يتميز الفن الإسلامي بسمات خاصة أكسبته تفردًا عن الفنون التشكيلية الأخرى في أساليبه ومفرداته. ويعدّ فن الرقش العربي “الأرابيسك” أكثر نتاجات هذا الفن تعبيرًا وتجسيدًا لفلسفته، حيث يعدّ من أوسع فنون الحضارة الإسلامية انتشارًا وازدهارًا، ومن أكثر فنون الرقش تميزًا في العالم. فقد استطاع في فترة وجيزة أن يغطي كل أجزاء الدولة الإسلامية بطرازه المتميز، وأن يبقى شامخًا على مر العصور، ويترك بصماته على الفنون الغربية حتى اليوم. فما الرقش العربي؟ وكيف أفرغ المبدع والفنان العربي فيه رؤاه الفنية التي حملت ملمحًا روحيًّا جماليًّا عبر استخدام هذا النوع من الفن؟
الرقش العربي
بدايةً نؤكد على أن فن الرقش العربي يعبر عن ترابط إنساني واجتماعي بديع، كما يقول فيلسوف الفرنسي “جاك بيرك”: “إن الرقش العربي هو تركيب وتلاق، فيه يتلاقى هدف الفنان مع الإدراك الحسي مع المادة، وهكذا يبدو الرقش العربي مرتبطًا بالمجتمع معبرًا عن ذلك بكنيته العربية”. وقد أطلق على هذا النوع من الفن اسم “الأرابيسك” للدلالة على الأشكال المجردة أو المحورة عن الواقع، التي يبتكرها الصانع في رسمه أو نقشه، أو حفرت مستوحاة من أعماله الجمالية العربية. كما استعمل هذا المصطلح للدلالة على الخطوط الانسيابية المنغمة في الرسم التشبيهي، ويقابل هذا المصطلح بالعربية كلمة “الرقش العربي”. وفي اللغة “رقش” يعني زوق الكلام، أو الصيغ رسمها محسنة مزينة أي نمقها، ويختلف هذا الفعل عن فعل “رَقَنَ”، أي زين الكتاب بالرسوم والصور الواقعية المبسطة.
وكانت الجذور الأولى لظهور هذا الفن، من خلال الأشرطة المحفورة والمرسومة على مادة الجص، وهي المعروفة لدى علماء الآثار باسم طراز سامراء الثلاثة، خاصة ذلك الطراز الدولي الثالث الذي وصل مصر، وتمثل وجوده على الأخشاب في العصر الطولوني. وقد ظهر هذا الطراز في مجال الزخارف النباتية والهندسية، حيث اتسمت الزخارف بالتحوير الشديد، والبعد عن الواقع، وتجريد العناصر الزخرفية من أصولها الأولى نحو التعقيد والتشابك.. وكان مقدمةً لظهور فن الرقش “الأرابيسك” بعد ذلك في القرنين الخامس والسادس الهجريين.
الرقش فن له دلالات
يرتبط الرقش العربي بالحدس؛ أي بالإدراك الحسي وبالتعالي والإطلاق، فهو صيغة من صيغ التعامل مع الواقع، صيغة غير مدية تعتمد على حرية الفنان في قراءة الواقع قراءة حدسية، ونقله بصيغة جمالية مجردة. فالرقش ليس مجرد عملية تحلية وتزويق، بل هو فن حي إبداعي، وقد عبر عن ذلك “غرابار” أحد فلاسفة الفن في الغرب بقوله: “ليس الرقش العربي مجرد زخرفة، بل كانت له دائمًا وظيفة رمزية، في جميع أشكال الرقش -سواء كان هندسيًّا أو نباتيًّا- فإن هذا الفن يبدو وكأنه أخضع كليًّا لمبادئ تجريدية هي في قمة جميع مراتب التعبير الجمالي الإسلامي، وهذا يعني أننا نقف أمام بنية متحركة وليست ساكنة، وأمام قالب يولد جملة تكوينات متآلفة”. ونستشف من ذلك أنه تكمن وراء الصورة الظاهرية للرقش، نسق كامل من الإشارات التي تعرض تاركة حق التأويل، أي ثمة معان كثيرة في الرقش العربي تنتظر تفسيرها، الأمر الذي يعطي التجريدية في الرقش قيمة تعبيرية جديدة غير محدودة المعنى والرؤى، حيث تبدو دلالات التجريد في الرقش العربي واضحة في أسلوبين أساسيين سار الرقش في مسارهما.
الرقش النباتي
وهو على نوعين، الأول “لين” ولكنه مبني على أساس هندسي، تحولت فيه الأشكال النباتية إلى وحدات زخرفية مجردة، تمادى الفنان للوصول إليها بالخروج عن الواقع للاكتفاء بالصورة الجمالية التي أتقن نسيجها برشاقة وتناسق.. وبتكرار الفنان لهذه الصيغ بإلحاح إيقاعي، ينتظم نبض الابتهال والتبتل.. وكثيرًا ما ربط النقاد هذا التكرار بالذكر، كما عبر عن ذلك “ببرايين” بقوله: “إن الصيغة المكررة المتخيلة أو المنفذة في الرقش، تثير الشعور بأبدية الانطلاقات والعودات ممثِّلة بذلك علاقة الظاهر بالجوهر، مما يقترب من ممارسة الذكر”.
أما النوع الثاني من الرقش النباتي يسمى “الرمي”، وهو عمل تغلب عليه العفوية والاسترسال، مستوحاة من النباتات. وقد انتشر هذا النوع من الرقش في مصر في العصر الطولوني، وفي إيران كما نراه في جامع نابين. وظل أسلوب الزخارف النباتية يتوالى إلى أن وصل أقصى ازدهاره في القرن الثالث عشر، حيث انتشر استعمال هذا النوع من الزخارف في التحف المختلفة، سواء كانت من الخشب أم من المعدن أم من الزجاج أم من الخزف، كما استعملت في زخارف العمائر والصفحات المذهبة في الكتب.
الخيط العربي
وهو الأسلوب الثاني، وهو عمل هندسي محض يقوم على تفريعات واشتقاقات تعتمد على الأساس التشكيلي للأشياء، وهو أساس يبدو رياضيًّا لاعتماده على الأشكال الهندسية (المثلث والمربع والمخمس)، لكن هذه الأشكال تصبح في الرقش العربي أوعية لمضامين رمزية، لا تخلو من معان قدسية أو ضوئية أو جوانية، مثل شكل النجمة التي اتخذ منها الفنان صيغًا متعددة سداسية أو ثمانية أو خماسية، أو من مضاعفات هذه الأشكال.. فالنجمة السداسية على سبيل المثال، مؤلفة من مثلثين متساويي الأضلاع، رأس أحدهما إلى أعلى، والثاني إلى أسفل، الأول منهما يرمز إلى الأرض، والثاني يرمز إلى السماء، وتطابقهما يرمز للكون. أما النجمة الثمانية فهي مؤلفة من مربعين، أحدهما يمثل الجهات الجغرافية الأربع، والثاني يمثل العناصر الأساسية الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء)، والنجمة الثمانية من المربعين ترمز أيضًا إلى الكون، أما النجمة الخماسية فهي اندماج المثلثين في النجمة السداسية وتحمل نفس المعنى. والشكل النجمي يبدأ بتقسيم الدائرة إلى أقسام متساوية 24، 48، 94 أو 96 قسمًا.. والنجمة الخماسية ذات 48رأسًا تم ابتكارها في فاس، وفي صناعة الزليج الأندلسية والمغربية الرائعة. وسواء كان الرقش نباتيًّا أو هندسيًّا، فإنه يبقى محاولة للتعبير عن ملكوت الخالق والإيمان به، فهو أقرب إلى التبتل الجمالي منه إلى التزويق الشكلي.
الرقش والزخرفة
لقد حاول البعض القول بأن الرقش ما هو إلا نوع من الزخرفة، انتشر على جدران العمارة، وعلى صفحات المخطوطات، وعلى سطوح الأواني المنقولة.. إلا أن هذا الرأي سرعان ما يتداعى أمام عنصر الإبداع الذي يتحلى به فن الرقش، هذا الفن الإبداعي الذي جاء محصورًا بالشكلين الهندسي والنباتي. ومع أن الرقش يزيد السطوح جمالاً ورونقًا، فهو ليس مجرد زخرفة تزويقية، لأنه يعبر عن خصيصة تشكيلية تعتمد الجمالية الإسلامية، التي تفتقد إليها الزخرفة التي ما هي إلا نشاط تشكيلي يعني التزويق والتنميق حصرًا.
ونخلص من هذا كله إلى أن الزخرفة تختلف عن الرقش، فقد بدت أولاً محاولة عفوية لتزيين الأشياء الاستعمالية وتزويقها، فكانت أمام المزين أو المزوق فرص لا حد لها، لاستلهام الجمال أو لتطوير الأشكال المجردة.. وقد بدت الزخرفة مبسطة وبدائية لا تنتمي إلى أية جمالية بعينها ولا تعبر عن شخصية فنية متميزة، فقد تكون مجرد استلهام من أشكال غير محدودة، أي أنها جاءت من الخاطر والخيال، وقد تكون نقلاً عن زخرفة غريبة.. ومن هنا لا بد من التمييز بين الرقش والزخرفة، على الرغم من خطوط التلاقي بينهما، وخاصة فيما يتعلق بملء الفراغ في نسيج الزخرفة والرقش.
(*) كاتب وباحث مصري.