شكلت التربية منذ القدم الأساس الأخلاقي الذي يُوشج العلاقات بين بني الإنسان، والتربية بما هي كذلك تهتم بشكل كبير بـبناء ”الحكم الخلقي”، لما له من أهمية بالغة في المجتمع، إذ يعد بمثابة المقياس الذي به يميز الفرد بين الخير والشر، والحكم على سلوك الآخرين من حوله بالحسن أو القبيح، إنها ملكة تجعله يميز بين ما هو مقبول وما هو عكس ذلك داخل جماعة الانتماء، ولا مرية في أنها -التربية- تهدف إلى خلق توافق الفرد؛ بتقبله للآخر بالرغم من اختلافه، وهي غاية –قبول الآخر- أصبحت اليوم شبه مستحيلة بالنظر إلى التحولات القيمية التي اعترت المجتمع المعاصر، وما خلفته من تصدعات على الفرد والمجتمع انسجاما مع تداعيات العولمة على الهوية وعلى التربية نفسها. ولما كان للتربية من دور مهم في خلق الإنسان الصالح لنفسه ولمجتمعه، فإنها تعد بذلك لبنة أساسية في تنشئة الأفراد، فمن خلالها يستدمج الطفل رصيدا هائلا من النظم والقوانين الأخلاقية التي ينتظم حولها المجتمع. كما أن التربية السليمة المبنية على قيم التعايش والتسامح تُسهم في خلق التكيف النفسي والتوافق الاجتماعي لدى الفرد.
نجد القيم الاجتماعية بوجه عام تأتي بعد القيم الدينية، وهذا ما يجعل منها العنصر الأساسي والمكون الذي لا يمكن للمجتمع أن ينهض إلا به. بمعنى آخر لن ينتظم المجتمع ولن يستمر تماسكه في معزل عن القوانين والقواعد، التي تنظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وتكون بمثابة الضابط الحقيقي لأفعال الأفراد، إذ بمقتضاها يتم التواصل والتفاعل مع الأغيار بشكل لا يقبل التجزيء، وهذا من جملة ما ينقل الإنسان من التوحش إلى التمدن، فالإنسان منذ أن وُجد في الطبيعة، وهو في سعي دائم لخلق جسور التواصل والتفاعل مع محيطه الاجتماعي، فاستحق أن يُنعت بالكائن الأخلاقي؛ وبالكاد لم يتوان في تقفي الطرق الآمنة لبلوغ غاية واحدة ووحيدة ألا وهي العيش معا. وهي خصيصة أخرى من جملة الخصائص التي تميز الإنسان عن الحيوان، فكل المجتمعات حتى الضاربة منها في عمق التاريخ لم تتخل يوما عن الأخلاق باعتبارها المنظم الأول للحياة الاجتماعية، فالإنسان ”ليس كائنا أخلاقيا إلا بقدر ما يعيش في المجتمع، لأن الأخلاقية تكمن في التمسك بجماعة ما وتتغير بتغير هذا التماسك” (جابري عثمان،1988، ص38) وبهذا المعنى يمكن اعتبارها-التربية الأخلاقية- تهيئة ومرانًا للتعايش بين مختلف الأطياف الاجتماعية.
اختلفت طرائق التربية من بقعة جغرافية لأخرى ومن زمان لآخر استجابة للتحولات التي شهدها العالم فمثلا؛ قد يبدو نوع من الفعل في مجتمعنا غير مقبول، لكن الفعل ذاته قد يبدو مقبولا في مجتمع آخر، أي هناك قيم تكتسي طابع العالمية في حين هناك قيم لصيقة بمجتمع دون آخر. طبعا هنا يلعب كل من الدين والعادة (الثقافة) دورا أساسيا وحاسما في تشكل وبناء القيم، وبالتالي اختلاف الحكم الأخلاقي بين بني الإنسان. لكن هذا لا يدعو ألبتة إلى إشهار الصراع بين بني الإنسان، على اعتبار أن التحولات القيمية التي تفرضها ديناميكية المجتمع تستدعي وعيا بالاختلاف. فما دور التربية في بناء الحكم الخلقي، وكيف يتحقق التوافق الاجتماعي؟
التربية على الحكم الخلقي
يُجمع كل الباحثين حول أهمية التربية باعتبارهم إياها حلقة أساسية في منظومة المجتمع، إذ من خلالها تُنحت معالم الشخصية (السوية)، بمعنى أن التربية لها دورها في خلق الإنسان الصالح لنفسه ولمجتمعه؛ الذي يخلق الحضارة ويبني العمارة، إذ يؤثر أسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يتبعه الآباء مع الأبناء في تبني قيم معينة دون أخرى. فقد توصل ”ماكيني”، إلى أن هناك ارتباطا بين التوجه القيمي للأبناء وتصورهم أو إدراكهم لأنماط معاملة الوالدين. فالأبناء ذو التوجهات الآمريةPrescriptive Orientations ، يدركون الآباء على أنهم أكثر مكافأة وأقل عقابا، ولذلك فهم يميلون إلى عمل ما هو صواب. في حين أن الأبناء ذوي التوجهات الناهيةProscriptive Qrietations يدركون الآباء على أنهم أكثر عقابا وأقل مكافأة، لذلك يركزون انتباههم على عدم عمل ما هو خطأ) “محمد خليفة عبد اللطيف،1992، ص91( هذا المعنى يصير النظام التربوي في كل مجتمع بمثابة الأساس والمرجع الذي لا يقبل المساومة، ”يخبرنا التاريخ بأن أية محاولة للفصل بين التربية والأخلاق لا يمكن أن تُعمر طويلا ولابد أن تنتهي بالفشل” (ويلس.ن. بوتر، 1958، ص65)، والحال أن الإنسانية بما هي إنسانية، لم تستغن يوما عن التربية، اللهم في الأوجه التي تخص اختلاف التصور، فمثلا التربية في العصر القديم أو الكلاسيكي مختلفة تماما عن تصورنا نحن اليوم في مجتمعنا المعاصر، وهكذا فالمجتمع القادم سيعرف تطورات لا حصر لها في مجال التربية تنظيرا وممارسة ذلك أن التربية في جوهرها هي بنت اليومي والمُعاش والأساس الذي يبنى عليه المجتمع. وقد أشار الفيلسوف الألماني كانط إلى أن التربية هي أهم وأصعب مشكلة تُطرح على الإنسان.
كيف يمكن للتربية أن تصبح مشكلة في المجتمع المعاصر؟
في ظل التحولات التي يشهدها العالم الجديد، والذي يفرض حركية وديناميكية على مستوى القيم الأخلاقية، باتت التربية مشكلا حقيقيا يُعيق مسألة التفاعل بين بني الإنسان، خاصة إذا لم تكن التربية التي تلقاها الأفراد تحترم الفروق الفردية والفروق بين الجنسين فمثلا ”الإناث يعطين أهمية لبعض القيم عن الذكور، ومنها: السلام العالمي، السعادة، والانسجام الداخلي، والنجاة والخلود في الحياة الآخرة والحكمة، والنظافة، والحب. أما الذكور فتتزايد لديهم أهمية كل من: الحياة المثيرة، والإنجاز، والحرية، والسعادة، والتقدير الاجتماعي، والطموح، والكفاءة، والخيال، واستخدام المنطق- بالمقارنة مع الإناث” (محمد خليفة عبد اللطيف، عالم المعرفة، الصفحة 97)، طبعا حتى هذه الفروق السالفة الذكر يلحقها التغيير من مجتمع لآخر. اختلاف القيم من فرد لآخر قد يُفسح المجال للصراع بين بني الإنسان، خاصة في ظل الانفتاح على قيم افتراضية يصعب معها التكهن بمستقبل الإنسان الذي سلبته التكنولوجيا ذاته، وهنا نشير إلى أن التنشئة الاجتماعية لم تعد تحترم المراحل المعروفة في التربية-التربية الأسرية، المدرسة… ، بل أضحت تتأسس على جانب افتراضي قرب المسافات بين الطفل والعالم المحيط به.
كلها متغيرات جعلتنا أمام طفل منفتح على كل شيء ولم تعد تلك الوصاية التي تفرضها التربية الوالدية سارية المفعول، بمعنى لم يعد يقتصر على ما يستدمجه في البيت (الأسرة)، كما كان من قبل لأنه بات يتلقى عدة قيم من عوالم تُغنيه عن الأسرة وهنا يصبح رهان التربية هو مواكبة المتغيرات الجديدة، فالتطورات السريعة التي يشهدها المجتمع المعاصر فرضت على الآباء ضرورة فهم الواقع الجديد لأننا في حاجة إلى تربية كونية تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية للانتقال من ضيق الرؤيا إلى سعتها.
فأن أربي طفلاً على قيم كونية فالأكيد أنه سيقبل الآخرين دون اللجوء إلى الحكم على أفعالهم من رؤيا ضيقة تحكمها الإيديولوجيا، وهنا ينبثق تحدٍّ آخر؛ فهل كل من يُمارس فعل التربية على الناشئة قادر على أن يستوعب فكرة القيم الكونية؟
في المجتمع الحالي تغيرت النظرة كليا إلى التربية ومعها تغيرت الوسائل والطرائق التي مورست على الأجيال السابقة، ويأتي هذا التغيير مقرونا بالوثبة التي عرفتها التحولات الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى دخول العالم الافتراضي في الحياة اليومية، الذي أثر سلبا في التربية وأصبح من الصعب التحكم في ما تتلقاه الناشئة من موارد مختلفة بعضها ما ورائي، غريب عن هوية الطفل الدينية والثقافية والاجتماعية، فالطفل اليوم أذكى من الراشد، لتصبح مقولة فرويد بأن ”الطفل أبو الراشد” لها راهنيتها بشكل يقيني في واقعنا الجديد، وبالتالي يصعب على الآباء التخطيط لمستقبل الأبناء سيما في الوضعيات الصعبة على اعتبار أن الطفل انخرط قبل الراشد في عالم جديد عالم مجهول لا يتناسب وخصوصيات كل مرحلة عمرية، والأدهى من ذلك كله هو أن معرفة الطفل اليوم أصبحت تُضاهي معرفة الراشد، وبالتالي أصبح من الصعب على الآباء الحفاظ على دورهم المتمثل في التلقين ليقتصر على التوجيه والإرشاد.
إن هذه التطورات السريعة التي باتت تُهدد أسس التربية تقودنا مباشرة إلى إعادة صياغة السؤال الذي طرحه فولتير ذات مرة وهو: ”أريد أن أعرف ما هي المراحل التي مر بها الناس من حالة البدائية إلى حالة التحضر؟” فالتربية مرت بمسار طويل بدون أدنى شك، وكما أن المجالات الحياتية للإنسان تعرف التطور فإن التربية هي الأخرى مسها ما مس المجتمع بأسره، من خلال عمليات التثقيف والمثاقفة، فالإنسان البدائي وبالرغم من الفوارق الشاسعة بينه وبين الإنسان الحديث على جميع الأصعدة، إلا أنه عرف فعل التربية ومارسها بدوره على الناشئة، بما أملته عليه ثقافة عصره، فمتى وجد الإنسان وجدت التربية. ولما كانت التربية حسب جون ديوي هي النمو إلى ما هو أحسن بالنسبة للفرد والجماعة فهي بهذا المعنى تتوخى الارتقاء على المستوى القيمي والإعداد الفعلي للحياة الاجتماعية، لأن السلوك الأخلاقي ما هو إلا شرط ضروري للحياة الخيرة، وسعادتنا تزداد بقدر ما نرتقي في الحياة الأخلاقية.
حظيت التربية الأخلاقية باهتمام كبير من لدن رجال الدين والفلاسفة وعلماء التربية على مر العصور، وهذا ما يبرر هذا الزخم في طرائق التربية ونظرياتها المتعددة، التي تعرفها الساحة العلمية تنظيرا وممارسة، ويكون بذلك التصدي لمختلف الظواهر الاجتماعية التي تنبلج بفعل العولمة الثقافية، والتي تعني قلب وتزييف وعي الأفراد تجاه مقومات وجودهم، الأمر الذي يضعنا وجها لوجه أمام واقع مأزوم يجعلنا في حاجة ملحة لقيم جديدة، فالوجود الإنساني هو رغبة في الوجود، يتخطى إشباع الحاجات المادية في الاتجاه نحو القيم، وعليه نكون اليوم أحوج ما نكون إلى تربية أخلاقية، تُواكب هذا التطور الحاصل.
إن الاهتمام بالحكم الأخلاقي عند الأطفال خاصة مع جون بياجي، له ما يبرره فالطفولة تعتبر الأساس الذي تُبنى عليه الأخلاق التي يحتاج إليها في الكبر، وهذا ما يجعلنا في حاجة ماسة إلى تنمية الحكم الخلقي بشكل أرحب يقبل الجميع لئلا نُسهم في خلق ناشئة متعصبة ترى في الآخر المخالف تهديدا لوجودها، وبالتالي يعم الصراع والاقتتال. من هنا انبثقت الحاجة إلى تربية المستقبل تربية متوازنة تجعلنا نقبل الإنسان كما هو لا كما نرغب نحن.
لا يمكن الفصل ما بين التربية والأخلاق، ذلك أن التربية هي الفعل الذي يكرس الأخلاق لدى الناشئة، من خلال تمرير مجموع القيم والنظم والعادات والقوانين من جيل الأسلاف إلى جيل الحاضر، فالقيم الأخلاقية بدون أدنى شك هي التي تسهم في تماسك المجتمع ووحدته، من هنا تصبح التربية الأخلاقية بمثابة إرشاد الطفل لتكوين مجموعة من القوانين الأخلاقية لنفسه، وبالتالي يمكن القول إن الحكم الأخلاقي هو: الميزان والمعيار الذي يختاره الأفراد والجماعات لتقييم أفعال الآخرين والحكم عليها. فهو الطريقة التي يتوصل بها الفرد إلى حكم معين بالحسن أو القبيح، الذي يستمد معاييره من أخلاق المجتمع، بهذا المعنى تلعب التربية الأخلاقية دورا أساسيا في إكساب وإدماج مجموع العادات والقوانين والنظم لدى الطفل قصد الاندماج داخل المجتمع، وهو الأمر الذي يُسهم في خلق وبناء الحكم الخلقي الكوني.
نحو بناء الحكم الخلقي:
نعيش اليوم على وقع تغيرات لها انعكاساتها الإيجابية كما السلبية، إن على المستوى الفردي أو الجماعي، والتربية باعتبارها الفعل الذي يُمارس على الناشئة حدث أن أصيبت بدورها برجة قوية، في ظل ما مس العالم المعاصر من تحولات فهي-التربية- بنت المجتمع وطبيعي أن تتأثر بالبيئة الاجتماعية، ولما كانت العولمة هي السمة التي وُسم بها المجتمع الذي نعيش فيه، فلا غرو أن تكون قد أسهمت وبشكل كبير في تحويل العالم من وضعية الغربة إلى وضعية الأُلفة والانسجام بحيث لم يعد العالم يمتثل للحدود الجغرافية فمع العولمة لم تعد هناك أي حدود، اللهم إذا استثنينا الحدود العقدية والفكرية التي ما تزال تشكل خطرا في بعض الأحيان خاصة في صفوف العقول المتحجرة.
إن الحديث عن بناء الحكم الخلقي ينقلنا إلى الحديث عن الاختلاف القيمي الأخلاقي الذي يشكل للفرد دعامة على إثرها يُبنى لديه الحكم، وطبعا هذا الحكم سيكون مختلفا من فرد لآخر، فهناك ”مشاكل متعلقة بالوضعية العامة التي يُعاني منها المجتمع العالمي ككل وضعية تتسم بالتخلف الاقتصادي وتفاوت كبير بين الطبقات الاجتماعية، كلها عوامل بلا شك سيكون لها الأثر البالغ على التربية وبناء الحكم الأخلاقي، فالأكيد أن هوة الاختلاف على مستوى القيم الأخلاقية ستكون كبيرة جدا وهذا ما يستدعي الوعي بضرورة وضع قيم كونية تُوحد الإنسانية اليوم. فعلى الطفل ”أن يكتسب أيضا مفاهيم عن العدالة والحق والإخلاص والشجاعة تصلح أن تكون بمثابة دوافع قوية للسلوك”. (ويلس.ن.بوتر- ترجمة اديب يوسف،1958، ص 66).
بالرغم مما ساهمت فيه العولمة من إيجابيات إلا أنها كرست مجموعة من السلبيات، فالإنسان المعاصر يعيش وضعية عدم الاستقرار بحيث لا يكاد يخرج من وضعية الاغتراب وهنا مكمن المفارقة ففي الوقت التي يُسرت فيه كل السبل لتحقيق التواصل غاب التفاعل فعمت الغربة، غربة مع الذات وغربة في العلاقة مع الآخر، لتصبح الحاجة ماسة إلى خلق نوع من التكيف الذاتي من جهة وكذا التوافق الاجتماعي من جهة ثانية، وبمقتضى هذا الرهان تبرز قيمة وأهمية التربية الأسرية باعتبارها القناة الأولى التي يتهيأ للطفل من خلالها استدماج مجموع القيم الأخلاقية وبالتالي تسهيل عملية انتقال الطفل من الأسرة النواة أو المركزية إلى المجتمع وبناء تمثلات وأحكام أخلاقية كونية. وهذا يتطلب جهدا بالغا في توجيه الناشئة للحياة الاجتماعية عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية باعتبارها ”الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تصبح بعد ناضجة للحياة الاجتماعية حسب دوركايم”، ذلك أن الطفل الذي تلقى تربية سليمة تراعي خصوصيات مرحلة الطفولة وتعي بالمراحل التي يمر منها الطفل وتثبيتها، بدءا بالطفولة المبكرة إلى المراحل المتقدمة من الطفولة، فالأكيد أنها ستفلح في خلق فرد صالح لنفسه ولمجتمعه، يرى التحليل النفسي أن ارتقاء القيم يسير بالتوازي مع الارتقاء النفسي الجنسي، وطبقا لتصور فرويد S.Freud- يكتسب الطفل أناه الأعلى من خلال ما أسماه بالتوحد identification، مع الوالدين، فيقوم الوالدان بدور ممثلي النظام، فهما يعلمان الطفل القواعد الأخلاقية والقيم التقليدية والمثل العليا للمجتمع الذي يتربى فيه الطفل، وهما يفعلان ذلك عن طريق مكافأة الطفل عندما يفعل ما يجب عليه، كما أنهما يعاقبانه عندما يخطأ فيما يجب عليه (كالفين سيرنجر، لندزي جاندنر، 1997، ص65).
وُسم المجتمع المعاصر بميسم اللا استقرار، وشمل ذلك مختلف المجالات الحياتية، وقد بلغ هذا التغير دروته انسجاما مع الثورة العلمية والتكنولوجية التي أثرت بشكل أو بآخر في المجتمع، فجعلت الإنسان يعيش على وقع الاستلاب لطاقة خفية افتراضية مذهلة تفوق حدود الخيال، حيث اختزلت فيها المسافات بين المجتمعات على وجه الأرض، كل هذا يجعل من سؤال التربية سؤالا راهنيا بامتياز، ما مصير التربية إزاء هاته التغيرات الكبيرة التي بات يشهدها مجتمع المعرفة؟
أمام هذا الواقع الجديد، فُرض على الإنسان وخاصة المربي أن يواكب ما استجد في التربية وعيا منا بالحركية التي تشهدها القيم وبالتالي فالتربية تحتاج إلى تحيين استجابة لتغير أنماط العيش من جهة ولظهور قيم جديدة لم تكن معروفة فقد يحدث أن تتعارض القيم، قيم الآباء مع قيم الأبناء حيث إن جيل الآباء غير جيل الأبناء، هناك قيم قديمة لا تتفق مع القيم الجديدة التي يعتقد فيها الأبناء أن وضع الإنسان في مجتمع المعرفة أصبح يتسم بنوع من الغربة مع ذاته ومع المحيط الذي يعيش فيه، في الوقت الذي يعرف المجتمع عوالم مختلفة، غدت الأسرة -باعتبارها النواة الأولى للتربية- محاصرة ومهددة ينتزع منها اختصاص تلو اختصاص قأصبحت بالتالي مؤسسة محيطية تعاني من أزمة بخصوص وظائفها ومسؤوليتها داخل المجتمع” (جسوس محمد،1982، ص59)، وأمام هذا الوضع تتدهور القيم أو تموت بلغة نيتشه، وموت الإنسان هذا يقود إلى فكرة أخطر وهي تشييئه أو اعتباره سلعة؛ وسيلة لا غاية في مجتمع استهلاكي تنافسي يتوخى الربح ولو كان على حساب إنسانية الإنسان، وكرد فعل على ما هو كائن وحاصل، تتعالى أصوات تُطالب بالعودة إلى إحياء القيم والعلاقات الإنسانية.
الحكم الخلقي والتوافق الاجتماعي
لا يخفى على بال أحد أننا اليوم أصبحنا نعيش واقعًا متحللاً ومتحررًا من كل القيود الأخلاقية، فالمتغيرات الجديدة والسرعة في تكالب الظواهر والمستجدات، بدون أدنى شك لها انعكاساتها القيمية، ليصبح بذلك التوافق الاجتماعي هو المعيار الذي من خلاله نحكم على مدى تخلف المجتمع من عدمه، الأمر الذي يدعونا إلى مراجعة الأسس التي تبنى عليها قيم كل المجتمعات، للمثول أمام قيم أخلاقية عالمية تؤطر الفعل الاجتماعي.
يعيش الأفراد في ظل مجتمع إنساني قائم على ضرورات العيش معا، فكل فرد يؤثر في الآخر بشكل إيجابي أو سلبي، وهنا يأتي دور الحكم الخلقي الذي يُسهم في الإبقاء على استمرارية العلاقات بين بني الإنسان، لأن الجماعات ”لا تقوم بإشباع حاجات الفرد ولا تحقق رغباته دون قيد أو شرط، وإنما تضع له قواعد وأسسا يتم في نطاقها إشباع حاجاته وتحقيق رغباته، وعلى الفرد الذي يعيش وسط هذه الجماعة أن يتكيف مع أوضاع الجماعة السائدة، ومن هنا يبدأ تأثير الجماعة في شخصية الفرد” (ميخائيل خليل معوض، 1982، ص71). وتحقق التوافق من عدمه رهين بالتربيةـ إذ كلما كانت التربية مرنة قابلة للاختلاف كان الفرد متوافقا مع المجتمع والعكس بالعكس. ففي الوقت الذي من المفترض أن نعيش فيه وضعا آيلا للتعايش والحوار يحدث أن ينشب الصراع، لأن أغلب الحروب تكون نتاجا للتعصب للفكرة، للدين، للجنس…وكل هذا يعود إلى كيفية بناء الأحكام الأخلاقية، وبالتالي فنحن أحوج ما نكون إلى الأخلاق المفتوحة بلغة بيرجسون وهي أخلاق ”إنسانية تتجاوز حدود الجماعة، وتتسم بأنها مليئة بالحركة والخلق والإبداع” (ابراهيم زكريا، 1969، ص101)
إن اختلاف المقاييس الأخلاقية من جماعة لأخرى يسبب للأطفال وللراشدين أيضًا مشاكل جمة. فالطفل الوليد من وجهة علم النفس ليس مع الأخلاق ولا ضدها، وسلوكه لا يتصل بشكل من الأشكال بالمقاييس الأخلاقية، لأنه لا يستطيع أن يهتدي إلى ما هو مقبول لدى الجماعة المرجعية التي أصبح فردا منها وإلى ما ليس مقبولاً لديها.
إننا نعيش أزمة أخلاقية، جراء الوضع الذي يشوب كل المجالات، ومشكلة الأخلاق لم تكن مشكلة تجاوزها الزمن واستغنت عنها الشعوب، فكما نتحدث عن الأزمة الحضارية والأزمة السياسية، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية، وجب الحديث اليوم عن الأزمة الأخلاقية، لأهمية الأخلاق المُلحة في الحفاظ على التوازن داخل المجتمع، كونها هي الضامنة للأمن والسلام. فالإنسان الحديث في بحث دائم عن أحدث الأشياء لسد رغباته وميولاته، حتى يستطيع مجاراة الواقع الذي يعيشه، ومع هذا الوضع صارت حياتنا من إحساس إلى إحساس، حتى إن حساسياتنا تجاه القيم أصيبت بدورها بنوع من التبلد، جراء الاختلاف والتنوع الذي يعتريها، فمثلا بعضُ القيم التي نجدها مقبولة في المجتمع الأمريكي أو الفرنسي قد لا نجدها مقبولة في المجتمع المصري أو المجتمع المغربي، وبالتالي إشكالية القيم الأخلاقية، ستظل دائما حاضرة بشكل كبير في مجتمعاتنا المعاصرة. كما طُرحت في حضارات ومجتمعات عرفها التاريخ في الماضي، وإن كان الأمر مختلف اليوم بفعل التحولات الكبرى، فلم يعد الإنسان الحالي بإمكانه ضبط ميولاته ورغباته. كما أن واقع التربية أصبح اليوم في حاجة ماسة إلى دراسات أكثر تطورا، حتى تستجيب لحاجيات الأطفال دونما القطيعة مع التربية (الكلاسيكية) التي أسس لها المنظرون الأوائل، لأن أطفال اليوم ليسوا أطفال الأمس، فالطفل في مجتمع المعرفة أصبح أكثر فاعلية وأكثر ذكاء مستفيدا في ذلك من التكنولوجيا وما توفره الحياة من وسائل اللعب المختلفة، “يجب إذن، أن نقوي كل المركبات الفنية والمجتمعية لكي نهيء الفرد لحياة أطول…” (ميالاريه غاستون، 1980، ص45) هذه الحياة لا يمكنها أن تطول إلا بالتوافق الاجتماعي والقدرة على العيش ضمن جماعات بأفكار وتصورات مختلفة.
على سبيل الختم
إن التحولات الاجتماعية اليوم بلغت درجة من الاختلاف والتباين، والزيادة في نمو الفروقات، على جميع المستويات، وهي –تحولات- تُعيق مسألة التوافق، الأمر الذي يفضي إلى نشوب الصراع بين الأفراد والجماعات، وبالتالي كلما كان الخلاف أكبر قل التوافق أكثر.
ما أحوجنا اليوم إلى التوافق الاجتماعي، حتى يتسنى لنا العيش في بيئة، خالية من التنافر والصراع، في مجتمع متفاعل ومنصهر فيما بينه، بعيد عن التشنجات، وهو مجتمع تربع على عرش الحضارة علميًّا ومعرفيًّا، لكنها حضارة آيلة للانهيار لأنها بنيت على حساب القيم والإنسان، ناهيك عن المرجعيات الأخلاقية التي عرفت هي الأخرى تنوعًا ملحوظًا جدًّا، الأمر الذي أسهم في خلق هوة بين الأنا والآخر في المجتمع الواحد بل وفي الأسرة الواحدة، في ظل العوالم المتعددة، لتصبح الحاجة ماسة إلى بناء مشترك إنساني تجاوزي وليس تعاقديًّا، روحيًّا أكثر منه قانونيًّا يحترم الإنسان بما هو إنسان.
قائمة المراجع:
جابري محمد، (1988)الأخلاق والدين بين علم الاجتماع والتصوف، ط3، دار عمار عثمان جابري
عبد اللطيف محمد خليفة،(1992) ارتقاء القيم (دراسة نفسية)، عالم المعرفة.
ويلس.ن.بوتر التربية وسيكولوجيا الطفل،(1958)- ترجمة أديب يوسف. المطبعة التعاونية دمشق، دط
جسوس محمد، التطورات العائلية والتنشئة الاجتماعية للطفل المغربي، مجلة الدراسات النفسية والتربوية، العدد الأول- يناير 1982.
هول(كالفين سيرنجر)، لندزي (جاردنر)،(1981) نظريات الشخصية، ترجمة: فرج أحمد فرج وقدري حفني محمود ومحمد فطيم، مراجعة: لويس كامل مليكه، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر.
ميخائيل خليل معوض، (1982)، علم النفس الاجتماعي، دار النشر المغربية الدار البيضاء
إبراهيم زكريا، 1969، المشكلة الخلقية، ط1، دار مصر للطباعة
ميالاريه غاستون، 1980، مخل إلى التربية، ط4، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات بيروت-باريس.