بخطوات مسرعة سارت بين زحام كثيف تتلاحم فيه أجساد البشر، كانت تتخطى الجميع بسهولة ورشاقة، ساعدها على ذلك جسدها النحيف وعودها الفارع، رغم نحافة جسدها إلا أن قوامها حاد وهيئتها رياضية، نظرتها حادة يتخللها حياء ساكن، وخطواتها سريعة تحاول أن تسابق بها الزمن.
اسمها سارة.. ربما كان لها النصيب الأكبر من ذلك الاسم؛ كان كل شيء يسرّها حقًّا، كانت تبحث بعناية عن قطرات السعادة وسط أمواج الحزن المتدفق من بحر الحياة، دومًا كانت تسعى لإسعاد نفسها وغيرها.. كثيرًا ما كانت تحب التجول في الطرقات، تتأمل في عيون المارة، وتتبسم في وجوههم رغم الكآبة التي كانت تعلو الكثير من تلك الوجوه.. كان في اعتقادها أن تلك الابتسامة ربما تخفف عنهم بعض عناء الحياة.
كانت تسير في ذلك اليوم في نشاطها المعتاد، فجأة بهت نور الشمس وحلّ مكانه ظل طارئ من أثر الغيوم التي ملأت السماء، بل صنعت تحتها غطاءً شاسعًا. رعدت السماء وهبّت ريح باردة أطارت خصلات شعرها حول رأسها.. أوحى الجو بمطر قريب، اجتهد المارة في السير هربًا، لكنها على عكسهم أبطأت خطواتها؛ لم تحب مثل المطر يومًا، أن تسير تحت قطراته وأن تنسدل خيوطه فوق جبينها كأنها سلاسل ذهبية تزين صفحة وجهها.. تسعد كثيرًا بتناثر حبات الماء على كتفيها وحين تتعانق ذرات الرذاذ حول جسدها النحيف.
كانت تتأمل فيمن حولها، الجميع يهرب.. كانت تتعجب منهم كثيرًا كيف يهربون من الخير، كيف يشعر الإنسان بعظمة الخالق إن لم ير ذلك المشهد بل ينغمس فيه؛ حين تعانق صفحة السماء أكوام من السحاب ليخرج منها وابل طيب يصيب الأرض بخير وفير!
تحت قطرات المطر سارت نحو مكان واسع كان يُحيطه بعض البنايات القديمة يتوسطها حديقة ذات حشائش ذابلة.. رأت تلك الحشائش تبتهج فرحًا بالقطرات التي ستعيد إليها نضارتها.. كانت تعشق ذلك المنظر حين تغازل قطرات المطر أوراق الأشجار لتملأها بالبهجة، فيتحول لونها إلى الأخضر الزاهي تحت ضوء النهار.. لم تجد أحدًا سواها يسير تحت المطر.. فتحت ذراعيها مبتسمة كأنها طائر يريد التحليق في فضاء السماء.
جذب سمعها صوت خافت يبدو أنين طفل صغير.. تتبعت الصوت فإذا هو منبعث من إحدى الزوايا خلف جدار إحدى البنايات.. اقتربت منه مع تسارع دقات قلبها.. لم يكن يؤرقها يومًا مثل بكاء الأطفال.. وصلت إليه ودققت نظرها، فإذا هو طفل صغير قد انكمش على نفسه في وضع الجلوس واضعًا رأسه على ركبتيه وبين يديه محاولاً الاحتماء من غزارة الأمطار.. لكن رذاذ الماء كان يغرقه رغم التصاق ظهره بالحائط وراءه.. لم يجد مفرًًا آخر يلجأ إليه، فلجأ إلى البكاء علّه يجد فيه دفئًا لجسده المرتعش أو سلوى لقلبه الحزين.. تأملته سارة جيدًا؛ حاله يرثى له، للمرة الأولى شعرت بقسوة المطر.. اقتربت أكثر من الصبي، توقفت أمامه ثم نزلت إلى الأرض مستندة إلى ركبتيها، مدت يدها إليه، انتفض جسد الصبي ذعرًا حين لامست يدها كتفه.. أخرج رأسه من بين ذراعيه، المياه تنحدر عليها بغزارة، نظر إليها بعينين خائفتين، جسده ينتفض وأنامله ترتعش خوفًا وبردًا.. ملابسه ممزقة وقدماه حافيتان قد غطتهما الأوساخ.. لم يستطع لسانه البوح بكلمة واحدة، لكن نظراته كانت تنطق بمئات الكلمات.. حاولت أن تداري ألم قلبها، تلك المرة صنعت ابتسامتها بصعوبة لتطمئن الصبي، نطقت بصوت حانٍ غلبته الشفقة: “أنا سارة”.
لم يرد الصبي عليها.. ما زال الخوف مسيطرًا عليه، مدّت هي يدها لتمسك بيده لكنه لم يستجب لها فسحب يده وخبأها وراء ظهره.. تنهدت قليلاً واقتربت منه أكثر، زادت ابتسامتها اتساعًا.. الأمطار ما زالت تنحدر عليهما بشدة، تعرف أن مثل هذا الصبي لم يجد من يأخذ بيده يومًا، لذا فالخوف أمر معتاد لديه.. نطقت بمزيد من الكلمات علّها تطمئنه أكثر: “لا تخف مني أريد مساعدتك”.
هدأ أنين الطفل قليلاً، استسلم لها، ترك لها يديه فأطبقت عليهما بيديها بقوة.. شعر الصبي بدفء يسري في أوصاله رغم برودة يديها مثله، لكن صدقها ودفء مشاعرها كان مصدر تلك الحرارة.. أرادت أن تبعث مزيدًا من الطمأنينة في قلبه فاقترحت عليه اقتراحًا طفوليًّا:
– ما رأيك أن نتسابق سويًّا إلى مدخل تلك البناية الكبيرة ومن سيسبق منا سيفوز بقطعة من الحلوى.
نظر إليها الصبي خوفًا، فالاختباء من المطر في مدخل أحد البنايات قد خطر بباله بالتأكيد، لكن عقاب الحراس كان يخيفه بشدة، فمثله لا يكون مرحبًا به في أي مكان.. قرأت سارة ما يدور في خلده فأرادت أن تقطع عليه مخاوفه: “لا تخف، لي أقارب هناك ولن يؤذينا أحد”.
زال الوجل من وجه الصبي وانفرجت أساريره قليلاً.. قام معها وتشبث بيديها، تحت خيوط المطر تسابقا سويًّا إلى مدخل البناية.. علَت الضحكات وجهيهما.. شعر الصبي بسعادة تلمس قلبه على غير العادة.. أيضًا كان بعض من الأمان يدفئ جسده النحيل، يعلم أن هذه السعادة وهذا الأمان سرعان ما سيزولان، لكنه يحاول أن يستمتع بتلك اللحظة قدر الإمكان.. للمرة الأولى تمنى قلبه ألا ينتهى المطر حتى لا تنتهي رفقته.. وصلا لمدخل البناية سويًّا، لم يكن هناك حارسًا لها.. دخلا إلى رواق واسع، وجدا سلّمًا عريضًا فجلسا عليه متلاصقين.. نزعت وشاح كتفيها ووضعته على كتفيه، تبسم في وجهها أكثر.. للمرة الأولى ترى سارة ابتسامة كتلك؛ كانت بريئة للغاية، تطفو فوق سطح بحر من الآلام وتخرج من بين أسنان غطتها الأدران وشفاه شققتها قسوة الأيام.
تهللت أساريرها لبسمته، وأخرجت من حقيبتها قطعة من الحلوى، أرادت أن تعطيها كلها له، لكنها أحبت أن تعيش معه تلك اللحظة فقررت مشاركته فيها، قسمتها نصفين وأعطت له إحداهما.. تناولها بأنامله الرقيقة ودون تردد انكب يأكلها بنهم شديد.. بدأت تتناول نصيبها معه، تشابكت أيديهما الأخرى، شعرا بتقارب طفولي يسري بينهما.. رأت في وجهه سعادة كانت تظن أنها غير موجودة في هذا العالم، أخذت تضاحكه فتشعر بأن ضحكته أنهار من النور تتدفق لتمحو ظلام الدنيا وكآبتها.. للمرة الأولى تعلم بأن هناك أطنانًا من السعادة بين شفاه الأطفال وحول أنامل المحرومين.. علمت حينها أن فرحة قلبها يمكن أن تشتعل بإسعاد غيرها دون انطفاء، ويمكن أن تعيش أجمل لحظاتها حين تُدخل السرور على من لم يجد إليه سبيلاً.