أضحت معاناة “جاليليو جاليلي”(1)، العالِم الإيطاليّ والفيزيائيّ والفَلكيّ المشهور، جللة لِما شَكّلت أبحاثه من قلق مفرِط للكنيسة آنذاك، لأنّها كانت تدين بآراء “أرسطو”(2) العِلميّة، وكلّ من يخرج عن هذا الإطار يُتّهم بالكفر والهرطقة. وبالتّالي يكون “جاليليو” مِن الذين أرادوا الخروج عن طوع الكنيسة؛ إذِ الشّيء المهمّ هنا، ولا يُسلَّط عليه الضّوء بامتياز، أنّ هذا الاشتباك بين “جاليليو” والكنيسة، لم يكن أبداً صِدام الدّين ضدّ العِلم، كما هو مُشاع، بل في حقيقة الأمر كانت مواجهةً مفتوحةً بين العِلم والعِلم نفسه في نهاية المشوار، وكم تختلف المواجهتان حين التّدقيق فيهما.
ولكي تَـقِف الكنيسة في وجه هذا الرّجُل، كرّست لهذا الصِّراع جهداً وفيراً، صار مُنطلقه الهيمنة الدّينية التي ستضيع من بين أيديها، إن هي سمحت “لجاليليو”، وأمثاله مِن العلماء، السّير على المنوال ذاته، بحيث ستخسر وساطة الإنسان مع الله الخالق، وتضيع مناصب وامتيازات رجال الدّين إلى غير رجعة.
ومع احتدام المعركة بين “جاليليو” ورجال الدّين، وخاصّة المتعصّبين منهم داخل المؤسَّسة الكنسيّة، بدؤوا ينصبون له المكائد والدّسائس حتى يسقط، حيثما لا يدري، في فخّ الكفر والإلحاد. وما الرّسالة التي كتبها للدّوقة “كريستينا”(3)، حاكمة إقليم توسكانيا(4) فلورنسا حالياً، إلّا غيض من فيض في هذه المواجهة.
وبما أنّ “جاليليو” كان ذا خلفيّة عِلميّة بالأساس، ومع بدء ظهور اكتشافاته، فإنّه بالتّالي يملك أدلّة قويّة على ما يقول حول موضوع ثبات الشّمس، ودوران الأرض، وهو المذهب الذي تعارضه الكنيسة مباشرة وبدون تردّد، حيث تُؤمِن بنظريّة “بطليموس” الفَلكيّة(5)، التي تقول: بثبات الأرض في مركز الكون، ودوران الأشياء كلّها حولها، وتُنافي بذلك فكرة “نيكولاس كوبيرنيكوس”(6) حول مركزيّة الشّمس.
لأجْل هذا، أرسل “جاليليو” هذه الرّسالة للأميرة “كريستينا” حتّى يشرح لها، ومن خلالها للجميع، أنّ اكتشافاته لابدّ من وجود صدى لها داخل الكتاب المقدّس، وبذلك يجب عدم اتّباع التّفسير الحرْفيّ للكلمات، بل الغوص في التّأويل والتّفسير العميق للمعاني.
فكيف كان أسلوب “جاليليو” الأدبيّ في هاته الرّسالة؟ كيف خاطب الأميرة والعلماء ورجال الدّين على حدّ سواء؟ كيف ظهرت شخصية “جاليليو” الأدبيّة؟ وهل استحقّ وسام الأدب الرّفيع وهو الفيزيائيّ الذي يهوى العلوم فقط؟
تبدأ الرّسالة مِن المرسِل “جاليليو جاليلي”، إلى الغرندوقة الأمّ واصفاً إيّاها، احتراماً وتقديراً، بالجليلة، وهي عادته في الكتابة الأدبيّة الممتعة كما سيظهر بين ثناياها، فقد كان أديباً ممتازاً ولغويًّا ماهراً.
لذا يحاول “جاليليو” إقحام الأميرة “كريستينا”، منذ الوهلة الأولى في الأحداث، ويجعلها تقتـنع بما يقول ويشرح، فتارة يحدّثها عن العلماء والفلاسفة الذين فهموا طرحه حول اكتشافاته الفَلكيّة، فنجده يقول بأدب ولُطف: «وتعلمين سموّك ما الذي حدث لعالِم الرّياضيات المتوفّى مِن جامعة بيزا، [يقصد أنطونيو سانتوشي توفّي 1613م] الذي أخذ يطّلع على عقيدة كوبرنيكوس، عندما تقدّم به العمر، آملاً أن يجد ما يزعزعها مِن الأساس ويدحضها، وكان يعتبرها زائفة لأنّه لم يدرسها قطّ. لكن الذي حدث أنّه بمجرّد أن فَهِم أساس هذه العقيدة (…)، تَحوّل مِن معارض إلى مدافع مخلص وفيٍّ لها»(7)، وتارة أخرى يحدِّثها عن رجال الدّين السّابقين، وآرائهم المؤيِّدة لفكرة دوران الأرض في مواجهة خصومهم آنذاك، ويقول بتهذيب أيضاً: «ودعيني سموّك أن أذكِّرك بالقدّيس أوغسطين (…)، وردّه على هؤلاء الإخوة الذين أثاروا السّؤال عمّا إذاَ كانت السّماوات تتحرّك بحقّ أَم أنّها ثابتة في مكانها»(8)، بل، وكيف كان “القدّيس أوغسطين”(9) نفسه، يتريّث لإصدار أيّ حُكم في تفسير الكِتاب المقدّس، حتّى يتأكّد تمام التّأكّد أنّه صائب إلى درجة كبيرة مِن اليقين، وليس فقط تحصيل تطابق جزء يسير مِن التّـفسيرات الظّاهرة مع بعض معاني الإنجيل، وليتجنّب أيضاً مهاجمة العلماء مِن أوّل لحظة دون التّحقّـق مِن دفوعاته، فيقول “جاليليو” بحِكمة مخاطباً الأميرة: «ولتلاحظي سموّك بعد ذلك، كيف يخطو هذا القدّيس بحذر واحتراس، قبْل أن يؤكّد أيّ تفسير للنّصوص المقدّسة، ويجعله مضموناً ومؤكّداً ومعصوماً مِن الصّعوبات التي قد تسبِّب اضطرابه، وليس المحتوى الذي تـتَّـفق فيه بعض المعاني مِن الإنجيل مع بعض المظاهر»(10)، وفي النّسق نفسه، مقارنة بتصرّف “القدّيس أوغسطين” السّابق الذي لا يهاجم لِمجرّد الهجوم، يمهّد “جاليليو” الحديث عن شخصه، فيذكِّرها أنّ جيشاً مِن رجال الدّين تصدّوا لفِكره دون أدنى معرفة بما يقول لَهم، فَهُم غالباً ما يستعملون الكِتاب المقدّس بقالب خاطئ، ليقِـفوا ضدّ اكتشافاته العِلميّة والفيزيائيّة، فيقول بِلَباقة: «وهكذا ترين سموّك كيف يتحرّك هؤلاء الأشخاص دون انتظام، فيما يتعلّق بالجدل الفيزيائيّ، فيستخدمون مقاطع النّصوص المقدّسة، وغالباً تلك التي يفهمونها خطأ في مقدّمة دفوعهم»(11).
وبعد توجيه كلامه للسّـيّدة “كريستينا”، يتحوّل “جاليليو” للحديث عن رجال الدّين العقلاء والنّبلاء منهم، وكذلك المتعصّبين الذين يستعملون سُلطتهم داخل الكنيسة ليقِـفوا في وجه أعماله المنطقـيّة؛ كما أنّه غالب الأحيان يشرح لَهم ببلاغة، أنّ العلوم الطّبيعية أو العالِم على وجه الخصوص، لا يُقحم الكِتاب المقدّس في أبحاثه، بقدر ما يهتمّ بما يشاهِد ويُجرِّب، لأنّه أقرب النّاس إلى اليقين، أمّا الكِتاب المقدّس فيعطي الخطوط الكبرى، ولا يشرح الجزئيّات، فمثلاً يتحدّث عن “كوبيرنيكوس” بدماثة أنيقة، ويقول أنّه: «لا يناقش أبداً أمور الدّين أو الإيمان، ولا يستخدم دفوعاً تعتمد بأيّ شكل على سُلطة الكتابات المكرّسة للعبادة التي قد يفسّرها خطأ. وهو يعتمد فقط على الاستنتاجات الفيزيائيّة دائماً فيما يتعلّق بالحركة السّماوية، ويتعامل معها بالطّرق الفَلكيّة والهندسيّة التي تقوم أساساً على مغزى الخبرات والمشاهدات الدّقيقة جدًّا»(12)، وفي السّياق نفسه يضيف مؤكِّداً كلامه، أنّ الله الذي وهب الإنسان الحواسّ والعقل، لا يمكن أن يمنعه بعد ذلك مِن استخدامها لتحليل ودراسة ما يكتـشف مِن أمور كيفما كانت، فيقول إذاً، بابتهاج بهيّ: «ولا أجدني مضطرًّا، لتصديق أنّ الرّبّ نفسه الذي وهبنا المشاعر والحواسّ والعقل والمنطق، قد قصد أن يمنعنا مِن استخدامها (…)، ولم يكن للرّبّ أن يطلب منّا أن نـنكر الإحساس والعقل، في المسائل الفيزيائيّة الماثلة أمام أعيننا وعقولنا بخبرتنا المباشرة، والأدلّة الواضحة»(13).
وارتباطاً بالموضوع نفسه، يضاعف “جاليليو” قوّة بلاغته وعِظم أسلوبه، للحديث عن اللّاهوتـيّـين بنوعيهم المؤيّدين والمعارضين، ويقول لهم باحترام مذهل: «وأنا لا أرغب في أن أضع ضمن هذا العدد مِن هؤلاء الكُتَّاب، الذين يسيؤون استخدام الكِتاب المقدّس، بعض اللّاهوتـيّـين الذين أعتبرهم رجالاً ذوي تعليم متميّز وسلوك ورع، ولذلك فَهُم موضع تقديري الشّديد واحترامي العظيم. ولا يمكنني أن أنكر، مع ذلك، أنّـني أشعر بشيء مِن عدم الارتياح أودّ لو تخلّصت منه، وذلك عندما أسمعهم يتطاولون للحصول على القوّة التي يجبرون بها الآخرين، بواسطة سُلطة النّصوص المقدّسة»(14)، إذ لا يجب عليهم السّطو على سُلطة اتّخاذ القرارات في الأشياء المتجادَل عنها، وهم لا يَعْلمونها جيّداً أو حتّى لم يمارسوها قطّ، فمَن يخوض هاته المغامرة يكون خاسراً منذ الانطلاقة لأنّ الأسس غير متـينة، والبناء المُتداعي يتهاوى ويسقط لا محالة، فيقول بفصاحة أيضاً مصوّراً الفكرة، ومعطياً لها مثالاً عظيماً: «كما لو أنّ أحد الأمراء أو الأباطرة البيزنطيّـين، الذي ليس طبيباً ولا معماريًّا، لكنّه يعرف أنّه حرّ في إصدار الأوامر، فيسمح لنفسه بارتكاب ممارسة الطّبّ، وإقامة المباني تبعًا لنزواته، وهو يجلب بذلك الخطورة للمرضى المساكين، ويمهّد للانهيار السّريع للصّروح»(15).
وفي الإطار ذاته، يواصل “جاليليو” حديثه عن هؤلاء الذين يستعملون سُلطتهم داخل الكنيسة، ويترجّاهم أن يدركوا الفرق بين السُّلطة واستعمال العقل في اتّخاذ القرارات، وكم ستكون الحكمة شديدة آنذاك في التّعامل مع الكِتاب المقدّس دونما شخصنة بل خدمةً للصّالح العامّ، فالأنا المتعصِّبة لن تخدم الدّين، ولا حتّى الكنيسة، لأنّها تـتحوّل، آنذاك، لعامِل مِن عوامل الهدم، وأداة مِن أدواته، إذ يقول “جاليليو” بِبَيان رهيب وبلاغة خارقة: «وأنا أتوسّل إلى الآباء المبجّلين، أن يأخذوا في اعتبارهم بحرص شديد، الفرق القائم بين العقائد الخاضعة للبرهنة عليها، وتلك التي تخضع لمجرّد الرّأي (…)، وهناك فرق كبير بين إصدار الأوامر لعالِم رياضيات أو فيلسوف، وبين التّأثير على محام أو تاجر، لأنّ الاستنتاجات الواضحة حول الأشياء التي في الطّبيعة أو في السّماوات، لا يمكن تغيـيرها بالإمكانيات نفسها، مثل الآراء حول ما إذاَ كان أمر ما قانونيًّا، أم غير قانونيّ في أحَد العقود، أو الصّفقات، أو فواتير المبادلة»(16).
ليس هذا فقط، إذ أنّ تحريم العِلم كلّه، بمثابة نزع قداسة مجموعة مِن المقاطع داخل الكِتاب المقدّس، التي تحفّز أنّ قدرة الله وعظمته تُرى بإعجاز في مخلوقاته كلّها، فبالكِتاب المسطور نقرأ الكِتاب المنظور، بحيث لا يدفع الكِتاب المقدّس لمشاهدة بزوغ الشّمس، ومتابعة مواضع النّجوم البعيدة فقط، بل لِفهم الأسرار الهائلة، والعلاقات المنظِّمة لهذه الأشياء كلّها، وكيف تترابط فيما بينها في مشهد عجيب ومدهش، «لدرجة أنّ السّهر والكدّ والاجتهاد والدّراسة لمئات ومئات مِن العقول الحادّة، لم تستطع كلّها أن تسبر (…) إلّا القليل، عندما يُنظر إلى المظهر الخارجيّ لجسم الإنسان، مقارنة بالأمور الرّائعة التي يكتشفها عالِم تشريح دقيق، أو فيلسوف في الجسم نفسه، عندما يبحث عن استخدامات كلّ تلك العضلات والأوتار والأعصاب والعظام، أو عندما يختبر وظائف القلب والأعضاء الرّئيسيّة الأخرى، فهو يبحث عن مقرّ القدرة الحيويّة، ويلاحظ ويشاهد البنية الرّائعة لأعضاء الحسّ، ويتأمّل دون أن يتوقّف عن الذّهول والبهجة، وعاء التّصوّر والذّاكرة والإدراك. وبالمثل، الذي لا يرى إلّا مجرّد المنظر، مقارنة بالإعجاز الرّفيع الذي يكتـشفه إبداع الرّجال المتعلّمين في السّماوات بطول المشاهدة ودقّـتها»(17).
ثم ينتقـل “جاليليو” لمهادنة الكنيسة، بمكوّناتها كلّها، بكلام بديع وبمظهر لافت وباهر، إلى درجة أنّه يسمح لإحراق رسالته أو تمزيقها، إذاَ كان يستهدف شيئًا غير الذي يُعلن في كتاباته، وهو المؤمن الكاثوليكيّ التّـقيّ، فيقول ببراعة مَهيبة: «ولذا، فإنّني أعلن، وسيتّضح إخلاصي نفسه، أنّني لا أقصد (…) أن أنكر أيّ أخطاء، ربّما أكون قد وقعت فيها في هذا الخطاب عن جهل فيما يتعلّق بأمور الدّين (…)، وهدفي هو فقط، أنّه إذاَ (…) كان هناك أيّ شيء يمكن أن يخدم الكنيسة المقدّسة في التّوصّل إلى قرار يتعلّق بمنظومة كوبرنيكوس، فإنّ الأمر متروك للسُّلطة العليا، أن تأخذ وتستخدم ما يبدو الأفضل لها. أمّا إذاَ لم يكن الأمر كذلك، فليُمزّق ويُحرق كتابي، لأنّني لم أقصد، ولم أدّعِ أن أجني مِن ورائه أيّ شيء ليس تقيًّا، ولا كاثوليكيًّا»(18).
ومِن هذا القبيل، يَذكر “جاليليو” بإبانة عظيمة فكرة في غاية الأهمّية، وهي الرّبط بين الكِتاب المقدّس والواقع، ويُبيّن بسلاسة كبيرة كيف يجب الانطلاق مِن الواقع لكي نصل إلى النّصّ، وليس العكس؛ فما نكتـشفه في الطّبيعة مِن حقائق ويقين لابدّ مِن وجود صداه، بشكل أو بآخر، بين ثنايا كلمات الكِتاب المقدّس في توافق تامّ، وإن استعصى على الأفهام بالنّسبة للعامّة؛ وبتعبير آخر، أنّه عندما يتمّ الوصول إلى أيّ يقين في الفيزياء، يجب اغتنام هذا اليقين عاملاً مساعداً لتفسير الإنجيل، ودراسة ما يحتويه مِن معانٍ داخله، لن تتعارض بالضّرورة مع الحقائق المُكتـشَفَة.
وبحسب “جاليليو”، فالله خَلَق العالَم للجدال والنّزاع، وجعل الأشياء كلّها في مكانها الدّقيق، بحيث يبقى عَمَلُه سبحانه يفوق المدارك البسيطة للإنسان، وما على هذا الأخير سوى استخدام عقله في مناقشة هذه الهيئات والأحوال، لأنّ الله تعالى، لم ولن يغلق طريق التّـفلسف الحرّ حول هاته الأمور كلّها، التّي وضعها أمامنا للتّأمل فيها، والبحث في نواتها. فبتعبيره المؤّثر هذا، يصوّر “جاليليو” صورة عالية الحسّ الأدبيّ والبلاغيّ، حينما يقارن بين إدراك الإنسان حريّته مقابل استيعاب الخلق الإلهيّ البديع لها، وكون هذا الأمر ليس متعارضاً أبداً لأنّ الله منبع كليهما، ولا يمكن أن يتعارضَا أيضاً، لأنّهما مِن خالق واحد سبحانه.
وفي سياق مواز، يدحض “جاليليو” فكرة كَنسيّة، شائعة آنذاك، مفادها أنّ الإنسان صورة لله في عظمته، لذا عندما خلقه، وضعه في مكان يليق به، وهي الأرض مركز الكون وثابتة، وجعل الأشياء كلّها منتظمة حوله –أي حول الإنسان- إذ مَن يجرّب إزاحة الأرض عن مركزيّة العالَم، فهو بذلك يزيح الإنسان بل الله، لأنّه صورته، مِن مركز الكون؛ ويعطي مقابِلها الفكرة الصّحيحة: أنّ الشّمس هي النّور، والنّور رسول مِن الله، الذي يخترق الفضاء بأكبر سرعة موجودة على الكون، وتُعتبَر الشّمس أيضاً مَلِكة النّجوم كما يصرّح، خلقها الله لتدفئ الأرض وتـنيرها، فالأرض تدور حول الشّمس كباقي الكواكب، ولكن متميّزة لأنّها المكان الذي استقبل الإنسان وأواه، فقبْل أن يجعل الله الإنسان في مركز الكون، جعله يعيش على الأرض لاختباره، فيقول بأسلوب مبهر شارحاً الفكرة: «لكن ثبات أو حركة الأرض أو الشّمس ليس أمراً إيمانيًّا ولا ضدّ الأخلاقيات. كما أنّه لا يمكن لأحد أن يسيء استخدام مقاطع مِن النّصوص المقدّسة ضدّ الكنيسة المقدّسة أو ضدّ الآباء، لأنّ مَن كتبوا عن هذا الأمر لم يستخدموا قطّ أيّ نصوص مقدّسة. وهكذا يظلّ مِن وظيفة اللّاهوتـيّـين الوقورين العقلاء أن يفسّروا المقاطع وفقاً لمعناها الحقيقيّ»(19)، وهنا يعطي “جاليليو” مثالاً رائعاً ومعبِّراً، لرجال الدّين الذين يفسّرون الإنجيل بمعرفتهم وعلى طريقتهم، ويقصون التّـفاسير الأخرى كلّها، فمثلهم «مثل أمّ تبحث عن طفلها بين ثنايا ثوبها الفضفاض»(20)، بحيث ستجده في نهاية الأمر، ولكن بعد جهد جهيد، وتعب شديد يضيع معه الوقت الكثير، الذي كان بالإمكان استـثماره في قضايا أخرى، ومسائل أكثر أهمّية.
وفي الختام، يرى “جاليليو” أنّ استخدام العقل ضروريّ لِفهم الكتاب المقدّس، بدل الاعتماد على التّـفسير الحرْفيّ للكلمات والجُمل، لِكون العقل في نهاية المطاف يقدر على برهنة الاكتشافات والنّـتائج، ويحكُم عليها بالمنطق السّديد، بحيث «وبصرف النّظر عن أيّ نظام نفترضه للكون، فلا يزال مِن الضروريّ أن نصقل الكلمات الموجودة في سفر يشوع ونفسّرها»(21).
فلاحظنا إذاً، كيف تعامل الأديب “جاليليو” مع الأطراف كلّها، انطلاقا “بالغرندوقة كريستينا” ثمّ رجال الدّين العقلاء والجهلاء، ثمّ الخصوم والمؤيّدين، بل حتّى أنّه وجّه كلامه للعلماء، خاصّة الذين سيفهمون استنتاجاته الفيزيائيّة، وخاطب أيضاً الكنيسة إجمالاً، فكان أديباً بليغاً ومُناقشاً مجادلاً، بأسمى عبارات الاحترام والتّقدير.
الإحالات والهوامش
(1) جاليليو جاليلي (1564-1642م)، يقول ستيوارت هامبشر: «وُلد جاليليو عالِم الفَلك العظيم في بيزا، وكان عالِماً تجريبيًّا لامعاً، وأصبح أستاذاً للرّياضيات في جامعة بيزا (…)، كما أجرى سلاسل من الملاحظات مستخدما التّلسكوب، وبدت له أنّها تؤكّد فرضية كوبيرنيكوس من أنّ الشمس مركز منظومة الأفلاك السّماوية». ينظر كتاب: عصر العقل فلاسفة القرن السّابع عشر، ستيوارت هامبشر، ترجمة ناظم طحان، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، ط2/1986م، ص:30.
(2) يقول مصطفى النّشار أنّ أرسطو: «وُلد عام 384 ق.م (…)، وقضى عشرين عاماً بصحبة أفلاطون، وظلّ واحداً من تلاميذه بالأكاديمية حتّى وفاته». ينظر كتاب: فلسفة أرسطو والمدارس المتأخرة، مصطفى النشار، دار الثقافة العربية، 2006م، ص:7.
(3) الأميرة الدّوقة كريستينا دو لورين (1565-1636م)، أمّ كوزيمو الثّاني حاكم إقليم فلورنسا آنذاك.
(4) هو إقليم من الأقاليم الخمسة الكبرى (ميلان، نابولي، البندقية، فلورنسا، روما)، التي كانت تضمّها إيطاليا، والتي تتمتّع بالحكم الذاتي، والتّابعة سياسيًّا لسلطة روما البابويّة.
(5) يقول يعقوب صرّوف: «وينسب هذا الرّأي إلى بطليموس العالِم اليونانيّ الذي نشأ في الإسكندرية بين سنة 100 و170 للميلاد، وهو الرّأي الذي جرى عليه العرب لمّا تعلّموا الفَلك من كُتب اليونان، ونقلوا كتاب بطليموس المعروف بالمجسطي إلى العربية، وزادوا عليه تحقيقاً واكتشافاً (…)، لكنّهم لم يُخالفوا رأيه من حيث دوران الشّمس وسائر السّيارات حول الأرض، ولو قالوا إنّ الشّمس أكبر من الأرض». ينظر كتاب: بسائط علم الفلك وصور السماء، يعقوب صرّوف، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2/2020م، ص:16.
(6) نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543م)، راهب وفَلكيّ بولنديّ، يعتبر أوّل مَن صاغ نظريّة مركزيّة الشّمس، وكون الأرض جرماً يدور في فَلكها في كتابه “حول دوران الأجرام السّماوية”. وهو الذي أوقف الشّمس وحرّك الأرض، وأيضاً، الذي قلَب موازين النّظرة الإنسانية للعالَم، بحيث نقلنا مِن التّفكير مِن خلال منظومة مركزيّة الأرض إلى التّفكير مِن خلال منظومة مركزية الشّمس. لتفاصيل أكثر، ينظر: وداعاً نظرية مركزية الأرض كوبيرنيكوس ودورات الأجرام السماوية، ويليام تي فولمان، ترجمة أسامة فاروق حسن، مؤسسة هنداوي، ط1/2015م.
(7) اكتشافات وآراء، جاليليو جاليلي، ترجمة كمال محمد السيد وفتح الله الشيخ، كلمات عربية للنشر، القاهرة، ط1/2010م، ص:221.
(8) المرجع نفسه، ص:230.
(9) القديس أوغسطين (354-430م)، هو: «(أوليوس أوجستينوس): وُلد في طاجسطا (وهي الآن سوق الأخرس بالقرب مِن مدينة عنّابة بالجزائر(…)، ومات في أيبونا (مِن أعمال نوميديا أو الجزائر). أعظم الأفلاطونيّـين المسيحيّـين في الغرب اللّاتيني، وذروة الحركة الفكريّة لآباء الكنيسة، أثره ضخم على التّفكير الدّينيّ والفلسفيّ للأجيال التّالية، يقف على العتبة الفارقة بين العصر القديم والعصر الوسيط، ويجمع في تفكيره بين الميتافيزيقا الأفلوطينيّة المعدّلة، وبين النّظرة الإنسانية عند بولس الرّسول». ينظر: لِم الفلسفة مع لوحة زمنية بمعالم تاريخ الفلسفة، عبد الغفار مكاوي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ط2/2020م، ص:119.
(10) اكتشافات وآراء، مرجع سابق، ص:233.
(11) المرجع نفسه، ص:235.
(12) المرجع نفسه، ص:205-206.
(13) المرجع نفسه، ص:210.
(14) المرجع نفسه، ص:217.
(15) المرجع نفسه، ص:219.
(16) المرجع نفسه، ص:220.
(17) المرجع نفسه، ص:222-223.
(18) المرجع نفسه، ص:206-207.
(19) المرجع نفسه، ص:230.
(20) المرجع نفسه، ص:235.
(21) المرجع نفسه، ص:231.