الزواج سنة من سنن الأنبياء، وثقافتنا وتراثنا وجذورنا الدينية تحث على الزواج ولا تحبذ أن يعيش الإنسان عازبًا. والزوجية سنة من سنن الله في الخلق والتكوين لا يشذ عنها عالم الإنسان، أو عالم الحيوان أو عالم النبات.. وهي الأسلوب الذي اختاره الله لاستمرار الحياة.
وقد نصح النبي الشاب المقتدر بالزواج، ومن لم يستطع فبالصوم قائلاً: “مَن استطاع الباءة فلْيتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرْج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء” (رواه البخاري).
وقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج، واعتبره من سنن الأنبياء عندما قال: “أربعٌ مِن سنن المرسلين: الحياء والتعطُّر والسّواك والنكاح” (رواه الترمذي)، وضمِن عونَ الله لمن يريد إعفاف نفسه عن المحرمات.
فأكد صلى الله عليه وسلم أن الزواج سنة من سنن المرسلين، وأنه حاجة فطرية فطر الله الناس عليها، وأن الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله لا يكون في كَبْت الحاجات الفطرية للإنسان ولا بِوَأد الرغبات الجسمية، ولكن الطاعة تكمن بوضع هذه الحاجات في محلها، وأن توضع على الطريق الصحيح.
أهداف الزواج
الزواج الهادف هو الذي يقوم على العقل والمنطق إلى جانب الحس والعاطفة، فإن ارتبط الزواج بغاية وهدف عمّت الأسرةَ الطمأنينةُ والسكينة، أما إن لم يراع الهدف في الزواج فلا جرم أن النتيجة هي وقوع الكثير من المشاكل، وسيادة القلق والاضطراب الدائم على أفراد الأسرة.
لقد شرع الله الزواج وحث عليه، وربطه في الوقت ذاته بالهدف والغاية فقال سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم:٢١)؛ فالغاية والهدف من الزواج، هو السكن إلى جانب غايات كثيرة، منها:
• تحقيق العبودية لله بتنفيذ أمره القائل: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)(النساء:٣).
• غض البصر وحفظ الفرج.
• إنجاب الذرية واستمرار النسل.
• تحقيق الفطرة الإنسانية وإشباعها.
• تحقيق الستر للمرأة والرجل.
ولكنني أعتقد أن الهدف الأسمى من مشروعية الزواج، هو الذي نص عليه ربنا عز وجل عندما قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)(الروم:٢١)، فقد قرر الله الهدف وهو السكنى، واللام للتعليل، أي: علة الزواج وغايته هي السكنُ الروحي والنفسي والجسدي.. وفي الواقع لا بد أن يتخذ الإنسان غاية له في كل أموره وسلوكياته؛ حتى يصمد في أعماله ومشروعاته في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ينشده، وإن لم يتخذ غاية لحياته فلن يستطيع أن ينظّم وقته أو يصل إلى أي هدف.
إننا إن لم نتشبث بالغاية في سلوكياتنا وأفعالنا، فسنضيع قدرًا كبيرًا من حظّنا في النجاح. أما إذا فقد الزواج الغاية والهدف فهو ممحوق البركة، شأنه كشأن الأعمال التي تخلو من النية، وأيّ اقترانٍ يشبه الزواج ويخلو من الغاية ولا يحاط بسياج من الإيمان ولا يكترث إلا بالمظهر الخارجي فقط والماديات فقط والشكليات فقط؛ فكثيرًا ما ينتهي بعدم التوافق وصعوبة التعايش، فضلاً عن انعدام البعد الأخروي، وخاصة إن اقترن اثنان أحدُهما مؤمن والآخر لا يؤمن بالله ولا بالقرآن ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مناص من وقوع خلافات فكرية ودينية، وتناقضات لا يمكن التخلص منها.
والدين يجعل الاقتران المشروع بالنكاح ركنًا وأساسًا وقاعدة للأمة الصالحة، قال صلى الله عليه وسلم: “تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة” (رواه أحمد)، بل إن الاقترانات المشروعة مرهونة بغاية معينة، فحري بالمسلم أن يكون بالغ الدقة في مسألة الزواج؛ لأن الزواج العشوائي الذي يخلو من المقصد والهدف يُقوِّض الضوابط المشروعة.
وهو هنا عندما يتحدث عن المباهاة بالنسل والذرية أمام الأمم لا يقصد الكم أبدًا، وإنما يقصد الكيف.. إذ إنه لا فائدة من كثرة عدد الجهال والكسالى والمحشِّشين، ولَشَخص واحد عاقل عالم متزن منتج مفيد للمجتمع، خير من آلاف الجهلة.
لذلك فدعوة النبي إلى التكاثر ليست منصبة على العدد بقدر ما هي منصبّة على حسن التربية والتنشئة، إذ لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتباهى بالسيئين من الناس أو الغشاشين أو المخادعين مهما تكاثروا وأنجبوا، ولكن يمكن له أن يتباهى بمن أحدثَ في أمته نهضة، أو بث في وجدانها توعية ومعرفة حتى ولو كان شخصًا واحدًا.
الأسرة ليست كما يفهم بعض الكتّاب مصنعًا لتوليد الأطفال، وليست آلة للتفريخ أو لإشباع الرغبات الجسمانية، إنما هي النواة الأولى للأمة وأهم جزء في المجتمع، وهي مؤسسة مقدَّسة أبرز معالمها النكاح، والنكاح ميثاقٌ له هدف وغاية؛ وهو يعني اقتران اثنين بعقد مشروع في إطار مبادئ معينة، أما الاقتران الذي تنعدم فيه قواعد النكاح فهو سفاح وزِنًا في شرع الله.
حكم الزواج
ولقد عني الدين الإسلامي بمسألة الزواج عناية كبيرة، وبناء على ذلك فقد أولى فقهاء الإسلام هذه المسألة أهمية كبرى؛ فكتبوا حولها العديد من المجلدات، ودرسوها بدقة وعناية بالغة، وقسموا الزواج إلى واجب وسُنّة ومباح ومكروه وحرام، وربطوه بالوضع الخاص للأشخاص، وهذا يعني أن الإنسان لا ينبغي له أن يتزوج عشوائيًّا كيفما اتفق، بل إن الزواج قد يكون للبعض واجبًا، وللبعض الآخر حرامًا.. وهكذا.
وتتقارب آراء الفقهاء من بعضهم في هذه المسألة، ولو استعرضناها لظهر التصنيف التالي بمعالمه الرئيسة:
الزواج الواجب:
إن خاف الإنسان على نفسه الزنا، أو خطرَ الوقوع في الحرام، وكان قادرًا على دفع المهر والنفقة على أسرته.
الزواج المسنون:
يكون الزواج سنة إن كان للإنسان رغبة في الزواج، ولم يخش أي مخاطر.
الزواج الحرام:
إن كان الزواج سيفضي إلى اتخاذ الشخص طرقًا للكسب غيرَ مشروعة، من أجل الإنفاق على بيته وأسرته، أو كان سيفضي إلى ارتكاب المحرمات، مثل الغش، والاختلاس، والرشوة.. أو كان سيُلحِق ضررًا بزوجته.
الزواج المكروه:
إن كان هناك احتمال -لا يقين- بأن الزواج قد يوقع الإنسان في الحرام، أو يجرّه إلى الظلم.
الزواج المباح:
إن كان الإنسان يقظًا حذرًا يكسب رزقه من حلال، ولا يخاف على نفسه الوقوع في الحرام، وكان قادرًا على دفع المهر والنفقة، فمثل هذا الشخص إن شاء تزوج، وإلا فأخّر.
أجل، ربَط دينُنا الزواجَ بغايات وأهداف سامية، لأنه ليس بالأمر الهين الممكن قيامُه على الحس والعاطفة فقط، لأن هذا الأمر المهم إن لم يقم على أسسٍ سليمة لا تتسبب في أيّ خواء منطقي أو حسي، فلا غرو أن نهايته أناس على أبواب المحاكم، وأرامل وأطفال لا عائل لهم.. ولذا فإن الدين قد أقام من البداية سدًّا لكل هذا، وحجرَ على الناس الإقدام إلى مثل هذا الزواج درءًا لما بعده من السلبيات، وأدرجه في قائمة الحرام والمكروه، وفضّل في هذه المسألة طريق العقل والمنطق والمحاكمة العقلية على الحس والعاطفة.
الأمر الذي نؤكد عليه ههنا، هو أن الزواج مسألة جدُّ مهمة، وبه تتكون الأسرة التي هي أهم عنصر في المجتمع، ولذا فإنه لا ينبغي لنا عند التفكير في الزواج، أن ننظر إليه على أنه أمر بسيط يتعلق بالرغبات الجسمانية للفرد، بل على أنه مسألة عامة ووطنية ودينية ترتبط بسعادة الأمة بأسرها، بل والإنسانية جمعاء.
(*) كاتب وباحث سوري.