فكرة العولمة التي روج العالم الغربي في تسويقها منذ عقود، والجدال الدائر حول الهوية و الهيمنة الغربية في عصر العولمة الذي بدأت بواكير إعصاره في الزحف على سكان المعمورة، خاصة بعد أن هيأ الغرب الأذهان لسيطرة هذا المارد الجديد على مقدرات كثير من شعوب العالم، أيا كانت هوياتهم، ودياناتهم وجنسياتهم وثقافاتهم.. تطلب منا أكثر من أي وقت مضى أن نبحث في ذواتنا عن شخصيتنا الإسلامية المستهدفة -خاصة لدى شبابنا المسلم– تلك الشخصية التي ما فتأ الغرب ومن والاه في التعريض بها، والحط من قدرها و استثارتها من آن لآخر، سعيًّا نحو الإيقاع بهؤلاء الشباب واحتوائهم وإحلال البديل الغربي في نفوسهم، وهذه الكلمات التي نسطرها ليست سوى محاولة للدفاع عن هذه الشخصية المستهدفة، التي أجد أن العولمة، والترويج لها، فرصة تاريخية للمناداة بعولمة الإسلام الذي يحمل بين جوانحه فكرة العالمية، ووحدة الإنسانية والبشرية، الذي ينطبق عليه معايير العولمة الثقافية والهوية، فهو بحق نقيض العولمة الغربية المغرضة والمزيفة.
ويمكن القول من نواح كثيرة إن المسألة المحورية لهذه الدراسة ليست هي الإسلام والغرب، بل الإسلام في الغرب، إن الهجرة إلى أوروبا من العالم الإسلامي المطل على البحر المتوسط أو ما وراءه ظهرت كقضية رئيسية على الصعيدين العام والرسمي، وقد يبدو للوهلة الأولى أن دور الدين دور شكلي، ذلك أن ظاهرة الهجرة الواسعة من جميع الأنحاء من الشرق إلى الغرب، وكذلك من الجنوب إلى الشمال ونتائجها الاجتماعية خاصة على الشباب المسلم، تبدو بارزة على نحو فعال في الحوارات السياسية الراهنة، بيد أننا إذا ما تأملنا الأمر عن كثب نلحظ أن الهموم الثقافية والدينية والتربوية، ليست أبدًا بعيدة عن شكل النقاش بشأن الهجرة إلى الغرب.
التباين بين الشمال والجنوب
ومن الجدير بالذكر أن تطور المواقف السياسية على هذه الساحة سيكون له دور رئيس في تشكيل العلاقات مع العالم الإسلامي في ضوء التباين الدرامي للاتجاهات الديموجرافية بين الشمال والجنوب على المحيط الأوربي، وثمة شكل آخر من أشكال التباين بين الشمال والجنوب يرتبط بالسابق ويختص بالأداء الاقتصادي ومتطلبات العمل الذي سوف يكون قوة دفع إضافية لهجرة الشباب من الأقطار الإسلامية إلى الغرب.
لذا تنطوي هجرات شباب المسلمين إلى أوربا و الولايات المتحدة على آثار خطيرة قد تهدد الشخصية الإسلامية لدى الشباب المسلم بمعناها الأوسع، إذا لم تكن محصنة ضد مغريات المدنية الغربية والعولمة الأمريكية، ولا ريب في أن سياسة الهجرة ومعاملة المسلمين في أوروبا وأمريكا سيكون لهما دور مهم وأساسي في تشكيل الطابع العام للعلاقات بين الإسلام والغرب.
ولعلنا نذكر بعد أن أطلقت روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقا) أول مركبة للفضاء بنجاح عام 1957 م، جن جنون أمريكا واهتزت حكومة وشعبًا، وشعرت بالتخلف، فأعادت النظر بكافة المناهج، من رياض الأطفال حتى درجة الدكتوراه، كما قررت تجنيد جميع الكفاءات العلمية وإغراءها بالتوجه إلى أمريكا والعمل فيها عارضة المال الوفير والجنسية الأمريكية.. ومن يومها وغربال أمريكا يغربل شعوب العالم، ويأخذ أفضل العينات، وقد كانت إلى الأمس القريب تطارد بعض العلماء عارضة عليهم الجنسية، مغرية إياهم بترك بلادهم، والتوجه إلى أمريكا.
لقد تسلط الغرب على العالم وراح يغزوه بشتى الوسائل لتحقيق أهدافه، ومن بين أكبر هذه الأهداف سرقة الثروات من جهة، وجعلها سوقا لبضائع الغرب، وحقل تجارب لأفكاره وسلاحه و أدويته الجديدة من جهة أخرى، وقد أثمر كل ذلك رفاهية كبيرة للشعوب الغربية، وحضارة مادية لم يشهد لها العالم مثيلا، ولكنها -ويا للأسف– قامت ولا تزال على حساب الآخرين من الفقراء والمستضعفين، وقد صدق “سارتر” حين قال:” ..إنكم تعلمون حق العلم أننا مستغلون، وأننا سلبنا القارات الجديدة ذهبها ومعادنها وبترولها، وجئنا بذلك كله إلى بلادنا، وقد حصلنا من ذلك على نتائج رائعة، قصور وكاتدرائية وعواصم صناعية، ثم حين كانت الأزمة تهددنا كانت وظيفة أسواق المستعمرات أن تزيلها، أو أن تحول مجراها، و أتخمت أوروبا بالثروات”.
سلخ الشباب عن جلده الديني والقومي
لقد كانت الطائرات الروسية تأتي إلى شرقي أفريقيا لتأخذ الكثير من شباب القارة خاصة المسلمين منهم ثم تنقلهم إلى البلدان الشيوعية، ولتدخلهم جامعات من نوع جامعة “بطرس لومومبا” و جامعة “الكادحين” وغيرها، وخلال سنوات تسلخ هذا الشباب عن جلده القومي والديني، وتفرغ رأسه من كل عقيدة أو فكر، ثم تعود لحشوه بأفكار الحاخام “ماركس” والولاء الأعمى لروسيا. أما غرب أفريقيا فقد كان من نصيب “كوبا” التي تدفع مبلغ مائتي دولار عن كل “رأس” من الشباب، تأخذهم إلى هناك وتضعهم في مدارس خاصة، وتعلمهم الشيوعية وحرب العصابات، وقد بلغ عدد هذه المدارس في أوائل الثمانينات أكثر من عشرين مدرسة.
أما في السودان و الصومال فقد كان أفراد السفارات الغربية يتجولون في مخيمات اللاجئين لانتخاب الشباب النابه المتعلم و إرساله إلى أمريكا أو غيرها من البلدان بعد منحهم الجنسية، وفي أفغانستان كانت السلطات الروسية تقوم بترحيل الألوف من الشباب الأفغاني إلى روسيا من أجل غسل عقولهم وحشوها بـ “المورفين الماركسي”.
في عام 1980 م تقدم الباحث “عبد العليم مرسى” ببحث للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة “فرجينيا” تحت عنوان “الخصائص الديموجرافية المميزة للممتنعين عن العودة من طلاب البعثات المصرية الحاصلين على درجة الدكتوراه من الجامعات الأمريكية، وأسباب ذلك الامتناع” وقد ذكر في نتائج دراسته أن الممتنعين عن العودة وصلت نسبتهم في بعض السنوات 70% و أعلى نسبة تكون في العادة بين دارسي الطب و الهندسة و العلوم و إدارة الأعمال. فهل هناك سرقة أقبح و أشنع من هذه؟ ومن يسرق!؟ وممن يسرق؟
ويذكر الدكتور عبد العليم أن أستاذا بريطانيا في جامعة لندن أثبت بالإحصاء أن الولايات المتحدة الأمريكية اجتذبت مائة ألف من العلماء والأطباء و المهندسين من خارجها خلال الفترة من 1949م وحتى 1967 م، ويقدر الرجل بأن أمريكا وفرت 4000 مليار دولار ، وهذا يعني أن بلدانا أخرى خسرت هذا المبلغ الذي يساوي ميزانية أكثر من دولة خلال عام كامل. وفي إحصائية أخرى جاء أن عدد العلماء والمهندسين العرب الذين دخلوا إلى أمريكا مهاجرين قد وصل إلى 6000 ما بين عامي 1966 – 1977 م. ثم يذكر د. مرسي أنه هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها عام 1968م حوالي 38000 من العلماء و الأطباء والمهندسين أي بمعدل واحد كل 30.13 دقيقة.
سمة الطموح أهم معالم الشخصية الإسلامية
وهناك شهادة قيمة للسيناتور الأمريكي “إدوارد كيندي” تتعلق بالهجرة والمساعدات الأمريكية -التي ترتبط بألف شرط وشرط– إذ قال في معرض تعليقه على ملاحظة لوزير التعليم البريطاني بأن هجرة العلماء إلى أمريكا تساوي وتعادل ما تقدمه أمريكا لدول العالم الثالث من مساعدات، قال ” كيندي ” أمام الكونجرس الأمريكي في الثمانينات:” إن المساعدات المقدمة هي أقل من ذلك ” وهذا يعني أن أمريكا تأخذ من دون شرط ولا يمن عليها أحد ثم تعطي الأقل مع المن والشروط الظاهرة والخفية.. فإذا أضفنا إن هذه المساعدات تسلم للحكام فيتبخر أكثرها قبل أن تصل إلى الشعوب، عندها ندرك مقدار الغبن اللاحق بالشعوب الفقيرة و المستضعفة.
ولعل من المفيد أن نضيف لشهادة ” كيندي ” شهادة مماثلة للسناتور “مونديل” أمام الكونجرس أيضا، فهو يقول:”إن هذا النزف قد ألغى أية آثار أو مكاسب كان من الممكن أن نستفيد بها دول العالم الثالث من خلال المساعدات الأمريكية” بل توصل إلى أن هذا النزف من شأنه أن يوسع الهجرة بين الدول الغنية والفقيرة. وقد أصاب كبد الحقيقة عميد كلية الطب بجامعة تكساس، حين قال شهادته أمام الكونجرس الأمريكي بإن استمرار الهجرة للموهوبين من أبناء أي بلد سيؤثر على معنويات الباقين خلفهم، بل يحطم هذه المعنويات ويكون دافعًا للناشئين للتفكير بالهروب، أما المشكلة الأصعب أن دول العالم الثالث لا تقلق ولا تهتم بمثل هذا النزف، وتبدو مستريحة للأمر، وكأن طائفة من الطلبة المشاغبين قد غادرتها إلى غير رجعة.
إن علينا التركيز على ما هية الشخصية الإسلامية وكيف تكون وكيفية تنميتها لدى الشباب المسلم، وماذا نعني بهذه الكلمة الفضفاضة المعنى، الواسعة المفهوم؟ ففي تحديدها تفسير للأسس التي يتمتع بها الإسلام من شمولية و تكامل، فالدين المعاملة، ثم أن إسلامية الثقافة، التي نعني بها مجموعة من القيم والتقاليد الاجتماعية التي يتلقاها الفرد المسلم منذ مولده وحتى مماته، ما هي إلا خصائص ثقافتنا يجب أن يتحلى بها الشباب المسلم.
إن سمة التكامل والشمول في الإسلام الذي هو عقيدة قبل أن يكون نظاما، وأخلاقيات رفيعة قبل أن يكون تشريعًا.. هي سمة الطموح التي هي من سمة الطموح أهم معالم الشخصية الإسلامية ومن أبرز سماتها، لذلك يجب أن نحصر التحديات التي تواجه الشخصية الإسلامية لدى الشباب المسلم خاصة في تلك الأيام بما تحمله من متغيرات وأحداث ونكبات، من أخطار الاستشراق وموجات الغزو الفكري الوافد ومحاولات جر شباب العالم الإسلامي إلى العديد من الموبقات و الانحرافات.. إلا أن هذه الأيام أيضا حافلة في الوقت نفسه بالمزيد من التحديات و المواجهات الإيجابية.
إذن من الضروري جدا أن نحدد الطريق وهو ضرورة أن يبحث المسلمون عن صيغة جديدة وأسلوب مناسب من المواجهة ضد تلك العولمة الأمريكية الغربية المتعددة الأوجه والأهداف، وعلينا أن ندرك ضرورة وحدة أمتنا الإسلامية وتعاونها، فبغير ذلك لا مكان لنا في عالم يتحد ويتوحد تحت مظلة العولمة الأمريكية، ولابد لنا من إيجاد نظرية تناقض تلك العولمة الأمريكية.