عقدت الندوة عبر منصة زووم، نظرًا لمَ يواجهه العالم حاليًّا من احترازات في التجمعات بكل صورها. واستضافت الندوة كلاًّ من الأستاذة الدكتورة “هدى درويش” أستاذ الأديان وعميد المعهد العالي للدراسات الآسيوية في مصر، الأستاذ الدكتور “إكرام لمعي” أستاذ مقارنة الأديان بكليات اللاهوت بمصر والشرق الأوسط، والأستاذ الدكتور “عبد اللطيف أبو بكر” أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس بجامعة قناة السويس بمصر.
قدّم الندوة وأدار الحوار الدكتور “عبد الواحد محمد أبو حطب” أستاذ أصول اللغة في جامعة الأزهر بمصر.
استهلت الندوة بكلمة من المقدم، أكد فيها على عالمية الإسلام وتأكيد القرآن الكريم على تلك العالمية في غير موضع منه، والأدلة الكثيرة من أحاديث النبي ودعوته للسلم والتآخي، كما استشهد بنصوص من الكتاب المقدس الذي يدعم الفكرة ويؤسس لها، وبين الأسباب التي تدعو إلى الحوار، والضرورات التي تستلزم التعايش. وضرب مثلاً بوثيقة الأزهر الشريف التي أهداها للعالم عن الأخوة الإنسانية في فبراير ٢٠١٩ بالاشتراك مع بابا الفاتيكان بابا الكنيسة الكاثوليكية، تلك الوثيقة التي أقرتها الأمم المتحدة وجعلت يوم الرابع من فبراير يومًا سنويًّا لها شعاره “الأخوة الإنسانية”، وكيف أن مجلة حراء كانت تسعى في نفس هذا الجانب وفق هذه الرؤية المشتركة من العمل على الإخاء والمحبة والتعايش بين بني الإنسان؛ بأقلام مفكريها وكاتبيها وإدارة تحريرها.. ثم أعطيت الكلمة للأستاذ “عبد السلام أبو حسن” سكرتير تحرير المجلة، فرحب فيها بالحضور الكريم، وأشاد بجهودهم لإرساء قيم المحبة والسلام، وشكرهم على تلبيتهم الدعوة لحضور الندوة.
ثم أدار مقدّم الندوة الحوار إلى الأستاذة الدكتورة “هدى درويش”، وكانت كلمتها بعنوان “التعايش خيار أم ضرورة؟”. وقد افتتحت الدكتورة “هدى درويش” كلمتها بنصوص من القرآن والتوراة والإنجيل؛ تدعم السلام والمحبة، وتؤكد على التعايش المشترك. وأكدت في كلمتها على أن التلاقي الفكري واستفادة كل طرف من الآخر، هو طريق الإبداع والابتكار، وأن ذلك سيلقي ثماره لدى الشعوب بترقيها وسموها. كذلك أكدت على أن التعايش ضرورة في مواجهة المعضلات والكوارث العالمية، فهو السبيل الأمثل لخدمة الإنسانية وتحقيق المصالح البشرية العليا، وفي مقدمتها استتباب الأمن والسلم في الأرض والحيلولة دون قيام الحروب والنزاعات، وردع كل أسباب العدوان والظلم والاضطهاد الذي يلحق بالأفراد والجماعات ورفض استعلاء جنس على آخر تحت أي دعوى.
والتعاون في الكوارث الكونية التي تحدث في أوقات غير معلومة من فيضانات ورياح وأعاصير وأوبئة، التي تهدد الوجود الإنساني، وكفى بجائحة كورونا دليلاً لضرورة التعايش المشترك. وأشادت الدكتورة هدى، بجهود الأستاذ فتح الله كولن في هذا الإطار، ومساعيه مع بابا الفاتيكان عام ١٩٩٠، وكيف أن لقاءاته تلك كانت تطبيقًا عمليًّا لمفهوم التعايش بين الإنسانية، ونقلت نصوصًا من أقواله وعباراته القوية في هذا الجانب، “وأن المرء لا يستطيع أن يحقق شيئًا إيجابيًّا في جوّ تسيطر عليه العداوة”.
وفي ختام كلمتها أكدت الدكتورة هدى، على أن الحضارات تتحالف وتتلاقح وتتكامل، لكنها لا تتصارع ولا تتقاتل، وأن التعايش ضرورة لا محالة.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور “إكرام لمعي”، وكانت كلمته سؤالاً مهمًّا: هل يمكن بناء مشترك إنساني؟
واستهل كلمته بتقديم الشكر لمجلة حراء والثناء على إدارتها ومنهجها الوسطي، وسعادته بالمحتوى الذي يعنى بالمشترك الإنساني، والعلاقة بين الأديان والحوار والتعايش.
وقد فضل أن يبدأ بتعريفات مهمة لمصطلحات: “الإنسان، المشترك، المشترك الإنساني”.
فعرّف “الإنسان” بأنه: “كائن حي عاقل ناطق علاقاتي (اجتماعي: لا يفضل العيش بمفرده) مستقبلي، ينمو فكره باستمرار.
و”المشترك”: ما يشترك فيه الإنسان مع أخيه الإنسان.
أما “المشترك الإنساني” فهو عام وخاص؛ عام يشترك فيه جميع البشر عامة من عقل وعاطفة وجنس وحرص على الحياة وغيرها، وخاص بين كل إنسان وبين من سبقوه في تخصصه أو مجاله.
فمن المعروف أن المرء يزداد بمعارف غيره وأنه يقف على ما حققوه من إنجازات يتقوى بها ويستند إليها. وحاول الدكتور “إكرام لمعي” الإجابة على السؤال الأهم: كيف يمكننا أن نبني مشتركًا، على الرغم من اختلافنا في الدين أو الجنس أو المذهب أو التخصص أو غير ذلك؟
وطالب بالوضوء والاغتسال باعتبارهما مصطلحين مهمين في الإسلام والمسيحية، إذعانًا بمرحلة جديدة قبل الوقوف على أرضية مشتركة، لنعرف ما يجب أن يكون عليه مستقبلنا، وقبل الإجابة عن سؤال كلمته الرئيسي قال:
لا بد من تحديد الرؤية نحو هذا المشترك، وضرورة التخطيط له والاستعانة بالخبرات والكفاءات لنصنع الصورة النهائية لمستقبلنا، وما ينبغي أن يعيشه أولادنا وأحفادنا، وبيّن أن للرؤية أركانًا مهمة: بيئة، زمان، فلسفة.
فضروري أن تكون البيئة محلية بأفكارها لا مستوردة ولا مقلدة، وأن تراعي التاريخ وما يفرضه، فالله رب التاريخ، ومن لا تاريخ له من الصعب أن يصنع مستقبلاً، مع فلسفة تصوغ الأزمة وتصنع حلولها وتوازن بين كل عناصرها. وختم برؤيته لتحقيق المشترك، وأنه لن يتحقق إلا بمبادئ مهمة:
١- أن تبدأ ولا تخجل ببدايتك مهما تكن صغيرة ما دمت على صواب.
٢- ضرورة العمل والنمو، فمن يجاهد سينتصر، ومن يتكاسل فسيندثر.
٣- التحذير من خطورة التسرع والتعجل في حصد النتائج.
٤- عند النجاح والشهرة، احذر أن تصطدم بهما، فيضربك الكبرياء ويشتتك.
والناجحون فقط هم من يقدمون رؤى متكاملة معتمدة على الماضي متطلعة على المستقبل. ولا ينبغي أن تغيب المبادئ والرؤى الصادقة عن أصحابها، لأنهم إن خانوا مبادئهم سيخونون أنفسهم، ولن يحققوا نجاحا مطلقًا.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور “عبد اللطيف أبو بكر” في كلمته التي وسمها بـ”منطلقات التعايش المشترك في الأديان السماوية”.
استهلها بشكر إدارة تحرير المجلة وجهودها المترامية في هذ الإطار، وقدّم الشكر للمتحدثين ولمقدِّم الندوة على كلماتهم المهمة، وفضل أن يستلهم كلمته من أحاديثهم وأن يبني عليها.. وتساءل إذا لم يكن الحوار والتعايش الآن، فمتى؟ وإذا لم نكن نحن، فمن؟
وأشار إلى أن القضية لا تحتمل تأجيلاً ولا تأخيرًا، وأنه علينا أن نستفيد من التجارب السابقة لنقوِّم الأخطاء ونتلافى المنحنيات.. فلا يمكن -كما يقول أينشتاين- أن نسير في نفس الطريق ثم نتوقع أن نجد أنفسنا في مكان آخر، أو أن نعالج أمرًا بنفس الطريق ونتوقع أن تكون نتيجته مغايرة. وقضية الرؤية المشتركة تمثل حدود التماس بين الجميع. وقد عالج الإسلام قضية التعايش من منظور كلي ورؤية جامعة، والإنسان كائن مشترك بين قبضة من الأرض ونفخة من الله، والرحم الإنسانية رحم جامعة بين بني آدم، وهي رحم الأخوة التي تجمع ولا تفرق، وأن التعايش تفاعل ويعني الألفة والمودة، وهذا التعايش يمكن أن يقوم على قاعدة ذهبية؛ “أصالة بلا جمود وانفتاح بلا ذوبان”، وستحفظ هذه القاعدة لكل إنسان، ذاته دون حذف أو إلغاء أو تهميش للآخر.
ومن أهم مظاهرالتعايش، التعايش بالعدل والإقرار بالاختلاف، ليكون اختلاف تنوع وثراء وليس تماهيًا.
ثم ساق الدكتور “عبد اللطيف” شواهد عدة من القرآن الكريم والكتاب المقدس وأقوال الفلاسفة والمبدعين، التي تؤكد على ضرورة الاختلاف المقبول الذي يدفع للتكامل. ثم أكد على منطلق مهم وهو منطلق الكرامة الإنسانية، وأن البناء على الماضي أساسي دون فتح النيران عليه لئلا يهاجمنا المستقبل.
بعد انتهاء الكلمات الرئيسية
أفسح مدير الندوة المجال للنقاش واستقبل مداخلتين، إحداهما للدكتور “ثروت قادس” رئيس الأكاديمية الدولية للحوار: شكر فيها الحضور والمجلة وأشاد بها، ودعا لضرورة نقل الحوار للغرب للتغلب على الأفكار المعادية لرسالة السلم بين الحضارات، وشرح صحيح الدين لهم، وضرورة العمل على أن نعيش معًا، نفكر معا، نعمل معًا.
ثم تحدث الدكتور “عبد المجيد بوشبكة” الأكاديمي المغربي وأحد كتاب مجلة حراء، في المداخلة الثانية عن مسؤولية المؤمنين في العالم اليوم عن تحقيق التعايش، وأهمية إقناع العالم بالمشترك الإنساني، وتجاوز عثراته وترميم جراحاته لأنه واسطة عقد حلول المشكلات.. ثم وضح الدور الإنساني العظيم الذي تبناه الأستاذ فتح الله كولن طوال حياته ومنهجه.
وفي المداخلة الثالثة للقس “شكري شاكر”، أكد فيها على قضية الحوار، وأنها لا تحتمل تأجيلاً، وشكر الحضور جميعًا، وحذر من الفتاوى المتطرفة وخطورتها على المجتمع كله.
وفي ختام الندوة تحدث الدكتور “صابر المشرفي” رئيس تحرير إصدارة نسمات التي تعنى بالدراسات الاجتماعية والحضارية، وشكر الضيوف والمفكرين، وسجل إشادته بكلماتهم وإسهاماتهم، وعرض نماذج لأفكار الأستاذ فتح الله كولن التي كانت نماذج نظرية وتطبيقية معًا، وأكد من خلالها الأستاذ كولن على أن التمييز يتعارض مع القيمة التي منحها الله تعالى للإنسان، ودعوته للتحدث لا للصراع، ولإعلان الحرب على فكرة صراع الحضارات وصدامها. وأنه يجب على من يحاول الإصلاح أن يصلح نفسه أولا.
ثم ختم الدكتور “عبد الواحد أبو حطب” مقدِّم الندوة اللقاء، ملخصًا لأهم أفكار المشاركين، والدروس المستفادة من كلماتهم، ومداخلات الحضور، والدعوة لعقد مزيد من تلك الندوات البناءة المهمة في ظل ما نعانيه في العالم.. واستعان بفواصل بين كلمات الضيوف من مقالات كتاب “المشترك الإنساني”، ووجه الشكر للمشاركين في الندوة لإدارة التحرير والفريق التقني ولمشاهدي الندوة عبر الفيس بوك واليوتيوب.
(*) أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر / مصر.