وحيث إنني من المتابعين لكتابات الأستاذ وإصداراته؛ أؤكد أن صدور كتاب جديد له، يعدّ بمثابة وضع ثقل مهم في إحدى كفتي ميزان التعادلية، تلك الكفة الطائشة التي تعاني من العجز الشديد أمام نظيرتها في زماننا كلما تقدمت بنا الأيام، تلك التعادلية التي أشار إليها توفيق الحكيم في كتاب له يعمل ذلك العنوان فقال: “ختم العصر الحديث على نفسه بطابع المادية، وعلى الرغم من بقاء الدين في كثير من البلاد المتحضرة، ماضيًا في دعوته، محافظًا على مظاهر قوته، إلا أن الناس جميعًا -حتى المتمسكين بالطقوس وروح النصوص- قد سيطرت عليهم النزعة المادية دون إدراك منهم؛ لأن جو العصر كله قد تشبع بها تشبعًا لا تجدي في صده النوافذ المغلقة ولا الأبواب الموصدة. فهواؤه يتسرب إلى النفوس وهي لا تفطن.. ما السبب في ذلك؟ السبب واضح، وهو أن التعادل الذي كان قائمًا حتى مطلع القرن التاسع عشر بين قوة العقل وقوة القلب، أي بين نشاط التفكير ونشاط الإيمان، قد اختل منذ ذلك الوقت بتوالي انتصارات العلم العقلي، واستمرار جمود الجانب الديني.. فالعلم وليد العقل قد ضاعف قوته وجدد وسائله ووسع آفاقه، في حين أن الدين وليد القلب بقي محصورًا في أفقه، لم يكتشف منابع جديدة في أعماق القلب الإنساني، تتعادل مع تلك العوالم الجديدة التي اكتشفها العقل البشري. وباختلال هذا التعادل وقع العصر الحديث في الجانب الأرجح، ونجم عن ذلك خضوعه للنتائج المترتبة على سيطرة العقل وحده. ومنها حرية الإنسان في هذا الكون تبعًا لحرية فكره، وإنكار كل ما لا يثبت بالبحث والاختبار. ومن ثم إنكار إرادة أخرى غير إرادة الإنسان أو وجود آخر غير وجوده، فهو كائن وحده في هذا الكون. وكان لهذا الاختلال في التعادل نتيجته الطبيعية التي لا بد أن تلازم كل اختلال في التوازن وهو القلق. فالقلق السائد في النفوس اليوم، مبعثه هذا الاضطراب في ميزان التعادل بين العقل والقلب بين الفكر والإيمان” بين المادة والروح.
ولذلك كان من الطبيعي أن تئن الروح، وهي ترى كفتها تطيش يومًا بعد يوم على ذلك الميزان، ولكن من يستطيع أن يستمع أنينها، ويترجمه في كتابة روحية دعوية ملهمة؟ قلة قليلة لعل أبرزهم الأستاذ كولن على نحو ما قدمه في كتاب “أنين الروح”.
بدأ اللقاء بكلمة للأستاذ صابر المشرفي رئيس تحرير إصدارة نسمات، حيث رحب بالضيوف، وهنأ الجميع بقدوم شهر رمضان المبارك، ثم عرَّف بالكتاب الذي يقع في ٣٢٠ صفحة من القطع المتوسط، وذكر أن للأستاذ كولن أكثر من ثمانين كتابًا، تُرْجِمَ أغلبها إلى حوالي خمسين لغة حول العالم، وكان نصيب اللغة العربية من هذه الترجمات ثلاثة وثلاثين كتابًا أحدثها “أنين الروح”، كما ذكر أن هذا اللقاء ضمن عدة فاعليات يرجو لها الاستمرار رغم كل الظروف للإسهام في إثراء الحياة الفكرية والروحية.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور عماد عبد الله محمد الشريفين، أستاذ التربية الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة اليرموك، الأردن، والخبير التربوي المتخصص في قضايا النمو الإنساني وتعديل السلوك من منظور إسلامي. وله العديد من المؤلفات في ذلك المجال، في كلمة بعنوان “تعديل السلوك الإنساني في أنين الروح”، حيث ذكر أن الأستاذ كولن قدم في هذا الكتاب نظرية متكاملة لتعديل السلوك الإنساني، وأشار إلى أن “تعديل السلوك” مصطلح حديث، نشأ في الثقافات الغربية، ولم يكن معروفًا في تراثنا، ولكن مقومات تعديل السلوك والأمر به ووسائله، موجودة بثراء في تراتنا، وفي الأثر “حسنوا أخلاقكم” وهي ما كوَّن منها الأستاذ كولن منهجه بدقة وترتيب وإحكام. ثم ذكر الدكتور عماد وسائل تعديل السلوك في علم النفس الحديث، مؤكدًا أن الأستاذ قدم في كتابه ما يحقق تلك الوسائل جميعًا، مبرهنًا على ذلك، وضاربًا الأمثلة، ومشيرًا إلى مكانها في صفحات الكتاب تحديدًا، ومما قاله: “أكاد أجزم أنه لا توجد صفحة في الكتاب إلا وتعلمنا سلوكًا جديدًا”، ثم ذكر الفئات التي يتوجه إليها الكتاب بالخطاب، فحددها في أربع فئات: الخصوم (خصوم الأستاذ كولن شخصيًّا)، وطلاب الخدمة الذين يقومون بالعمل فيها، والمسلمون بشكل عام، ثم الإنسانية جمعاء.
ثم قام برصد ملامح ذلك الخطاب وموضوعاته وأسسه التي تنبني على الوسائل السلمية في الكتاب كاملا، بإحاطة وتبيان ماتع، لاقى انتباه الحضور وإعجابهم.
ثم كانت كلمة الأستاذ الدكتور طاهر فال، أستاذ العلوم القرآنية، ورئيس اتحاد جمعيات المدارس القرآنية بالسنغال، تحت عنوان “ترميم حصون القلب، والبعد الروحي في كتاب أنين الروح”، فأشار إلى أن الأستاذ كولن لم يكتف بتقديم نظرية، وإنما قام بهندستها بإتقان، والجميل أنه قدم كيفية تطبيقها بصورة عملية، وتحويلها إلى واقع يعيشه الناس، وهذا هو التميز. وأكد الدكتور فال، أن هناك فرقًا بين إصلاح الذات والانزواء بعيدًا عن المجتمع من جانب، والاحتكاك بالمجتمع ومحاولة علاجه من جانب آخر. مؤكدًا أن هذه السبيل الأخرى هي الأجدى للفرد ذاته، فضلاً عن المجتمع أجمع.
وأشار الدكتور فال إلى ربط الأستاذ كولن بين إصلاح القلوب وإصلاح المجتمع، وأهمية اكتشاف مواطن الخلل والتركيز عليها. كما أشار إلى أن أسلوب الأستاذ كولن يتميز بالإقناع والأدلة، وليس كلامًا مرسلاً. كما أشار إلى بعض ما التقطه من الكتاب من درر تعد رسائل واضحة وقوية لإرساء المنهج وترميم الروح، ومن ذلك أن الذي لا يحمل الهم لن يشارك في التغيير، فلا بد من حمل الهم بصدق وإرادة، كما أن الذي في البئر ليس كمن هو خارجه.. وأشار الدكتور فال إلى أن الأستاذ كولن يستخدم لغة الحب على مدار الكتاب، وهي مشتركة بين جميع البشر، يستوعبونها على مختلف أجناسهم، وتجد طريقها إلى قلوبهم، ضاربًا بذلك مثل الذي يرقص الأفعى بمجرد عزفه الناي.
ثم كانت كلمة المتحدث الأخير الدكتور علاء شكر، المدرس بقسم الدعوة والثقافة الإسلامية، كلية أصول الدين والدعوة جامعة الأزهر، تحت عنوان “أسلوب الإرشاد وتأثير الكلمة لدى الأستاذ كولن”، فأشار إلى ما يكتنف الكتاب من صدق يستشعره القارئ بوضوح بين السطور، حتى إنك لتكاد تسمع أنين الروح كأزيز مرجل يغلي في صدر الكاتب. وأشار علاء شكر إلى أن الروح قضية محورية في فكر الإنسان، وهي كيان يحتاج إلى الترميم، كما أن العلم المادي بمفرده لا يمكن أن يحقق السعادة للإنسان في الدنيا، ويمكننا أن نصف العصر الحديث بأنه “عصر السرعة” أو “عصر التكنولوجيا” أو غير ذلك من أسماء، ولكننا لا يمكن أن نسميه “عصر السعادة” أو “عصر الطمأنينة” أو نحو ذلك. ومما ذكره في سياق ذلك قول الشاعر:
لَوْ كَانَ عِلْمٌ بِلَا تَقْوَى لَهُ شَرَفٌ
لَكَانَ أشْرَفَ خَلْقِ اللهِ إبْلِيسُ
ثم أشار إلى أن إصلاح الروح مطلب عالمي، ولا يخص المسلمين فقط، كما أن النصيحة مطلوبة من جميع المسلمين، كل في مجاله وتخصصه، وليس من علماء الدين فقط، كما أكد أنه إذا صلح المسلم ولم يهتم بإصلاح غيره فربما لا يجديه صلاحه.
وأشار الدكتور علاء إلى ما تضمنه كتاب الأستاذ كولن من ضوابط للإرشاد وتأثير الكلمة، ومن ذلك تقديم الأمر بالمعروف عن النهي عن المنكر، وذلك بخلاف ما هو معتقد من أن التخلية قبل الإعمار. ومن تلك الضوابط أيضًا البعد عن المبالغة في تصوير الباطل، لئلا يُغرَى به ضعفاء النفوس، وهذا مما يقع فيه بعض الوعاظ، إذ يبالغون في تصوير الباطل ثم يكون دحضهم له ضعيفًا أقل من مما صوروه به، فتكون النتيجة أنهم روجوا للباطل وهم لا يشعرون. وذكر أن ذلك يشبه ما يكون من المسلسلات التليفزيونية، إذ يبدعون في تصوير الشر، ثم لا يكون كافيًا أن يذكروا أنه شر. بعدما يكون الناس قد أعجبوا به وربما حرصوا على تقليده.
ثم كانت بعض الأسئلة من الحضور في مختلف دول العالم والذي تجاوز عددهم ٦٠ باحثًا وأستاذًا ومهتمًّا بالخدمة والدعوة، والتي أجاب عنها السادة الضيوف الكرام.
(*) شاعر وأديب مصري.