌَ، فقال: “إنما حَرُمَ أكْلُها”. ولا عجب من الاهتمام النبوي بالاستفادة من جلد شاة ميتة، فهذا الدين الحنيف يهتم بتحقيق كل ما فيه مصلحة الإنسان.
ولنطل على ثلاث نماذج تراثية؛ الأولى والثانية لشخصيتين واقعيتين وهما: معاذة العنبرية، وأبو سعيد المدائني، واللذان يمكن اعتبارهما صديقين للبيئة لريادتهما في الاستفادة من النفايات. وقد ورد ذكر قصتهما في الكتاب الشهير “البخلاء” للجاحظ (159-255هـ). والنموذج الثالث لمدينة صنعاء، كمدينة ذات سابقية في النظافة والاستفادة من النفايات، والنموذج مأخوذ من وصف صنعاء في كتاب “المنشورات الجلية” للعلامة جمال الدين الشهاري (ت 1176هـ).
معاذة العنبرية
قصة معاذة العنبرية تدور حول شاة أهديت لها، فلم تنتفع من لحمها فقط، وإنما فكرت في عدم تضييع أي شيء من الشاة المذبوحة، فكل جزء تم الاستفادة منه واستخدامه الاستخدام المناسب.
وقد سبقت معاذة العنبرية بذلك، الداعين إلى استغلال مخلفات الذبائح من الجلود والعظام والدهون استغلالاً علميًّا سليمًا محافظًا على البيئة؛ فهي استفادت حتى من دم الذبيحة، ذلك الدم الذي يتسبب في كثير من المشكلات البيئية في المسالخ التي لا تحافظ على البيئة من مخلفاتها.
وفيما يلي قصتها كما وردت في كتاب “البخلاء” للجاحظ، وإن كانت هي في الواقع لا تستحق أن تحشر مع البخلاء، فهناك فرق بين البخل وبين الحرص وحسن التدبير:
“… ثم اندفع شيخ منهم فقال: لم أر في وضع الأمور مواضعها وفي توفيتها غاية حقوقها كمعاذة العنبرية، قالوا: وما شأن معاذة هذه؟ قال:
أهدى إليها العام ابن عم لها أضحية، فرأيتها كئيبة حزينة مفكرة مطرقة، فقلت لها: ما لك يا معاذة؟ قالت أنا امرأة أرملة وليس لي قيم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئًا لا منفعة فيه، ولكن المرء يعجز لا محالة، ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر تضييع الكثير.
أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل منه كالخطاف، ويسمر في جذع من أجذاع السقف، فيعلق عليه الزبل والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان والحيات وغير ذلك. وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. وأما قحف الرأس واللحيان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ، فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم ير الناس وقودًا قط أصفى ولا أحسن لهبًا منه، وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر، لقلة ما يخالطها من الدخان. وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب. وللصوف وجوه لا تعد. وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب.
ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد علمت أن الله تعالى لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها ولا يُمنع منها، وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به؛ صار كية في قلبي، وقذى في عيني، وهَمًّا لا يزال يعودني.
قال: فلم ألبث أن رأيتها قد طلقت وتبسمت، فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل ذكرت أن عندي قدورًا شامية جددًا. وقد زعموا: أنه ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه.
قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك؟ قالت بأبي أنت! لم يجئ وقت القديد بعد. لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعرق وفي غير ذلك معاش. ولكل شيء إبان.
أبو سعيد المدائني
قد يعتقد البعض أن فرز أو تصنيف النفايات (Waste sorting) والاستفادة منها كمورد اقتصادي هي فكرة حديثة مأخوذة من الغرب، ولكن في الواقع فإن أبا سعيد المدائني كانت له سابقية في هذا المضمار. أفرد الجاحظ في كتابه “البخلاء” قصة هذا الرجل في فرز “الكُساحة”، أي القمامة وكيفية الانتفاع بكل شيء فيها حتى التراب. جاء فيه:
“… وكان أبو سعيد ينهى خادمه أن تخرج الكُساحة من الدار، وأمرها أن تجمعها من دور السكان، وتلقيها على كُساحتهم، فإذا كان في الحين -بعد الحين- جلس وجاءت الخادم ومعها زبّيل، فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً، ثم فتشت واحدًا واحدًا، فإن أصاب قطع دراهم وصرة فيها نفقة والدينار أو قطعة حلي، فسبيل ذلك معروف. وأما ما وجد فيه من الصوف، فكان وجهه أن يباع إذا اجتمع من أصحاب البراذع. وكذلك قطع الأكسية، وما كان من خرق الثياب، فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات.
وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين، وما كان من القوارير، فمن أصحاب الزجاج. وما كان من نوى التمر، فمن أصحاب الخشوف. وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس. وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين. وما كان من القراطيس، فللطراز.
وما كان من الصحف فلرؤوس الجرار، وما كان من قطع الخشب فللأفاكين. وما كان من قطع العظام فللوقود. وما كان من قطع الخزف فللتنانير الجُدُد. وما كان من أشكنج فهو مجموع للبناء، ثم يحرك ويُثار ويخلل، حتى يجتمع قماشه، ثم يعزل للتنور. وما كان من قطع القار، بيع من القيّار. فإذا بقى التراب خالصًا، وأراد أن يضرب منه اللبِن للبيع وللحاجة إليه، لم يتكلف الماء، ولكن يأمر جميع من في الدار ألَّا يتوضؤا ولا يغتسلوا إلا عليه، فإذا ابتل ضربه لبِنًا”.
صنعاء مدينة
تتفاخر المدن الحديثة باهتمامها بالنظافة، والتخلص السليم من مخلفاتها، وخاصة من خلال إعادة الاستفادة من النفايات وتدويرها، إلا أن ذلك كان متعارفًا عليه في مدينة صنعاء من قديم الزمان.
وصف صاحب كتاب “المنشورات الجلية” نظافة صنعاء بالعبارة التالية: “هذا وأما نظافة هذه المدينة بأجملها فأمر يقصر عنه لسان الواصف”، ثم قدم شرحًا مفصلاً كيف كان يتم إعادة استخدام النفايات بدلاً من تركها تسبب أضرار بيئية وصحية، وكيف أن من خلال ذلك يتم الحفاظ على نظافة المدينة، حيث جاء في ذلك الكتاب:
“فإن فيها وفي مخارفها نحو عشرين حمامًا مجددة البنيان حسنة المخالع والخزائن، مرتفعة القبب مفيئة الجامات، كثيرة الماء واسعة المغاطس والأحواض، نظيفة العرصات.. يتداولها الرجال أوقاتًا والنساء أوقاتًا فيحتاج إلى ما يوقد فيها، فقد أعدوا لذلك خدمًا يطلبون ما يجدونه مما يخرج من فضلات الناس والكلاب ونحوها، وما يجدونه من عظمان الميتات وغيرها فلا يبقون من ذلك شيئًا، بحيث أن الإنسان لا يجد رائحة خبيثة من قبل ذلك ولا يرى ما يكرهه منها. ومن أسباب النظافة، أن الفلاحين الذين يحرثون الأراضي للزرع والغروس، يطلبون ما يجدونه في الحشوش التي في أسفل البيوت التي عليها المستراحات (بيت الخلاء)، فيدخلون إليها فيأخذون ما يجدونه فيها من الفضلات والرماد ونحو ذلك. ولا تنجب زروعهم إلا بذلك. ثم يجمعونه طول السنة خارج المدينة في محلات يعدونه فيها إلى وقت حاجته.
ومن أسباب ذلك أن كثيرًا من اليهود يقصدون لما يجمعه الرائح ونحوها، مما يتساقط من أعلاف الناس وخشاشهم ونحو ذلك، فيبكرون له فيكنسونه ويأخذونه ليحرقون به ما لطف من أعمال المدر “الآنية من الفخار” ولا يصلح إلا بها. فلا يجد الإنسان في شوارع صنعاء ولا خارجها شيئًا مما يعاف لهذه الأسباب.
نعم، وأما ما فضل من الأرماد الذي لا يرى إليه الزراع، وما فضل من نخالات الطين بعد البنيان وكسر الياجور والحجارة، فتحمله المتاربة الذين يدخلون التراب من البراري على بهائمهم “لقصد البناء”.
وأما أرماد الحمامات، فإنهم يبيعونه بالثمن ويقصد له من يريد العمل بالقطر، لأنهم يخلطونه بالنورة فيعتقد فيبنون به أوعية الماء التي تبنى بالقطر ولا يصلح إلا به.
هذا ومن أسباب نظافة صنعاء، أن أرواث الخيل والحمر والجمال والبقر والغنم، لا يمكن أن ينحط إلى الأرض إلا وقد قصد له غلمان ووليدات من أولاد المساكين يأخذونه ليتخذوه وقيدًا لمعايشهم.
ومن أسبابها أن المدر والياجور، لا يصلح إلا إذا خلط فيه السرجين “الزبل”، فيبالغون في شرائه من سواس الخيل وغيرهم، فيبالغون في جمعه ويكنسون ما يجدونه منه في الاصطبلات والأحواش ونحو ذلك، حتى إنهم ليبيعونه وبعضه تراب.
فهذه الأسباب ونحوها هي التي لأجلها نظفت صنعاء من جميع القذارات”.
إن تراثنا غني بالإبداع، ولكن من العجيب إننا نقابله بالإهمال والانقطاع عنه مع أننا قد نجد فيه العديد من الحلول والأفكار لمشاكلنا الحديثة. ويكفي أن إعادة الارتباط به سينمي لدى الأجيال الجديدة روح الابتكار والثقة بالنفس وتعزيز الاعتماد على الذات، وكل ذلك نفتقره في الحاضر. ولذلك من الأهمية أن نعزز الوعي والإدراك بالضرورة والقيمة الهامة للارتباط بالتراث، وإعادة التعامل معه كصلة تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.