بقاء مؤقت

الأرض باقية ونحن راحلون. قرأتُ هذه الجملة في جوابات أخي التي يرسلها إلينا، سألت أمي عنها كثيرًا: ماذا يقصد أخي بجملته هذه يا أمي؟ تلتفتُ إليَّ، يباغتني صمتها. منذ سفر أخي وأمي يلازمها الصمت، كلماتها قليلة، اعتدنا صمتها وهي تتحسس جدران البيت، الأشياء، الصور المعلقة. طبعت بصمة أناملها على كل شبر فيه، لا أعرف لماذا تكف أمي عن الكلام ولا تكف عن لمس الأشياء من حولنا؟ جاء صوتها من بعيد لتخبرني: لأننا راحلون؟ البيت باقٍ ونحن راحلون.

متى سنرحل يا أمي؟ ولماذا ذهب أخي وتركنا مثل أبي؟ لماذا لم نذهب أنا وأنتِ وأختي معهما؟ يأتيني صمتها ناهيًا عن كثرة الثرثرة، تمسك أختي بياقة قميصي معنفة إيايَّ: أنت لا تكف عن الثرثرة التي تغضب أمي، حين تبلغ السادسة عشر سترحل كما رحل الأولون.

– سنرحل جميعًا يا أخيتي.

– لا، لن نرحل، الأرض باقية ببقائنا لا برحيلنا عنها، وإن كان ثمة رحيل فهو لباطنها، رحيل إليها وليس عنها.

يتزين جدار بيتنا بلوحات فنية لأمي وإخوتي، آخر توقيع للوحة رسمها أبي كان قبل سبع سنوات، كنت حينها في الخامسة من عمري، ولأمي من خمس سنوات. قرأت آخر توقيع لأخي وقد ترك لوحته بلونها الرمادي: الواقع لا يحتاج إلى ألوان. هناك لوحة تبدو صورة فوتوغرافية مكبرة، تجذبني لحديثها الصامت، أقرأ في عيون صاحبتها الكثير، وكأنها تقول: نحن باقون، سنبعث النور من عتمتنا. تقف فتاة في منتصف غرفة يتقوض فوق رأسها أساسها، يتهدم السقف ليعلو القمر رأسها، يحيل لون فستانها الأبيض إلى اللون الرمادي، تنتشر بقع داكنة على وجهها فيخفي ملامحها ولا أستبين لأيهما تنتمي الصورة، لأمي أم لأخيتي؟!

تطلب أمي أن أجدد أحلامي كل يوم على اللوحات، لتعلقها أختي وتتحسسها أمي. في كل مرة كنت أرسمها ألون عينيها البيضاء التي أذهب البكاء لونها ونورها. مع كل لوحة تسأل أمي أخيتي عن حلم اليوم، فتجيبها أختي: بيت تحيط به حديقة غنَّاء يلعب بين شجيراتها. تضحك أمي: سيظل صغيرًا حتى بناء البيت!

في اللوحة التالية، عروس ناصع بياض فستانها، استبدلت بالغرفة المهدمة لآلئ تتدلى من السماء، يمسك بها من أعلى قمرٌ خرج من عتمة الظلام. تضحك أمي وتقول: أنتِ العروس يا بنيتي. في اللوحة الأخيرة، أرض يبدو في باطنها نور، يعلوه على سطحها ظلام، لا يرى السائرون سوى الظلام، امرأة تنحني لتحفر في باطن الأرض، تكاد تقترب من النور، الجميع خلفها يجذبونها لتنهض لكنها راسخة كوتد ثابت في الأرض، يمتد شعاع النور من باطنها نحو عينيها، ضربة واحدة من يدها سينير وجهها ذاك النور. تحسست أمى اللوحة، أمسكت القلم وفي طرف اللوحة كتبت: من أرحامنا يولد الأمل.