لقد أصبحت الرقمية دون شك فلسفة العصر، وأصبحت معظم الدول التي تنشد الجودة في التربية والتعليم، تنزع إلى توظيف الرقمية باعتبار أهميتها في تيسير التدريس وتعزيز التعلمات. والمدرسة العربية اليوم، هي أحوج ما تكون إلى التحديث لإخراجها من الوضع التقليدي الذي عمّر طويلاً، ومن أجل اللحاق بالمجتمع العصري الذي تطغى عليه التكنولوجيا من كل جانب. وفي هذا الصدد، يبدو أن استعمال التكنولوجيات الحديثة، من أهم وسائل تحديث المدرسة العربية ونقلها إلى مستوى يساير تطورات العصر.
تحديث المدرسة بالموارد الرقمية
يلاحظ الباحث التربوي أن الهوة شاسعة في المدرسة العربية بين واقع المتعلم خارج المدرسة ووضعه في المدرسة، حيث إن المتعلم يترك في بيته وفي المجتمع والشارع، فضاء آهلاً بالوسائل التكنولوجية الحديثة من تلفاز وحاسوب وإنترنيت وغيرها، ويجب على المدرسة ليجد فضاء تقليديًّا يغزوه السبورة والكتاب، ليسمع خطابات تُلقى من طرف الأستاذ بهدف هضمها واستعادتها في الامتحانات، بالشكل الذي كانت عليه المدرسة في العصر اليوناني أو الروماني.. وذلك ما يؤدي دون شك، إلى شرخ في واقع التلميذ بين ما يتعلمه في المدرسة وما يتداوله ويعيشه في حياته اليومية. ولهذا لا بد من أن تنخرط المدرسة في الرقمية، وذلك يتطلب إعادة النظر في التجهيز وتوفير الموارد الرقمية، ثم التكوين.
1- التجهيز
لا بد أولاً من تجهيز المؤسسات التعليمية تجهيزًا كافيًا، لنقل بنيتها من البنية التقليدية التي تكتفي بالإسمنت، إلى بنية رقمية تجعل التكنولوجيا إحدى أهم ركائزها، من خلال ربط المدرسة بالشبكة العنكبوتية، ومن خلال توفير الوسائط التكنولوجية بالنسبة للمدرس والمتعلم معًا. وإذا كان البعض يرى ذلك مكلفًا، فإن التكلفة تكون أكبر عندما يتعلق الأمر باستنزاف الكتب الورقية والطباشير والبرامج والمذكرات المتوالية التي تعمل المؤسسات المركزية على إرسالها، والتي تتطلب جحافل من الموظفين. ففي ظل الرقمية يمكن أن تصل المستجدات إلى المدرس أو المتعلم أو مدير المؤسسة بنقرة زر وفي وقت قياسي، مما يسهم في تحيين المعلومات بشكل دائم بالنسبة للمدرس والمتعلم معًا، وهو ما يتطلبه العصر الحديث الذي يغرق في المستجدات، والذي يتسم بالسرعة وبكثرة المتغيرات.
2- توفير الموارد التربوية الرقمية
الأمر الثاني الذي لا بد منه للانتقال الرقمي، هو أن يتم توفير الموارد التربوية الرقمية، وإذا كان الكثيرون يعتقدون أن الأمر يحتاج فقط إلى وسائل تكنولوجية حديثة مثل المسلاط (data- show) والتلفاز والإذاعة المدرسية وما إلى ذلك، لكي ننتقل إلى مدرسة رقمية، غير أن الأمر أبعد من ذلك؛ إذ يتطلب أيضًا أن تصبح الرقمية فلسفة تربوية من خلال التغيير في بنية التعلم وفضائه، فضلاً عن توفير الوسائط التكنولوجية الحديثة.
كما تحتاج المدرسة الرقمية إلى رقمنة البرامج (numérisation des programmes) بتوفير مصادر المعلومات والبرامج مرقمنة، ومن ذلك رقمنة الكتاب المدرسي والكتب الموازية التي كانت ورقية، لكي تنقل إلى الوسائط الإلكترونية. ومن خلال رقمنة البرامج التعليمية -بل لا بد من تحديثها لتواكب العصر- من خلال إدخال التربية الرقمية في كل المواد التعليمية، فالمحتوى الدراسي هو الأهم في هذا الصدد، وهذا يتطلب نخبة قادرة على هذه العملية التحويلية.
3- التكوين المستمر
لا بد من تكوين المدرسين في الرقمية وفي طرق التعامل معها، تكوينًا مستمرًّا يواكب تطور الموارد الرقمية، وهذا ما نقصده بتعليم الرقمية الذي يمكنه أن ينتقل إلى المتعلم؛ فالمدرس التقليدي الذي لا يعرف كيف يفتح حاسوبًا أو يشتغل عليه، لا يمكنه أبدًا أن ينخرط في العملية إلا من خلال التكوين المستمر الذي لا تكفيه ساعات أو أيام أو حتى أشهر.. وإنما عبر تكوين مستمر ودائم طيلة حياته التعليمية، ما دامت هذه الموارد تتقدم وتتغير بتغير الزمان.. فلا يمكن انطلاقًا من هذا التكوين المستمر الذي يظل الرافعة الأساس للتحويل الرقمي إلى المدرسة، أن نغير الوسائل في حين نبقي على الأساتذة كما هم، حيث يكون الأمر أشبه ببناء مستشفى وتركه بدون طاقم طبي متخصص.
من التعليم بالموارد الرقمية إلى تعليم الرقمية
ما زالت جل المؤسسات التعليمية -للأسف- تعتبر المعلوميات مادة تعليمية ثانوية، لأننا في ظل الألفية الثالثة، ومع اقتراب العقد الثالث من هذه الألفية تكاد تتحول حولنا الحياة بكاملها إلا في المدرسة، حيث تظل راكدة. فالتعامل المالي والاقتصادي غزته الرقمية؛ تحوَّل الإعلام إلى الرقمية، وأصبح القطاع العسكري يعتمد على التكنولوجيات المتقدمة، وعلى المستوى الإداري أصبح الجميع قادرًا على أن يسحب موارده ومعلوماته الشخصية من الحاسوب، وفي التجارة أصبحت الصفقات تتم بهذه الصورة، وانفتح الطب على التكنولوجيا فأصبحت العمليات الجراحية تُجرى عن بعد.. أما في المدرسة التي تعتبر بوابة التغيير، فلا يزال المتعلم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسبورة والطباشير.
من جهة أخرى، فإننا بحاجة إلى تعليم الرقمية إلى جانب الإعلاميات، وتكوين المدرسين فيها، وفي كيفية استعمال الوسائط التكنولوجية التعليمية والموارد الرقمية بشكل صحيح، وكيفية ترشيدها من طرف المسؤولين.. ومسألة الترشيد هذه يمكن أن يعهد بها إلى هيئة المراقبة التربوية، وإلى إدارة المؤسسات التعليمية لمعرفة كيفية التعامل مع الرقمية، كما أن اللوحات الإلكترونية المرتبطة بالتلميذ، إن فتحت على الانترنيت للبحث، لا بد من التحكم فيها عن بعدٍ لمعرفة كيف يقوم المتعلم بالبحث لأنها مصدر تربوي.
إن القاصر في الواقع لا يمكنه -أو إنه لا يعرف- كيف يتعلم بالرقمية وكيف يستعملها، وتعليمه التعامل مع الرقمية أمر ضروري، من خلال فرض حصة دراسية أسبوعية أو حصتين من أجل هذه العملية. ومن جانب آخر لا بد من تخليق هذه العملية، لأن العديد من الناس -وخاصة المراهقين- يرون أن الموارد الرقمية مجرد وسائل للهو واللعب، ومن ثمة فإن اعتماد الكتاب المدرسي الرقمي أمر ضروري، لكي لا تصبح المعلومات أمرًا ثانويًّا، وإنما ضرورة لا بد منها حين تصبح الموارد الرقمية مصادر للتعلم ومراجع للبحث العلمي.
يتطلب الانتقال إلى الرقمية من المدرس العمل على إدراج أفلام تربوية يمكن للمتعلمين أنفسهم أن يبدعوها ويمثلوها في المدرسة، لأن تعليم الرقمية لا يقتضي اتخاذها كوسيلة، بل كثقافة تمتزج فيها الصورة والفيديو والصوت وغيرها، من أجل تنويع آليات التنشيط التربوي التي تساعد على تجويد العمليات التعلُّمية والرفع من مستوى المتعلمين.
وخدمة لهذا الهدف الذي يقوم على رقمنة التعليم، ينبغي للمدرس أن يعتمد على سيناريوهات بيداغوجية عوض الاعتماد على الإعداد التقليدي السردي للدروس. فالسيناريو البيداغوجي (le scénario pédagogique) في التعليم الرقمي، يقتضي من المدرس إعداد سيناريوهات تتنوع فيها الوسائل التكنولوجية وتخطط للدرس وفق مسارات متنوعة تعتمد في بناء الدرس وفي بناء العمليات التعليمية التعلُّمية على الرقمية بشكل أساس.
ما الذي نستفيده من الرقمية في مجال التربية؟
1- ربح الوقت: إن أهم ما يفيده المتعلم من الرقمية، هو الوقت الذي يعتبر أغلى من كل شيء، بحيث يصبح المتعلم قادرًا على أن يستثمر بشكل سريع المعلومات ويوظفها في وقت قياسي من خلال إحالته بشكل فوري على مصدر المعلومة.
2- خلق الحافزية للتعلم: تتيح عبر الوسائط الرقمية والتكنولوجية للمتعلم الرغبة في التعلم، بحيث يبتعد عن روتينية ورتابة النقل المعرفي الذي كان يعتمد على الكتاب المدرسي والسبورة إلى وسائط لا حصر لها تتخلق من ثقافة المتعلم الاجتماعية التي أصبحت تسيطر فيها الوسائل التكنولوجية الحديثة، وهو من شأنه أن يزيد من فضول البحث المعرفي وإيجاد نوع من الوئام مع هذه الوسائط الحديثة.
3- الديمقراطية المعرفية: إن الرقمية وسيلة للديمقراطية في التعلم، باعتبارها تتيح للجميع الارتقاء المعرفي بعد أن كانت المعلومة محصورة عند المدرس، بحيث إن المدرس كان ناقل المعرفة ومصدر المعلومات، في حين كان التلميذ/المتعلم مجرد متلق، حيث صار الآن بإمكان المتعلم أن ينتقد ويفند ويحاجّ المدرس ما دامت المعلومة قد صارت مشاعة لدى الجميع، ويمكنه أن ينقل الارتكاز حو تعلم المعلومات إلى الإبداع وإلى إنشاء أجواء تربوية جديدة تسود فيها ثقافة النقد والشك المعرفي، وهو ما يجعل المدرس مجرد ميسّر للتعليم، في حين أن المتعلم هو من يبني تعلُّماته بنفسه، وذلك جوهر النظرية البنائية التي أسسها “بياجيه” (J. Piaget).
4- تيسير التواصل: تيسّر الرقمية والوسائط التكنولوجية عمليات التواصل، وتجعلها أكثر رحابة من خلال التنويع في مسلسلات التواصل عبر أدوات متعددة ينتقل فيها الدرس من السبورة التفاعلية إلى المسلاط إلى البوربوينت (PPT) إلى الفيديو، وهو ما يجعل التواصل رحبًا وناجحًا.
5- بناء شخصية المتعلم: وذلك من خلال إخراج المتعلم من المشاكل النفسية التي كانت تعترضه بسبب النظام التعليمي التقليدي الذي كانت تمر فيه العملية التعليمية بشكل عمودي من الأستاذ إلى التلميذ، لأن طرق التدريس الرقمية لن تكون نفسها الطريقة التقليدية، فلا بد لتيسر التعلم عبر الرقمية من سيناريوهات جديدة للتعلم، ولعل المُساعِدات الرقمية ستسهم بشكل كبير في كسر الحواجز النفسية بين المتعلمين وبينهم وبين المدرس.
6- الاندماج التربوي في الحداثة: وذلك بتكسير الحواجز بين المدرسة والمجتمع، وتقليص الفارق بين مجتمع المتعلم الذي هو مجتمع تغلب عليه الآلة والتكنولوجيات عالية الجودة، والوسائل المعلوماتية المتطورة، بحيث إن المدرسة لا بد في ظل الرقمية أن ترتقي إلى واقع المتعلم، بل بإمكانها أن تتجاوزه وأن تؤثر فيه بشكل إيجابي وهو ما يتطلب، إلى جانب تجديد الوسائل التربوية؛ تجديد المناهج والبرامج التربوية، وإعادة النظر في طرق التدريس، وفي النظريات التربوية التي ينبغي أن تنطلق من واقع المتعلم، وأن تجعل المدرسة فضاء مفتوحًا على المجتمع.
انطلاقًا من كل ما سبق، يبدو أن الانتقال إلى الرقمية أمر ضروري بالنسبة لجميع الدول الراغبة في الارتقاء بالمدرسة وفي تحديثها، ويتطلب ذلك أن تصبح الرقمية بمثابة فلسفة تربوية وثقافة مدرسية واجتماعية، ولا يمكن تحقق ذلك إلا من خلال الإعداد الجيد للمدرسين، من أجل الانخراط في الرقمية عبر التكوين المستمر لهم في مجال الرقمية وفي مجال الوسائط التربوية، ولا بد من توفير الفضاء المناسب للتعلم، بتحديث المدرسة بكل مكوناتها اللوجستيكية والإدارية والتربوية.
(*) مفتش تربوي للتعليم الثانوي / المغرب.