محطات تاريخية في البيولوجيا التركيبية
في عام 1973.. قدم عالم الوراثة البولندي “واكاو سزيبلسكي” إيضاحاً عن هذا العلم خلال المؤتمر البيولوجي السنوي الثامن عشر حول “استراتيجيات التحكم في التعبير الجيني”. وبعد خمس سنوات.. فاز “آربر وناثانز وسميث” بجائزة نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء لاكتشاف إنزيمات الاقتطاع. وسمح العمل على «نيوكلياز الاقتطاع» ببناء جزيئات الحمض النووي المؤتلف وتحليل الجينات الفردية، بل وقاد إلى عصر جديد يتيح بناء ترتيبات الجينات الجديدة وتقييمها. وفي عام 2000، ناقشت مقالتان في مجلة «نيتشر» إنشاء أجهزة دوائر بيولوجية تركيبية لمحوّل تبديل وراثي وساعة بيولوجية عبر الجمع بين الجينات داخل خلايا الإشريشيا القولونية E. coli . وفي عام 2008.. أعلن “كريج فينتر” عن ابتكاره “جينوماً” كاملاُ لبكتيريا عبر تجميع مركباتها الكيميائية. وبعد بعامين.. قام فريقه بصنع DNA رقمي يتم طباعته ثم إدخاله في بكتيريا حية!. وفي عام 2010، أيضاُ تم الكشف عن أول خلية بكتيرية اصطناعية ذاتية التكرار، تسمى «ام.مايكويدز جي سي في آي- سين1.0». وتم توليف جينوم جديد، باستخدام تسلسل الحمض النووي من سلالتين مختبرتين من بكتيريا، وإجراء عملية زراعة ناجحة في خلية مضيفة من الميكوبلازما. وتصرفت البكتيريا الجديدة تمامًا مثل متبرعها وتكاثرت ذاتياً. وفي أبريل 2019، كشف مختصون بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا/ زيورخ عن إنشاء أول جينوم بكتيري «بكتريا السد الهلالي-2.0»، صُنِّع بالكامل بواسطة جهاز كمبيوتر، على الرغم من عدم وجود شكل قابل للتطبيق مرتبط بالجينوم المصمم الأول «سي.أسينسيز-2.0». وفي مايو 2019، أعلن عن إنشاء شكل تركيبي جديد قابل للتطبيق، وهو نوع مختلف من بكتيريا الإشريشيا القولونية، عن طريق تقليل العدد الطبيعي البالغ 64 شيفرة جينية في الجينوم البكتيري إلى 59 شيفرة جينية بدلاً من ذلك.
ركائز العلم
تتضمن البيولوجيا التركيبية (من الأعلى إلى الأسفل) تقنيات التمثيل الغذائي والهندسة الوراثية لنقل وظائف جديدة إلى الخلايا الحية. أما نهجها (من الأسفل إلى الأعلى) فيشمل إنشاء أنظمة بيولوجية جديدة مختبرية عبر الجمع بين المكونات الحيوية «غير الحية»، بهدف بناء خلية اصطناعية. كما تشمل أساليب بناء الكروموسومات الاصطناعية للكائنات العليا أو الدنيا وصولا لتطوير كيان اصطناعي أكثر تعقيداُ. فإذا كانت تطلعات العلماء فيما مضى، ترتكز على إدخال مورثة أو مورثتين في جسم بكتيري أو نبتة زراعية، فإن علماء البيولوجيا التركيبية يسعون إلى التدخل في تركيب المورثات وإعادة ترتيبها على نطاق واسع يصل إلى مستوى الجينوم، بل حتى التدخل في مجمل الشفرة الوراثية لكائن معين. وفي مرحلة متقدمة التمكن من إنتاج كائنات حية انطلاقاً من لاشيء. وتتدرج العمليات البيوتكنولوجية لتشمل:
– فصل جين من كائن حي ونقله وإدخاله إلي كائن حي آخر.
– توحيد جينات أنواع لم تكن توجد بينها روابط قربي، للحصول علي نوع جديد.
– دمج خلايا الكائنات العليا للحصول علي خلايا هجينة جديدة، ذات خصائص مبتغاة.
– زرع الخلايا النباتية والحيوانية في بيئات اصطناعية واستنباتها.
– خلق جينات و خلايا اصطناعية ذات خصائص ضرورية للتركيب الميكروبيولوجي وزرعها في الخلية.
– إعادة بناء الجهاز الوراثي.
– إنتاج أجنة هجينة من خلايا بشرية وحيوانية تستخدم في علاج بعض الأمراض المستعصية.
ويمكن التعرف إلى شبكة من المورثات المفيدة عبر شاشات الكمبيوتر، وذلك من خلال تحميل متوالية من المورثات يمكن الحصول عليها من بنك للمعلومات خاصٍ بالحمض النووي. غير أن جزئيات الحمض النووي التي تحتوي على المورثات المختلفة، فضلاً عن عناصر التحكم فيها، ستمتد عبر سلسلة يتجاوز طولها مئات الآلاف من وحدات الحمض النووي. فمع أن الخلايا البشرية تقوم باستنساخ مُورِّثٍ يحتوي على ثلاثة مليارات وحدة، فإن أطول قطعة من الحمض النووي التي استطاع العلماء تركيبها، لا تتجاوز 35 ألف وحدة. ويأمل مختصون بمعهد د. “جريج فيتير”/ روكفيل الأميركية، في تصنيع قطعة من الحمض النووي يصل طولها إلى 580,076 وحدة، بالاعتماد على مواد كيماوية بسيطة تُستمَدّ من الحروف الأربعة الأولى لمتوالية التركيب الكيماوي للحمض النووي.
ويتم الحصول على نسخة مطابقة للجينوم يتم وضعها داخل خلية بكتيرية. وإذا ما تبنى هذا الجينوم المصنع بشرياً وظائف الخلية وقام بها من دون مشاكل، فهذا إشارة بنجاح تركيب أول خلية بشرية. ويبدو أن علماء البيولوجيا الحيوية، وهم يحاولون مسح المورثات والتحكم في عناصرها من خلال جمع حمضها النووي في بنوك للمعلومات، يشعرون بأنهم على وشك الكشف عن سر الحياة المكنون. ويشار إلي تخليق (أول شكل لحياة اصطناعية) وتصنيع خلية حية في المختبر، وتكوين خلايا هجينة حية/تركيبية، والتبادل الهندسي بين مجموعات الخلايا الحية والخلايا الاصطناعية (التركيبية). مع إعادة وصل الآلة الوراثية للكائنات الحية على أسس مختلفة بهدف الحصول على نتائج غير مسبوقة وكائنات جديدة. مع تصميم وبناء مسارات أو أجهزة بيولوجية اصطناعية جديدة أو إعادة تصميم النظم البيولوجية الطبيعية الموجودة.
تطبيقات عديدة
إنتاج نباتات مقاومة للضغوط والعوامل البيئية: القيظ والبرد، الجفاف والملوحة، ومحاصيل تنتج سمادها بنفسها تغلبا مشكلة علي الأسمدة الكيماوية غير الصحية، كما يمكنها أن تنتج بروتينات دفاعية تحسن من صفاتها المقاومة للأمراض والحشرات (مثبطات التربسين). كما يتم تشكيل نباتات كمصانع بيولوجية Bioreactors، فتستخدم البطاطس في صناعة بروتين الدم، ونبات الدخان في صناعة الأجسام المضادة، وإنتاج نباتات كاملة من خلية جسمية واحدة وإنتاج بذور صناعية. وحتي عام 1998 أجرت 45 دولة نحو 25 ألف تجربة حقلية (19 ألف منها في امريكا الشمالية وحدها) لاختبار 60 نوعا من النباتات المعدلة وراثيا.
وكانت خمسة أنواع هي الأكثر استخداماً: البطاطس، والشلجم (لإنتاج حامض لوريك)، والدخان، والذرة، والطماطم). وتم العمل علي تصميم خراف لتعطي كميات اكبر وأجود من اللحم والصوف وأبقار ذات خصائص إنتاجية متميزة من اللبن واللحم والجلد
ويمكن ابتكار أجهزة استشعار بيولوجية تكشف عن المياه غير النظيفة وآلات حية تولد الطاقة الحيوية من مكب النفايات (المنزلية والصناعية). فهندسة إنتاج الإيثانول السليولوزي على نطاقٍ واسعٍ كبديلٍ لمصادر الطاقة المحدودة الموجودة حالياً، وهو نوعٌ من الوقود الحيوي المتجدد المعتمد على النبات والذي ينتج كميةً منخفضةً جداً من انبعاثات الكربون. ولقد سارعت بلدان للتحويل البيولوجي للحصول علي الوقود الحيوي (الإيثانول)، وتخطط البرازيل لتغطية 75% من حاجتها إلي الوقود السائل بواسطة الكحول المنتج بطريقة بيوتكنولوجية من قصب السكر. وهناك مشاريع لإنشاء وحدات للمعالجة البوتكنولوجية لتوليد الغاز البيولوجي (غاز الميثان في الأغلب)، وإنتاج الأسمدة العضوية عن طريق المعالجة الحيوية لمختلف النفايات العضوية المنزلية والزراعية.
البيولوجيا التركيبية والركاز
خلق كائنات مجهرية تعمل علي تحويل الفلزات، والمعادن، واللدائن، إلي زلال غذائي. وتحوير الميكروبات لاستخراج نفط رخيص من مخلفات النباتات، حيث يتم إعادة هندسة ميكروبات معينة لإنتاج عناصر تدخل في تركيب الغاز والبترول. وضع طرائق بيوتكنولوجية لاستخلاص المعادن من الصخور الفقيرة ومياه البحار والمياه الصناعية من خلال كائنات تكتنز المعادن (كالرصاص)، وقد يكون منطقيا في القريب العاجل اكتشاف طرائق استخلاص الذهب والفضة بطريقة ميكروبيولوجية. فعبر المسح الجيوميكروبيولوجي المستند إلي تغذية أنواع من البكتريا علي عدد من الغازات الطبيعية، فالبكتريا النباتية الموجودة علي السطح في مناطق هوائية تشير لوجود نفط أو غاز تحتها وعلي أعماق مختلفة. وكذلك يتم السعي لزيادة قدرة الطبقات الأرضية علي إفراز النفط، عبر حقن كتل حيوية ميكروبيوجية وبولميرات حيوية في الطبقات النفطية. واستخدام البكتريا التي تؤكسد الفحم الهيدروجيني في تنظيف الآبار والأنابيب والمعدات المستخدمة في استخراج النفط، كذلك منع التآكل في الأنابيب، وإضافتها لتنظيف أحواض المياه والتربة المحيطة بالآبار من بقايا الملوثات النفطية. وفي عام 1999 تم استنباط نبات تبغ معدل وراثيا للكشف عن مواقع الألغام.
البيولوجيا التركيبية وصحة الإنسان
تهدف لعمل خطوط إنتاج بكتيرية (والمادة الحية القابلة للبرمجة) لتصنيع عقاقير ولقاحات تسهم فى علاج الأمراض. فقد طور ريتشارد كيتني من جامعة “إمبريال كوليدج” في لندن، مجسات وراثية ترصد التهابات المسالك البولية لدى الأشخاص الذين يستخدمون القسطرة البولية. حيث ترتبط المجسات بالجزيئات التي تطلقها مستعمرة بكتيرية متنامية، محفزة إنتاج بروتينات فلورية خضراء. ويشار إلي أنه في عام 1973، حين تم عزل الجين المسئول عن إنتاج الأنسولين، وتكنولوجيا إنتاج الأنسولين علي قدم وساق لتقديم البديل الحيوي عن الأنسولين الحيواني الذي كان يسبب الكثير من المشاكل التحسيسية الشديدة ، فضلا عن الكفلة الاقتصادية الكبيرة للحصول عليه كيميائيا ، لذا فقد “خدعوا” الخلية: اجبروا البكتريا ” الجرثومة” كي تنتج زلال “بروتين” صممه العلماء.
وفي عام 1977 تم إنتاج أول بروتين آدمي بواسطة البكتريا وهو هرمون المخ “السوماتوستاتين”Somatostatin. وينتج لتر واحد من النباتات الميكروبية المزروعة لإنتاج الأنترفيرون (المستحضر المضاد للفيروسات) أكثر من خمسة آلاف مرة ما ينتجه لتر واحد من نظيره البشري (تنتج كريات الدم البيضاء البشرية الأنترفيرون). وفي العام 1978م تم انتاج الأنسولين البشري من البكتريا ” اشيريشيا كولاي” E. coli ، وفي عام 1982 تم إنشاء أول مصنع لإنتاج الأنسولين الآدمي بطرق الهندسة الوراثية في انجلترا. وتم تصنيع ـ عام 1995ـ تصنيع هرمون الغدة النخامية الذي يعمل علي تنشيط التبويض كعلاج للعقم. وفي عام 1999 تم إنتاج “العسل الدوائي” عبر نباتات تم تعديل إزهارها وراثياً. وتشمل الابتكارات أدويةً شخصيةً ومحددةً بالجينومٍ لعلاج مرض السرطان والأمراض التنكسية (أو الإنتكاسية) كمرض باركنسون والزهايمر. ومن المعلوم أن الإسفنج البحري، مثلاً، يحتوي على جزيئات تشكل مضادات حيوية قوية، ولكن لن تدمر الشعاب للحصول عليها. وبدلاً من ذلك، فلا بد من وجود خريطة جينية يمكن استخدامها “لإنشاء خط تصنيع”. وثمة أنواع من البكتيريا صديقةً للبيئة صمّمت لتقاوم آثار التلوث والسموم؛ فتخيل وجود بكتريا قادرةٍ على كشف/ أكل المواد السامة والملوثات في الأغذية والمياه.
طموح غير محدود
لم يتوقِف علماء البيولوجيا التركيبية عن مواصلة أحلامهم مهما بلغت درجة طموحها (الخيالي). فقد وضعت مجموعة مختصة بمعهد “ماساشوستس” للتكنولوجيا على سلم أولوياتها، “تصنيع منزل بيولوجي”، عبر إعادة برمجة حبة بلوط لإنتاج جدران، وأرضية خشبية وسقف، بدل العناصر المألوفة لشجرة. ويطمحون إلي تحويل الهواء الذي نتنفسه إلي غذاء نستهلكه، فننتج البروتين من نيتروجين الهواء وبعض الحرارة الأيضية من غاز الكربون الذي يحتويه ويحقق الخيال العلمي الذي عرضه مسلسل”الرجل الأخضر” منذ نحو ما يزيد عن عقدين من الزمن. فجسد الرجل يتكون من كلوروفيل مشابهه لما في النبات ويجري عملة التمثيل الضوئي” photosynthesis معتمداً في تصنيع غذائه علي نفسه. فضلاُ عن “إحياء” أنواع حيوانية ونباتية منقرضة (يوجد أكثر من 700 بنك أجنة يحتفظ بنحو 25 مليون تركيب وراثي لنباتات زراعية وبرية ذات صفات مرغوبة يمكن إعادتها للحياة بعد انقراضها). كذلك وضع البكتيريا في الالكترونيات، واستخدام الكائنات الاصطناعية للتحكم في الأجهزة البسيطة والرصد العام للبيئة. وإنتاج أعضاء هجينة بيولوجية تتألف من خلايا حيوانية حية مغلفة بأغشية من البوليميرات البلاستيكية، لتركيب أعضاء اصطناعية تنفذ عمليات صغرى وتتأثر بإشارات الدماغ المعطاة من خلال الجزء الباقي من العضو المبتور
البيولوجيا التركيبية: سلاح ذو حدين
يضخ المستثمرون أكثر من مليار دولار/ سنوياً في شركات الأحياء الاصطناعية ولمصممي الميكروبات وقادة الشركات الناشئة في مجال الأدوية. ويدرك المختصون أن أي علم جديد، ينطوي على وجهين أحدهما للخير والأخر للشر. لذا سعى العلماء إلى فتح حوار لمناقشة الأخطار المحتملة للبيولوجيا التركيبية. فمن المعلوم إن لبعض منتجات الحمض النووي قدرةً هائلةً على التسبب بالأمراض والانتشار. فمرض “جنون البقر” لم يكن مُسببه إلا “بريوناً”، وهو بروتينٌ ضئيلٌ أصغر من الفيروس، ومع ذلك فكان لآثاره الخطيرة ما كان. لذا فمنتجات الحمض النووي الجديدة ضخمة التأثير على الصحة والأمن العالمي. وفي غضون عقدٍ من الزمن أو ما يقاربه سيكون لدينا الإمكانية على أن نحسن مهاراتنا العقلية، وليس فقط على صعيد القدرة العقلية بل وأيضاً على صعيد عاطفتنا (أو عدمها). فالعواطف أشياءٌ محسوسةٌ وهي أحداثٌ كيميائيةٌ عصبيةٌ خلويةٌ وتحت خلويةٍ، مهما رغبنا في أن نزعم عكس ذلك. متى ما فهمنا هذا بشكلٍ أفضل سنكون قادرين على التأثير في المزاج البشري. لذا ظهر سيل من الأسئلة الهامةً: ماذا / ومن سيتم تركيبه وتحسينه وراثياً؟ وهل ستُحدِث هذه التركيبات/ التحسينات انقساماً اجتماعياً واقتصادياً وصحيا خطيراً؟ وهل ستتسبب الأحياء التركيبية في تضخيم هذه الفجوة بين المجتمعات والشعوب؟، وهل توجد آلياتٍ ونظمٍ أخلاقيةٍ حيويةٍ للبيولوجيا التركيبية؟. وكيف يمكن التحكم في منع وصول هذه الكائنات الاصطناعية وإلحاق الضرر بالبيئة أو الإنشاء المتعمد للكائنات الضارة والذي سيكون وقتها العامل الأساس لصناعة الموت عبر الحروب البيولوجية. وعلي جانب آخر تسعي الوكالات الدولية على تخليق المنتجات عبر برامج “المتانة/ السلامة البيولوجية” ودعم تطوير أكثر استقراراً وآماناً لأنه يُعد من أسرع المجالات نمواً، وأكثرها تمويلاً في مجال التكنولوجيا الحيوية التجارية.