قد اتضح لنا بما لا يدع مجالاً للشك، أن ابن رشد كان له تأثير كبير في تطور الفكر الأوربي، خاصة بدفاعه عن الفلسفة ودعوته إلى الاعتماد على العقل والتجربة، وانطلاقًا في براهينه على وجود الإنّيّة ووجود الله تعالى، استدلالاً من الطبيعة أو العالم الخارجي في تأسيسه للأبستمولوجيا والأنطولوجيا، مما مهد السبيل إلى الثورة العلمية الأوربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو ما يمثل عصر النهضة الأوربية، الذي سمح للغرب من الخلاص من أسر العصور الوسطى للانطلاق إلى العصر الحديث في ظل مفاهيم علمية جديدة شكلت عصر التنوير.
ولا شك أن الاكتشافات والاختراعات والأبحاث الجديدة التي قام بها علماء ومفكرون، أمثال كوبرنيكوس، وكبلر، وغاليليو، وسبينوزا، ولابنتز، ونيوتن، قد أحدثت انقلابًا عميقًا وشاملاً في نظرة الناس إلى الكون والحياة والتمهيد لظهور المناهج العلمية الجديدة في مختلف المعارف والعلوم الإنسانية والطبيعية. ولم يقتصر تأثير ابن رشد في أوربا على الساحة الفلسفية، بل تجلى تأثيره أيضًا في ميادين الطب والعلوم، خاصة وأن لابن رشد إسهامات علمية جادة في كل من علمي الفلك والطب.
ومن هنا كان طبيعيًّا أن تؤثر أفكاره الفلسفية والعلمية على أوربا، وتكون عنصرًا فاعلاً في التنوير الأوربي الحديث، من حيث انطلاقة الفلسفة من أسر اللاهوت، والاعتراف بثنائية العقل الإلهي والعقل البشري، وبالتالي ثنائية الحقيقة (الرشدية في صورتها الأوربية) وانفساح المجال لانطلاقة العلوم الطبيعية والإنسانية، وإلغاء التوسط بين الخالق والإنسان عبر الكنيسة، وبالتالي إلغاء التوسط بين الحق الطبيعي (البشري) والحق الإلهي، وتصارع أو تصالح الفلسفة والدين المسيحي.
العلوم الإنسانية والموضوعية
إننا نجد هذا الاندغام والحركات الملتوية على امتداد فسحة واسعة من التاريخ الأوروبي، أسهمت أفكار ابن رشد العلمية والفلسفية في اختياره وبلورته في أشكال شتى. وفيما يتصل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية أسهمت المعالجة العلمية التي قدمها ابن رشد في مؤلفاته خاصة، ومحاولته الاقتراب من الموضوعية في دراسة هذه الظواهر المتصلة بالإنسان وعلاقاته في تأسيس التوجه العلمي المعاصر، الذي أصبح يتناول الظواهر الاجتماعية والإنسانية بمناهج نقدية وعلمية يعوّل عليها في المقام الأول.
وقد تجلت موضوعية ابن رشد في نظرته للحقيقة الاجتماعية على أنها نسبية غير مطلقة، فهو يرى أن العلوم الإنسانية علوم نسبية غير مطلقة، لأنه يدرك بأن المجتمع مستمر بالتغيير وكل شيء يتغير وليس بثابت، وقال أيضًا إن علم الإنسان ينمو شيئًا فشيئًا، ويخرج من القوة إلى الفعل، فهو علم نسبي يبدأ بالإحساسات ثم ينتقل إلى الصورة والخيال، ثم يحدد المعاني الكلية ويستخدمها في استنباط المعلومات الجديدة. ولما صرح ابن رشد بأن الحقائق الاجتماعية نسبية وأن الإنسان يدركها بحواسه، أكد على استخدام العقل أيضًا في إدراك الموجودات من أجل التعرف على أسبابها، وهذا يعني نبذ كل ما هو وجداني وشخصي في البحث العلمي عن الحقائق.
ونلاحظ في هذا، أن ابن رشد لم يعط أهمية مطلقة للأحكام العقلية الصرفة وتجريدها من إحساسات الإنسان بواقعه ومحيطه، بل أدرك بأن الإنسان يبدأ بإدراك هذا الواقع عن طريق حواسه، ومن ثم تنبه إلى أهمية العقل في دراسة الواقع بشكل دقيق وواضح، دون تحيز وتعصب شخصي أو قيمي أو إقليمي، أي يكون دور العقل بمثابة المنظم والمحكم فيما إذا أرادت هذه الإحساسات أن تطنب أو تزيد من تأثيرها على تفكير الباحث ونظرته للواقع.
ابن رشد والسببية
إن السببية من المفاهيم التي وقف عندها ابن رشد طويلاً، فهي في نظر ابن رشد عنصر مهم في البحث والتقصي، وأن القانون وحده لا يكفي لتفسير الظواهر. وإذا نظرنا إلى علم الاجتماع نجده لا يكتفى بمعرفة كيف تتغير الظواهر بقدر ما يريد أن يعرف لماذا تتغير على نحو معين، من حيث أن العلم يهتم بالبحث في الظروف والشروط التي تتحكم في إحداث الظاهرة.
إذن ما قاله “أوجست كونت” في القرن التاسع عشر بخصوص قوانين المجتمع وأهميتها في دراسة المجتمع، وإهماله لمعرفة أسباب الظواهر ومسبباتها أمر خاطئ، وهذا ما أثبتته النظريات الاجتماعية المعاصرة، كنظريات الصراع عند “لويس كوسر” و”رالف دارندروف” و”نظرية النفوذ والسلطة” لبيتر بلاو، و”نظرية جورج هومفز” في التبادل الاجتماعي، ونظرية “روبرت مرتن” و”تالكوت بارسونز” في البناء الاجتماعي.
وهذا يوضح لنا أسبقية أفكار ابن رشد وأهميتها وعصريتها إذا قارناها بأفكار علماء الاجتماع الكلاسيكيين والمحدثين. وفي مجال آخر أكد ابن رشد أن لكل وجود علة أو عللاً مترابطة ومتعانقة بعضها مع البعض الآخر في إحداثه، والمعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها وميز في الوقت نفسه بين عدة أنواع من الأسباب هي ثانوية، وحقيقية، وقريبة وبعيدة، وذاتية كامنة داخل الظاهرة، وخارجية أي خارجة عن الظاهرة.
وأوضح الأسباب الخارجية في إحداث الظاهرة عندما تكلم حول “القضاء والقدر”، الذي يمثل عند المسلمين عقيدة إيمانية في التأسيس له عقلانيًّا حينما قال: “إن هذه الأسباب تساعدنا على إتمام أعمالنا، وقد تقف في سبيلنا، بل تجبرنا في بعض الأحيان على أفعال معينة نعجز عن القيام بأضدادها.
ابن رشد والحرية
كذلك لم يهمل ابن رشد “حرية الاختيار” الفردية عند الشخص (عامل ذاتي داخلي) في ارتباطه بوشائج المجتمع، وهذا هو جوهر الأشـــياء ليقـف عـلى سبب أو أسباب الحقيقة في وجودها، لأن من لم يعرف حقيقة الأشياء لم يعرف حقيقة الاختراع على حد قوله. ولقد كان تفسير ابن رشد لحرية الإرادة الإنسانية تفسيرًا علميًّا دقيقًا، وكان يرى أن القول بالسببية لا يلغيها، وخلاصة رأيه أن الإرادة والشوق تبعثه فينا المؤثرات الخارجية، ولكن لما كان العالم الخارجي -بما فيه بدن الإنسان- محكومًا بالعلاقات السببية، فإن ذلك الشوق -أي الإرادة- إنما يتحقق عند مواتاة الأسباب الداخلية (داخل بدن الإنسان)، والخارجية (في الطبيعة)، وزوال الموانع.
هل يعني هذا أننا أمام ضرورة أو آلية عمياء؟ إن ابن رشد يجد مخرجًا علميًّا من هذه الضرورة، فيرى أن الإنسان كائن عاقل، وأن العقل -كما قررنا من قبل- هو إدراك هذه الأسباب. إذن، فإذا أدرك الإنسان مواتاة الأسباب لشوقه ذاك، أصبح قادرًا على تحقيق إرادته ومن ناحية حريته، وبالتالي كلما زاد علم الإنسان زادت حريته، وتحققت إرادته، ومن هنا كان ابن رشد يرى في نظرية “الكسب” الأشعري جبرية، من حيث إنهم لا يفرقون بين هذا الذي يسمونه كسبًا وبين الحركة الاضطرارية كرعشة اليد -مثلاً- إلا تفرقة لفظية والاختلاف في اللفظ -كما يقول ابن رشد- لا يوجد حكمًا في الذوات.
وهكذا يقدم ابن رشد تفسيرًا علميًّا للسلوك الإنساني تحكمه عوامل ذاتية وأخرى موضوعية بعضها قد يعود إلى الطبيعة والعالم الخارجي، وبعضها قد يعود إلى النظم الاجتماعية التي يعيش في ظلها الإنسان، خاصة وأن الإنسان المسلم يضع في اعتباره دائمًا تلك القيم الدينية الإسلامية التي يدين لها بالولاء، وتشّكل جزءًا أساسيًّا من عقيدته وقناعاته العقلية.
الحرية وحقوق الإنسان
هذا الفهم المتقدم لمفهوم الحرية الإنسانية، كان له تأثيره الذي لا ينكر في الغرب الأوربي في العصور الحديثة للوصول إلى مفهوم المساواة وحقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم التي دعمت الاتجاهات الإنسانية الحديثة.وإذا كانت الحداثة هي مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية من خلال عملية التراكم التاريخي، والجهود التي يبذلها أبناء المجتمع في سبيل الخروج عن القصور الذي يقترفه الإنسان في حق نفسه وعجزه عن استخدام عقله وإمكاناته في سبيل البناء، فإننا نجد في فلسفة ابن رشد الأفكار الأساسية التي تدعم هذا المفهوم، وتؤكده في المجتمعات التي يتوفر لها الاهتمام الكافي لذلك.
إن أكثر ما تتطلبه الحداثة للنمو والبروز في أي حركة اجتماعية، الحرية بمعنى الاستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة. ولهذا نجد في التجربة الأوروبية، أن هناك علاقة طردية تربط مستوى الحداثة مع انبثاق مبادئ حقوق الإنسان والفلسفة العقلانية وفكرة التقدم، وهي كلها أفكار سادت فلسفة ابن رشد، بل تمثل ركائز جوهرية في هذه الفلسفة.
فقد اتضح لنا أن فلسفة ابن رشد تحارب المذهبية الضيقة، وتسعى من خلال العقلانية والتأويل إلى تعدد الرؤى واختلاف الاتجاهات. ولقد انتهى الفهم الفلسفي المعاصر إلى أن الحداثة ليست صفة يتصف بها المجتمع أو شكلاً يتزيا به، وإنما هي مرحلة يبلغها المجتمع، ويدخل بتطوره النوعي الذاتي في نمط جديد من الحياة، قوامها الاستيعاب التام للحظة الراهنة التي يعيشها المجتمع في مختلف المستويات، وإدراك التطورات العلمية والصناعية والسياسية والاجتماعية.
ابن رشد وعالم منفتح
إن توجه ابن رشد الفلسفي يصلح حقًّا في إرساء أسس فكر فلسفي معاصر، يؤمن لإنساننا انفتاحًا عقليًّا على الموروث والمستجد، والنهل من منهجيات العلوم كافة وتطويع اللغة، لاستيعاب الضرورات الثقافية والحضارية. ويوم تنكشف للعقل العربي المعاصر أمثال هذه المواقف لتبني إحداها، تعود إلى تراثنا الفكري والفلسفي حيويته لمتابعة مسيرته مستقبلاً مطورًا وشموليًّا.
وقد تأكد لنا بعد تجربة طويلة مع الغرب الحديث، أن مفتاح الحداثة ليس في اقتفاء أثر الغرب في أموره وقضاياه، بل باستنفار الجهود العقلية والعملية الذاتية في اتجاه التطوير والنهضة. وكل تحديث لا ينطلق من الذات وإمكاناتها وآفاقاها، سيتحول إلى مشروع يناقض الحداثة. فالتحديث ليس جملة المؤثرات الكمية في المسيرة الجمعية، وإنما هي صيرورة تاريخية اجتماعية، تلامس بالدرجة الأولى البنى الأساسية والجوهرية في العملية الاجتماعية بأسرها.
وقد توفر كثير من شروط هذا التحديث في أفكار ابن رشد وفلسفته، مع اهتمام كبير بالأبعاد الدينية والقيمية الأصيلة، وعندما أغفلها المسلمون في العصر الوسيط سقطوا صرعى التخلف والانحطاط. أما حضوره في المرجعية العربية والإسلامية المعاصرة، فسوف يؤدي إلى توقد ذهني، ويقظة فكرية تساعد على انبثاق نهضة عربية إسلامية تتجه إلى التجربة الحضارية الإنسانية لامتصاص النافع منها دون أن تسمح لعواصف التغيير القادمة أن تقلعها من جذورها وتقضي على هويتها.
فتوفر الفعل الحضاري في البنية الإسلامية يعني وجود مقومات البناء الذاتي والدينامية الطامحة إلى التطوير، والروح المعنوية اللازمة لكل عملية تغيير اجتماعي/ثقافي. وهذه شروط ضرورية لكل مجتمع إنساني، يتطلع إلى التقدم ويتجاوز كوابح نقيضه. ومثلما كان للكندي مناسبة فُضلى كشفت موقف المؤرخين، نقّادًا وفلاسفة من أول عملية تثاقف كبرى عرفتها الثقافة العربية، بين الإسلام وفلسفة اليونان وعلومهم (الدخيلة) وكان شظيتها الكبرى نشأة الفلسفة العربية الإسلامية.
فكذلك يعتبر اليوم الموقف من الإشكالية المركزية التي طرحها ابن رشد مباشرة وصراحة حول الحكمة الدخيلة (الفلسفة) بالشريعة الأصيلة (الدين)، المناسبة الحاسمة للفكر الفلسفي العربي والإسلامي المعاصر، لتحديد موقفه من عملية التثاقف الكبرى الثانية بين الثقافة العربية الخارجة من عصور طويلة من الانعزال (الانحطاط) والثقافة الغربية الأوربية المعاصرة، تلك الثقافة (الدرامية) التي تُعرف تحت أسماء عديدة، مثل “النهضة العربية الحديثة” أو “صدمة الحداثة” و”الغزو الثقافي الغربي”، الذي شكل الاستشراق أحد ميادين عراكه الثقافية.
(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.
المراجع
(1) مختصر تاريخ الطب العربي، إرنست رينان، بغداد عام 1984م.
(2) النظام الفلكي الرشدية والبيئة الفكرية في دولة مغرب الموحدين، د. كمال السامرائي.
(3) ما بعد الطبيعة، ابن رشد.
(4) كشف مناهج الأدلة، ابن رشد.
(5) التحليل السببي للظاهرة عند ابن رشد، د. معن خليل عمر.
(6) نظرية المعرفة عند ابن رشد، محمود قاسم.
(7) نحن والفكر المستورد، الفلسفة العربية المعاصرة، د. هشام غصيب، بيروت عام 1988م.