قد يبدو مصطلح “علم البصريات الوراثي” أشبه بذلك المقرر الدراسي الصعب الذي يحاول طلاب الجامعة تجنبه، لكنه في الحقيقة ليس بتلك الدرجة من السوء، فمع قليل من التفكير الإبداعي، وشيء من الخيال العلمي، سندرك سريعًا أن هذا المجال الجديد، من أكثر مجالات العلوم والطب تشويقًا. فعلم البصريات الوراثي ليس حلمًا بعيد المنال على تخوم العلم، بل فكرة ولدت من رحم الخيال العلمي. ويبدو أن تحقيقها ممكن وفقًا لآخر الأبحاث المتعلقة بالمجال، والتي حققت تقدمًا علميًّا مهمًّا فيه، وبدأ الأطباء والباحثون في مختلف أنحاء العالم باستخدام هذه التقنية لدراسة الدماغ البشري.

يُعنى علم البصريات الوراثي بالتحكم بسلوك الخلايا في الأنسجة الحية من خلال استخدام الضوء والجينات معًا، ويتوقع أن يسهم هذا العلم في فهمٍ أكثر دقة بما يتعلق بالشبكة العصبية شديدة التعقيد. فقد وجد العلماء على مدار عقود، أن بعض الكائنات الدقيقة مثل الطحلب الأخضر الوحيد الخلية، يمتلك بروتينات تستجيب للضوء من خلال فتح قنوات في غشائها، سامحة بدخول الأيونات المشحونة مثل الكالسيوم والصوديوم.

وخلال العقد الماضي تمكن إدوارد بيودين -أحد مطوري هذ العلم- وغيره من الباحثين، من نقل الجينات المسؤولة عن البروتين الحساس للضوء إلى الخلايا الدماغية، مما جعلها تستجيب للضوء. وبإضاءة نبضات من الضوء على هذه الخلايا المعدلة جينيًّا، يمكن للعلماء تشغيلها في غضون أجزاء من الثانية (مللي ثانية)، ومن ثم إيقافها بوقت مماثل، حيث ستتحرك الأيونات بشكل مماثل لحركتها في حالة السيالات العصبية الطبيعية.

ومن تطبيقات هذا العلم، المساهمة في علاج الصرع، فبإمكاننا إيقاف نشاط الخلايا العصبية المساهمة في الصرع، وهذا ما أظهرته الدراسات على الحيوانات كما قال بويدين. وكذلك الشلل الرعاش (الباركنسون)، فمن الممكن أن يقدم علم البصريات الوراثي تقدمًا أكبر في فهم المرض، والذي يتضمن اضطرابًا في المناطق المتحكمة بالحركة المضبوطة في الدماغ.

ومع التطورات الحديثة في مجال علم البصريات الوراثي الناشئ، أصبح من الممكن الآن إدخال قنوات الأيونات الخفيفة والمضخات بشكل انتقائي، في مجموعات محددة من العوامل الوراثية من الخلايا العصبية، لتحفيز أو تثبيط عناصر الدارة العصبية بشكل انتقائي مع الضوء.

ومن خلال معرفتنا بكيفية تشغيل أو إيقاف الخلايا الدماغية بواسطة نبضات من الضوء، يمكن أن تسهم بفهم أفضل لعلاج بعض الاضطرابات مثل الشلل الرعاش، الصرع، الفصام. وما يزال هذا العلم -الذي لا يزيد عمره عن العقد- متوقفًا على الدراسات الحيوانية، ولكنه أصبح من أكثر الحقول إثارة في الأبحاث المتعلقة بعلم الأعصاب.

ولكن ثمة عوائق كثيرة أمام التطبيقات السريرية (الطبية) لهذا العلم، ومنها عدم وجود ناقل لقطعة الحمض النووي “الخاصة بالبروتين الحساس للضوء” مصدق عليه من قبل هيئة الغذاء والدواء إلى الخلية الدماغية في الإنسان. وكذلك يجب إجراء الكثير من الدراسات لوزن المنافع ومقارنتها بالمخاطر المتعلقة بتطبيقه سريريًّا، لأنه يتطلب تدخلاً جينيًّا وضوئيًّا. ولا ننسى كذلك الجانب الأخلاقي، فمثلاً بإمكاننا تشغيل أو إيقاف عدائية الفئران، ولكن هل ستكون هناك محاولات مماثلة تجرى على الإنسان؟ ومن الذي سيقرر إن كان هذا الإجراء مقبولاً طبيًّا أو قانونيًّا؟

يتابع الباحثون في علم الأعصاب الدراسة حول استعادة البصر عبر تقنية علم البصريات الجيني عن كثب، ويأملون في نهاية المطاف استخدام علم البصريات الجيني داخل الدماغ البشري لعلاج الأمراض العقلية الشديدة ومنها مرض الباركنسون.

قد يتيح هذا العلم للبشر، التحكم بأدمغتهم باستخدام جهاز تحكم عن بُعد يعمل بالضوء، فنضغط على أحد أزرار “جهاز التحكم الضوئي” لننام على الفور، ونضغط على زر آخر لنوقف مستقبلات الألم في أدمغتنا إن تعرضنا لإصابة، أو نتحكم بمختلف الوظائف الحركية في أجسامنا.. ولعل تحقيق ذلك كله ممكن في المستقبل من خلال هذه التقنية العلمية الجديدة، فضلاً عن استخداماتها في علاج الحالات الدماغية المرتبطة بالشيخوخة كمرض الألزهايمر ومرض باركنسون، إضافةً إلى علاج العمى، وشذوذات القلب، وحتى الأمراض النفسية.

جاء في مجلة “ساينتيفيك أميريكان”: “يمثل علم البصريات الوراثي مزيجًا من علوم الوراثة والبصريات، ويهدف إلى التحكم بوظائف وآليات محددة داخل خلايا معينة في النسيج الحي، ويتضمن ذلك اكتشاف الجينات المسؤولة عن الاستجابة الضوئية في الخلايا والتداخل عليها، إضافةً إلى تطوير آليات إيصال الضوء إلى أعماق الكائنات الحية المعقدة كالثدييات، ودراسة حساسية خلاياها له، ومدى استجابتها لتقنية التحكم الضوئي الجديدة هذه”.

ميدان لم يكتشف بعد

“إذا كنت تعاني من مرض مزمن، أو أُصبت بإعاقة تمنعك عمل ما اعتدت عمله، فقد تتحول كل مناطق التحكم التي تمتلكها إلى دخان، وإذا أُصبت بألم جسدي لا يستجيب للعلاج الطبي، فقد يتفاقم شعورك بالضيق بسبب الاضطراب العاطفي الناجم عن معرفة أن حالتك تبدو خارجة عن سيطرة الأطباء”.

هذه الكلمات أوردها “جون كابات زين” الأستاذ المتقاعد بكلية الطب في جامعة ماساتشوستس، في كتابه “حياة كارثية بالكامل” (Full Catastrophe Living)، ملخصًا تلك العلاقة الأبدية بين الإصابة بآلام جسدية والشعور باضطرابات نفسية تجعل الشخص يسير في طريق “أحلى ما فيه أمر من الصبار”، مشددًا على ضرورة “استخدام الشخص للحكمة الموجودة في جسده وعقله، لمواجهة الضغوط العصبية والآلام والأمراض”.

يتطلع العلماء إلى علاج العديد من الأمراض، أو تخفيف أعراضها باستخدام علم البصريات الوراثي، إذ يطمحون إلى استخدامه -مثلاً- في تصحيح اضطراب معدل ضربات القلب، أو استعادة الوظائف الحركية لدى مرضى الشلل، من خلال إخضاعهم لجلسات العلاج الضوئي لحث عضلاتهم على الانقباض.

قال فيتالي شيفتشينكو، من مختبر الدراسات المتقدمة للبروتينات الغشائية التابع لمعهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا: “لا ريب أن علم البصريات الوراثي سيلعب في المستقبل دورًا مهمًّا كعلاج محافظ في تصحيح فشل الأعضاء البشرية دون أي تدخل جراحي”، وأضاف: “قد نتمكن أيضًا من تطوير أجسامنا واستبدال بعض أعضائنا بأعضاء أخرى أكثر فعالية”. وتتضمن التطبيقات العلاجية المستقبلية لعلم البصريات الوراثي، علاج الأمراض العصبية التنكّسية والاضطرابات العقلية، والكثير من الأمراض الأخرى. ومع هذا، نعود ونذكّر أن الطريق أمامنا ما زال طويلاً لتحقيق كل ما سبق، على الرغم من التقدم المذهل الذي أحرزه العلماء في مجال علم البصريات الوراثي.

صفوة القول

يتابع العديد من الباحثين في علم الأعصاب، الدراسة حول استعادة البصر عبر تقنية علم البصريات الجيني عن كثب، ويأملون في نهاية المطاف استخدام علم البصريات الجيني داخل الدماغ البشري لعلاج الأمراض العقلية الشديدة ومنها مرض الباركنسون.

وقال عالم الأعصاب والمدير العلمي لبرنامج بحوث في المعهد الوطني لتعاطي المخدرات في بالتيمور أنتونيلو بونسي: “ستكون هذه التقنية بمثابة منجم ذهب من المعلومات عند تطبيق علم البصريات الجيني في الدراسات على البشر”.

وهناك علاجات أخرى قيد التطوير باستخدام علم البصريات الجيني، منها شركة “سيركويت ثيرابيوتك” في كاليفورنيا، التي تعمل على تطوير علاج للألم المزمن باستخدام علم البصريات الجيني، وتجرى الأبحاث بتمويل من قبل مؤسسة مايكل ج. فوكس لأبحاث مرض الباركنسون وتهدف إلى السيطرة على الارتعاشات المرتبطة بمرض الباركنسون باستخدام مصدر ضوء داخل الدماغ، وقد تم تجربة الأدوية أو زرع أقطاب كهربائية حتى الآن.

وقال “بونسي”: “قبل استخدام علم البصريات الجيني بشكل علاجي في الدماغ، فإن الباحثين بحاجة إلى مزيد من المعلومات حول الخلايا التي يجب استهدافها”، وأضاف “إلا أن هذا الأمر يمكن أن يحدث خلال خمس سنوات.

إن عمليات الزراعة التي تُجرَى حاليًّا في الدماغ لتُعزِّز ذاكرتنا، أو تُعالج الأمراض النفسية مثل الفصام والاكتئاب، وكذا علم الأطراف الصناعية العصبية الذي يسمح للمرضى المصابين بالشلل بتحريك أطرافهم، يُمثل خطوة عملاقة نحو مستقبل الهندسة العصبية. ففي يوم ما ستمكِّن الأجهزة الإلكترونية التي تُزرع مباشرة داخل الدماغ، المرضى الذين يعانون من إصابة في العمود الفقري من تجاوز الأعصاب المتضررة، والتحكُّم في أجهزة روبوت باستخدام أفكارهم، وربما تتمكَّن نظم الارتجاع البيولوجي في المستقبل، من توقع علامات الاضطراب العقلي وتجنُّبها. فبينما يستخدم الناس حاليًّا لوحات المفاتيح والشاشات باللمس، ربما يستخدم أحفادنا بعد مائة سنة من الآن، واجهات برامج يتحكم فيها الدماغ مباشرة، إلا أنه من أجل تحقيق هذا فإننا نحتاج إلى فك شفرات هذا الدماغ، وذلك بأن نتعلَّم كيف ندرس مجموعات الخلايا العصبية، ونقيس كيفية إطلاقها للنبضات، ونتعرَّف على بِنْية رسائلها.

وعلى الرغم من أن علم البصريات الوراثي لا يزال في مهده ، إلا أن استخدامه كشف بالفعل عن معلومات مهمة وجديدة عن الوظيفة العصبية التي يتعذر الوصول إليها باستخدام التقنيات التقليدية. وكأي علم جديد، فإن علم البصريات الوراثي بحاجة لمزيد من الدراسة واكتشاف التطبيقات، وفحص المنافع والمخاطر من استخدامه، وسيمر بمشوار طويل من الموافقات الحكومية وهيئات الغذاء والدواء، ولكنه -كما يبدو- سيقدم الكثير للعلوم العصبية وتطبيقاتها.

(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.

المراجع

(١) مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو، المجلد ١١٧، العدد ٤. يوليو- أغسطس ٢٠١٤.

(٢) علم البصريات الجيني ومفاجآت طبية كثيرة ، موقع العلوم الحقيقية.

(٣) الشبكة العنكبوتية- مواقع متعددة خاصة بالموضوع.

(٤) Optogenetics: controlling brain cells with lasers, By Ewen Callaway.