تدل كلمة “انفلات” في استعمالاتها الشائعة، على خروج الشيء عن السيطرة، ووقوع انزلاق أو انحراف أو فساد أخلاقي، بالإضافة إلى العشوائية والاعتباطية، والتخلص والهروب من الشيء، وغيرها من الدلالات والإيحاءات. والملاحظ أن مجمل تلك الدلالات (Denotations) والإيحاءات (Connotations) اللصيقة بكلمة “انفلات”، ترتبط بسياقات ومعانٍ ذات حمولة سلبية. وفي هذا الصدد، يمكن -مثلاً- الحديث عن صيغ متعددة ومختلفة للانفلات؛ كالانفلات الأمني والحراري والأخلاقي والثقافي والمقاصدي والروحي والخطابي ..إلخ. والمقصود بـ”الانفلات المقاصدي” هو عندما تنفصل مقاصد الأحكام والتشريعات عن الواقع، أو عندما يكون هناك سوء تقدير أو تأويل لها، مما يولد إما قطيعة أو تناقضًا، أو اضطرابًا، أو فوضوية، أو نفيًا لأحدهما على حساب الآخر؛ أي إما المقاصد والأحكام، أو الواقع والتطبيق.
أما “الانفلات النفسي والروحي”، فيحيل إلى حالة اللامراقبة الذاتية، أو سيطرة الانفعال وغلبته على العقل وعلى الضوابط السلوكية والروحية المتزنة، مما يتمخض عنه لا انضباط انفعالي أو لا استقرار روحي، سواء كان ذلك لحظيًّا أم مزمنًا. كما يقصد بـ”الانفلات الخطابي”، الانزياح أو الخروج عن المعنى، أو عن الدلالة الأساسية الخاصة بنص أو بوضعية تواصل ما، مما قد ينتج عنه تشتت المعنى أو تعارض أو انزلاق الدلالة، أو استيعاب معاكس لغاية الخطاب، أو فشل في الإقناع ..إلخ.
مفهوم الانفلات المعرفي المنظم
على النقيض من ذلك، يؤدي ربط كلمة الـ”انفلات” بـ”المعرفة”، إلى إفراز دلالات وإحالات إيجابية، خاصة إذا تم ربط “انفلات المعرفة” بشروط النظام والتنظيم والانتظام. ومعنى ذلك، هو استباق وتقييد كل أشكال الفوضوية والسلبية التي قد تنتج أثناء عملية انفلات المعرفة، من خلال تأطير هذه العملية، لتصير مرتبة ومنهجية. بناء على ذلك، يمكن تعريف الانفلات المعرفي المنظم بأنه: “شكل جديد من الانفلات الإيجابي والمرغوب فيه”. ويتميز بالتنظيم والتخطيط المسبق؛ أي أنه قد لا يقع بغتة، مع توقع نتائجه. كما أنه انفلات يمنح الحياة والنجاة والتحرر في شتى الأصعدة، وذلك من خلال إفرازاته المحمودة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حد سواء، وعلى الوطن ككل. في حين أن الأشكال الأولى من الانفلاتات التي تنفجر أو تحدث بغتة، غالبًا ما تقود إلى نتائج غير مباشرة وغير محمودة العواقب، أو إلى تأويلات قد يكتنفها الغموض والضبابية والتناقض، ومن ثم سوء الفهم أو التصادم أو القطيعة. فإذا كان من الضروري كبح وتقليص أشكال تلك الانفلاتات نظرًا لإفرازاتها السلبية على المستوى الفردي والاجتماعي والبيئي والثقافي والتواصلي، فإنه من الضروري أيضًا تحفيز ودعم كل صيغ الانفلات المعرفي المنظم، لبناء وتصنيع وتأطير الأفراد والمجتمعات معرفيًّا وعلميًّا.
أهداف الانفلات المعرفي المنظم
يهدف “الانفلات المعرفي المنظم” إلى تحرير الإنسان من تجليات الجهل بكل صيغه ودرجاته وتجلياته، كما يهدف أيضًا إلى تفجير البعد المشرق اللامرئي (Unseen/Hidden) في الذات الإنسانية، وصقل هذا البعد حتى ينعكس على الفرد في علاقته مع نفسه ومع غيره، ومع المجتمع ككل، مع الاحتفاء بالجوانب المشرقة المرئية (Seen/Obvious) وتثمينها ومواكبتها وتعزيز استمراريتها. ومن إيجابيات هذا الانفلات، أنه يشرك جميع أفراد المجتمع دون استثناء، أي أنه لا يخص فئة مثقفة دون أخرى أو طبقة اجتماعية دون غيرها.. إنه انفلات لا طبقي يمنح لأكثر المنفلتين معرفيًّا -خاصة العضويين منهم (Organic)– فرصًا أكبر للانتساب لمجتمع الانفلات المعرفي، والوصول إلى أعلى الهرم المعرفي، ومن ثم يسلحه بآليات أنجع لخدمة مجتمعه ووطنه.
ولا شك أن نجاح هذا المشروع؛ أي البناء والتكوين المعرفي للفرد، سيسهم مباشرة في تحقيق مجتمع مؤطر وقوي معرفيًّا وعلميًّا. وهو الأمر الذي سينعكس إيجابًا على سلوكه ونظرته للحياة، ورغبته في الانتماء والولاء لوطنه الأم وللإنسانية جمعاء. كما سينتقل به من مجتمع مستهلك لشتى أصناف المعرفة واللامعرفة إلى آخر مغاير، ينتج ويصنع ويصدر المعرفة، وفي أضعف الأحوال، مجتمع يحلل وينتقد معرفته قصد تطويرها وتنميتها، كما يستطيع انتقاء وترشيح (Filtration) معرفة غيره التي تصله عبر مختلف الوسائل والوسائط.
إن الانفلات المعرفي المنظم قادر -إذن- على نقل الفرد والمجتمع من حالة التوحش والفظاظة، والجهل المدقع، والسطحية المدمرة للإبداع، والنفاق الاجتماعي والتقني (Technical Hypocrisy)، والسذاجة المتفشية، والاستهلاكية اللاواعية.. إلى حالة إدارة كل أصناف التوحش والجهل والسيطرة عليها، وإلى الأمن الواعي المستدام، والاستقرار البيئي المتوازن، والاتزان الأخلاقي، والحوار المجتمعي الحضاري الواضح والصريح. فهذا الانفلات إذن، قمين بالقضاء على الانفلاتات الأخرى التي إن لم تقض على الفرد والمجتمع نهائيًّا، فإنها قد تضعهما في مواقف سمتها الخطر والتهديد والورائية تارة، والغموض والضبابية والقطيعة تارة أخرى.
النتائج المتوقعة لعملية الانفلات المعرفي المنظم
إن النتيجة الأساسية المتوقعة من هذا الانفلات، هي بناء إنسان يعرف حريته وحدودها، ويقدس حياته وحياة غيره مهما كانت درجة الاختلاف والصراع بينهما.. إنسان متحرر من قيود الوهم والخرافة والسريالية، ومتسلح بالمعرفة والعلم والواقعية.. إنسان يحافظ على حياته ويدافع عن حياة المجتمع والبيئة التي تحتضن الكل بحب وطواعية وإخلاص، بعيدًا عن الأنانية والتسلط والجشع والإقصاء ونهب الحقوق والثروات، وسلب حرية الآخرين وإرغامهم على الخضوع.. والثروة الوحيدة المتحصلة التي لن تكون أبدًا موضوع مساءلة أو مناقشة أو مفاوضة أو متابعة أو شبهة في مجتمع الانفلات المعرفي المنظم، هي الملكية أو الثروة المعرفية الأخلاقية، وهي بمثابة الرأسمال الوحيد والرمزي للإنسان المنفلت معرفيًّا، والذي يحق له ترصيده وتعزيزه وتنميته وتخزينه، أو إظهاره للعموم وتسويقه دون ضرائب، أو حواجز جمركية، أو متابعات زجرية، أو تأويلات اجتماعية، أو تأنيب ضمير.
يهدف الانفلات المعرفي المنظم إلى تحرير الإنسان من تجليات الجهل بكل صيغه ودرجاته وتجلياته، ويهدف إلى تفجير البعد المشرق اللامرئي في الذات الإنسانية، وصقل هذا البعد حتى ينعكس على الفرد في علاقته مع نفسه ومع غيره.
بالإضافة إلى ذلك، يعد تكوين مجتمع مكوَّن من أفراد يمتلكون معرفة موسوعية نافعة، وأخلاقًا راقية عابرة للأمكنة والأزمنة والسياقات والوضعيات، نتيجة أساسية متوقعة من وراء عملية الانفلات المعرفي المنظم. إنه مشروع معرفي أخلاقي ينشد تحرير الإنسان من بؤس الجشع المادي، وتعطيل محركات القيم الإنسانية الجميلة، من أجل المصالح والامتيازات الشخصية، والقبول بالجهل من أجل حياة بلا معنى أو قضية، وتقديس الجهل والخرافة من أجل انتماء مزيف، والإيمان بالعنف والإخضاع من أجل إثبات الذات والسيطرة.
آليات الانفلات المعرفي المنظم
تعد الكتب بكل أصنافها، أبرز آليات عملية الانفلات المعرفي المنظم. فمتى آمن الأفراد بأهمية المصالحة مع الكتاب مدركين ضرورته وحيويته في حياتهم اليومية، أمكن آنذاك مباشرة عملية الانفلات المنشودة. لكن هل تصلح كل الكتب في هذا المشروع الكبير؟ الجواب من وجهة نظر هذا المنهج هو النفي، وبما أن الأمر يتعلق بـ”انفلات منظم”، فيجب انتقاء -وبعناية شديدة- الكتب التي ستوزع وتقرأ وتحلل وتناقش؛ أولاً: تفاديًّا لهدر الزمن النهضوي في ما قد لا يفيد الفرد والمجتمع والوطن إذا ما تم فتح المجال أمام جميع الكتب، وثانيًا: لأن الاعتماد على جميع الكتب وما يحتويه جزء منها من معارف ومضامين واستنتاجات غير مجدية أو متناقضة أو غير معتمدة أو مزورة أو عنيفة إقصائية، قد يقود إلى انفلات معرفي غير منظم، الذي من شأنه تقويض أهداف وأركان “الانفلات المعرفي” المنشود.
إن الأمر يتعلق بالقيام بعملية انتقائية للكتب التي يجب التركيز عليها خلال مرحلة الانفلات تماشيًّا مع الرهان الكبير؛ بناء مجتمع أساسه ومحركه، المعرفة النافعة والأخلاق النبيلة التي تحفظه وتصونه، وتعيد الهبة لضوابطه ومعاييره وقيمه وأخلاقه المقبولة اجتماعيًّا وأخلاقيًّا وعقليًّا ومنطقيًّا وثقافيًّا.
فضاءات الانفلات المعرفي المنظم
كل الفضاءات متاحة لعملية الانفلات المعرفي المنظم، بل إن أي فضاء مهما كان قادرًا على إنجاح هذه العملية، لكونها عملية بسيطة وغير معقدة التطبيق، لكن بأبعاد وغايات عميقة وبليغة وإستراتيجية. تتوزع هذه الفضاءات إلى فضاءات مكانية وزمانية، فالفضاءات المكانية المفتوحة والمغلقة والشبه مفتوحة والقريبة والبعيدة والعريقة والمحدثة والمرتفعة والمنخفضة والشخصية والعمومية والمجانية والمؤدى عنها والمنظمة والمهجورة.. كلها مستعدة لاحتضان عملية “الانفلات المعرفي المنظم”. ألن يعود نجاح هذا الانفلات بالنفع إلى تلك الفضاءات المكانية بكل أنواعها؟ ألن يساهم الرقي المعرفي الأخلاقي للأفراد في الرفع من تقديرهم لتلك الأمكنة، وفي تحسينها وصيانة الجميلة منها، وخلق مزيد منها تكون أكثر جمالاً وأمنًا؟ حتى الأمكنة إذن، تريد للفرد أن يكون إنسانًا جميلاً لطيفًا مؤدبًا مثقفًا واعيًّا؛ لذلك أطلعته على كل جوانبها وخباياها، حتى المغلقة والبعيدة والقديمة والمظلمة، والتي على وشك السقوط والبناء، راجية منه أن يحمل كتابًا في يده يحاوره ويناقشه، من أجل انفلاته المعرفي المؤدي إلى رقيه المعرفي والأخلاقي.
بنفس وتيرة ترحاب الفضاءات المكانية بعملية الانفلات المعرفي المنظم، يضع الفضاء الزمني بصنفيه المادي والنفسي، كل المفاتيح في عقل وقلب ويد الفرد، ليباشر عملية الانفلات المعرفي المنظم. في إطار هذا الانفلات، فكل لحظة، متاحة للفرد للقراءة ليسلك مدارج العلم والمعرفة، ويتسلق معارج الأخلاق والإنسانية الحقة. سيسمح -إذن- للفرد أن ينفلت معرفيًّا وقت العمل وخارجه، ولحظة ما بعد النوم بكثير وقبيل النوم وبعيده، وحتى أثناء نوم الفرد فيمكنه استرجاع ما اطلع عليه طيلة يومه أو يفكر في ما ينوي قراءته. أليست الأحلام المعرفية -حتى وإن غلب عليها الغموض والحيرة والجهد- أفضل بكثير من الكوابيس الجوفاء التي يغلب عليها الفزع والخوف واللامعنى. يا لها من لحظة فردية ووطنية فارقة ومفصلية وواعدة، عندما ينفلت الإنسان معرفيًّا في أزمنة وعيه ولاوعيه المختلفة، في لحظات منطقه ولامنطقه المتعاقبة والمتجددة، في يقظته وحلمه، وإبان احتفالات الإيجاد والتأمل وفي غمار متاهات الفقدان والتيه.
مشهد متخيل للانفلات المعرفي المنظم
لنتخيل مشهدًا صغيرًا من مجتمع الانفلات المعرفي المنظم المنشود؛ ويتعلق الأمر -على سبيل الذكر لا الحصر- بمجتمع المقهى ومحيطها القريب، كل الجالسين والواقفين والعاملين والمارين بالقرب من المقاهي المتسلسلة والكثيرة والمفتوحة لأوقات طويلة، وفي كل الفصول.. كلهم ومن كل الأعمار والطبقات الاجتماعية والمستويات الفكرية والأوساط الثقافية المختلفة، وبدون استثناء، يحملون كتبًا مختلفة، لكن منظمة المواضيع والحقب والأحجام والصفحات والمصدر ودور النشر، منكبون على القراءة والمطالعة لساعات طويلة، يخطفون جرعات شاي أو قهوة أو هواء أو ماء مع لحظات ثرثرة مولدة للطاقة أو صمت تأملي، قصيرة أو متوسطة، ووتيرة القراءة طبعًا ستختلف لاختلاف الأدوار، لأن النادل ليس كالجالس، والواقف ليس كالمار.. وبالرغم من ذلك، فمجتمع الانفلات المعرفي المنظم لا يعفي أحدًا من المطالعة والانفلات معرفيًّا وإن كان نادلاً يخدم الجالسين، إنه لا يعفي أحدًا لكنه إجبار مرفوق بـ”الليونة” المطلوبة في كل سياق، ووضعية مهنية أو زمنية، أو مكانية أو جسدية، أو نفسية أو اجتماعية أو فكرية.. لنتخيل ذلك المشهد ونتصور مشاهد كثيرة وشاملة، وبنفس رغبة وطموح الانفلات المعرفي المنظم، في كل أمكنة البلد وفضاءاته، لنتصور أن جميع الأفراد انفلتوا معرفيًّا.. ألن يكون المجتمع أقوى وأشد تماسكًا وتطورًا علميًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا وقيميًّا وسلوكيًّا؟ ألن يؤدي ذلك إلى رقي الوطن وازدهاره؟ بالموازاة مع ذلك، ألن يتمخض عن الانفلات المعرفي المنظم، القضاء بطرق أقل جهدًا وطاقة عن كل أشكال وأصناف الانفلات المؤذية والمضرة بالوطن؟ الانفلات المعرفي المنظم نجاة بطريقة ذكية وسلمية، وسلسة من كل أشكال الانفلات المدمرة لحياة الفرد، المجتمع والوطن، وبناء جماعي لحياة أفضل في المستقبل.
(*) كاتب وباحث مغربي.