في الصباح الباكر استيقظتُ ظنًّا أني قد غفوت بعض الوقت، وعندما نظرت إلى الساعة ارتاحت نفسي؛ أخيرًا استطعت النوم مدة ساعة كاملة دون قلق، دون هلاوس سمعية، أسمع صوتها يناديني، من فوق الأفق تلوح لي بيدها متمثلة في أجنحة حمامات بيضاء.. تذكرني بخطيئتي، تحدثني عن الحب، عن لحيتي الطويلة التي تقبلها.. ليس لي حيلة فيما مضى، والقادم هو حبيس الذكرى والخطيئة، الإثم والندم.. لا مجال هنا للحب.
اعتدت على الجلوس أمام البحر، أرتاح لحديثي إليه، أمواجه المتلاطمة تشبهني.. أمد بصري في الفراغ اللامتناهي، يرسل رسائله إلى حين تنهمر دموعي فأجد أمواجه تمتد وتتطاير قطراته على وجهي فتختلط بدمعي، وكأن الطبيعة وحدها القادرة على ترميم دواخلنا واستيعاب أرواحنا.
في طريقي إلى البحر لا أرى سوى بيت ناءٍ، فكرت كثيرًا أن أقترب منه علني آنس بصخب أصحابه.. كانت الفكرة تلح علي ولكني أتراجع.. فأنا الذي قرر أن يعيش منعزلاً عن العالم، كيف أعود إليه وأصدقه مرة أخرى؟!
قررت بعد صراع أن أقترب بحذر، أتابع عن بعد، لا سبب لذلك غير أنني أختبر ذاتي ورغبتها في البعد، أثبت لنفسي أن مجرد متابعة أحدهم سترهقني، لأعود كما كنت، دون رغبة، دون أمل، دون أنيس، دون نفسي.
اقتربت.. البيت ساكن إلا من حركات هامسة تثيرها الرياح المعبقة برائحة البحر، كلما زاد السكون ازداد قربي.. بعد ساعات قليلة رأيت شابًّا يبدو عليه في الثلاثين من عمره، يحمل طفلة فوق كتفيه ويركض بها في كل مكان، تتعالى الضحكات فينشرح قلبي لهما، ثم ينقبض انقباضاته المعهودة، اثنان لا ثالث معهما.. ابتعدت عن البيت بالقدر الذي يجعلني أرى وأسمع ضحكاتهم العالية.. تركض الطفلة فيركض خلفها أبوها ضاحكًا، يلاعب عينيه فتلاعب عينيها له، ينحني فتعلو ظهره، يقفز متنقلاً.. يبتسم البحر لابتساماتهما.. اقتنعت بقول أحدهم إن السعادة معدية، إذا ابتسمت ستجد الكون كله مبتسمًا.
ظللت أتابعهما دون أن يروني، أو هكذا خُيِّل إلي.. في أثناء جلوسي مراقبًا متابعًا، شعرت بأنامل تربت على ظهري.. قبل أن ألتفت جلس بجواري وقال: أنا أيضًا أتابعك منذ فترة، لن أسألك عن شيء لكن بوسعك أن تسألني عن كل شيء.
تلعثمت.. كنت أحسب أنني اخترت مكانًا نائيًا، أتابع من أريد ولا يتبعني أحد.. قبل أن أتفوه بكلمة قال وعيونه تنظر إلى الأفق البعيد:
– كنت مثلك، آتي في الصباح لأصطاد، مبتعدًا عن صخب المدينة، محتميًا في أمواج البحر المتلاطمة، رغم حدتها وصوتها الذي يثير الخوف بداخلي إلا أنني اعتدتها وأحببتها.. كنت يائسًا بائسًا، موقنًا أن ما بقلبي لن يستطيع الزمن محوه، لكن بمجيئي هنا وجدت أن مرور الزمن وحده كاف للنسيان.
هنا قاطعته:
– كيف ننسى ما مررنا به ونحن لا نعيش إلا فيه؟ في الصحو يشغلنا، وفي النوم يؤرقنا، الأمر أعظم مما تتخيل يا سيدي، أعظم مما تتخيل.
تركته جالسًا وأنا أسحب قدمي في ثقل وأردد كلماتي: الأمر أثقل من تحمله.
تغيبت ثلاثة أيام، لم أحتمل بعدًا أكثر من ذلك، وذهبت خلف البيت بين صخرتين يصطدم بهما ماء البحر جلست أتابع.. بعد مرور دقائق قليلة جاءني صوته من الخلف:
– أيقنت أنك ستأتي لا محالة، هذا المكان ساحر، من يأتيه مرة سيأتيه للمرة الألف، هنا تستطيع أن تغسل روحك من دنس الحياة.. لن تفعل شيئًا سوى أنك ستشاهد فقط وتتابع من حولك، سآتيك مرارًا لأطمئن عليك.
تركني وذهب.. لا أعرف لماذا اهتم لأمرى، وما الذي سأشاهده هنا ليغسل روحي بمجرد النظر! من وراء البيت ظهرت الطفلة الصغيرة تركض وخلفها أبوها، يضحكان بصوت عال، على مقربة مني، ومن البحر بدأ حديثهما: أبي، من تحب أكثر، أنا أم الطيور المحلقة التي تأخذك عني؟
تغيرت ملامح الأب التي أتبينها جيدًا وقال في حزم طفولي: تسألينني كثيرًا عن حبي لك وللطيور المحلقة.. أنت تعلمين أنك نور عيوني، والقلب ينبض وينادي “بسمة بسمة بسمة”.
سكت الأب.. اقتربت الطفلة منه تقبله وتقول: أنا أعلم يا أبي أنك تحبني كثيرًا، لكن هذا لا يمنع سؤالي.
بدأت زخات المطر تلمع على وجهيهما، قفز الأب يصرخ وينادي، مطر مطر، ما أجمله.. بسمة هذا المطر أرسلته أمك إلينا من الجنة، شكرًا يا حبيبتي، شكرًا يا ملاكي الكبير، اطمئني ملاكي وملاكك الصغير بخير.
رفع ابنته على صدره، ورفع وجهها للسماء وأكمل: ملاكك ينظر إليكِ، انظري يا بسمة إلى أمك في السماء.
بسمة صامتة.. تنظر إلى أبيها في صمت وتبتسم.. انتهت الزخات فهدأ الرجل.. وضع ابنته على رجليه وجلس ينظر إلى ماء البحر.. بدأت طفلته في تخليل أصابعها لشعر أبيها تنفض من عليه قطرات الماء العالقة فيه، وتعدل من ثيابه.. نظر إليها وقال: أمك لم تكمل حديثها معنا، ولم يستمر الماء الذي أرسلته طويلاً، بالتأكيد هي حزينة، فأنا لم أسق زهورها حتى ذبلت شجرة الورد، ما أرسلته يكفي لسقيها وحدها.. أنهى كلامه بحزن وأراح رأسه على كتف ابنته المحتمية من الهواء البارد في حجره.
تتعلق الابنة في رقبة أبيها ويستعيدان نشاطهما، ثم يعود الأب في حالة صمت ثانية.. تذهب الفتاة إلى الداخل تأتي بالطعام ويجلسان ليأكلان.. تطعمه كسرات خبز، فيطعمها الفاكهة ويقبلها بعد كل قضمة تقضمها.
لا أستطيع الحركة.. تؤلمني قسوتي مع ابنتي، أجر قدمي وأرحل بعيدًا وسرعان ما أعود في الصباح.. في كل يوم يلتبس علي أمرهما.. من المسؤول عن من؟ أم المسؤولية بالحب تتوزع ولا نستطيع تفرقة إذا كان الأب الموكل بحماية ابنته، أم الابنة كما يقولون دائمًا أم لأبيها!
غاب الرجل الذي أوصاني باستمرار المتابعة، وصرت أبيت الليل خلف البيت لا أتحرك عنه.. إلى أن جاء اليوم الذي نزلت فيه الفتاة إلى البحر وفي يدها دلو.. لم تستطع التمسك بالصخرة الملساء، انزلقت نحو الماء، نادت أباها، ركض نحوها، لم يفعل شيئًا سوى أنه اندفع نحو الماء وباتا يصرخان معًا وهو يرفعها بذراعيه لأعلى.. أسرعت إليهما، وصعدت بهما نحو اليابسة، يحمل ابنته بين ذراعيه، يجففها، ينادي عليها في فزع بعدما هدأت أنفاسها، يضع شفتيه على شفتيها، يلفظ أنفاسه بداخلها، عله يهبها حياة من داخله.. لا استجابة، يتركها ويركض بعيدًا يصرخ، يعلو صوته في السماء.. ينتفض جسدي، ينظر للسماء ويردد:
اتركها لي.. اتركها هذه المرة.. لا أريدها ملاكًا كما صارت أمها.. اقتربت منها لأجد صدرها يعلو ويهبط في بطء.. أنادي عليه، يأتيني: بخير.. ابنتك بخير.. ينظر إليها، تبتسم.. يركض بعيدًا، ينظر للسماء: شكرًا لك، شكرًا لك.. أنت دائمًا على عهدك معي.
أتركهما وأنا في حالة من التيه، أذهب عنهما لأجد الشيخ الكبير ينظر إلي ويقول: هذا الرجل في عمر ابنته العقلي، هو فقط يكبرها بعشرين عامًا جسديًّا.. أنت هنا لتتدخل في الوقت المناسب كما فعلت، أما أنا سأرحل واثقًا فيك، ولتعلم جيدًا أن الحياة تبدأ من هذا البيت.
(*) كاتبة وأديبة مصرية.