أهميــة علـم النفـس عند ابن باجـه

يشكل المبحث السيكولوجي في فلسفة ابن باجه فيلسوف سرقسطة وفاس، من أهم المباحث الفلسفية التي عني بها هذا الفيلسوف -الذي إشتهر في القرن الخامس وبداية القرن السادس من الهجرة- بشروحه ومؤلفاته ذات الإتجاه الأرسطي الواضح مع تأثر كبير بالأفلاطونية في رسائل ونصوص أخرى، ويأتي هذا الإهتمام في سياق التقليد الأرسطي الذي يجعل علم النفس مدخلاً لدراسة العلوم الطبيعية بل أساسًا لأي بحث في أقسام العلم جميعها، وهو ماجعل ابن باجه يوليه إهتمامًا خاصًا ترجمه كتابه في النفس، الذي يحتوي على نظريته في النفس وقواها، ليدشن بذلك تقليدًا لأول مرة بالأندلس يضع أسس المبحث السيكولوجي للفلاسفة من بعده، كإبن طفيل (ت581ه/1185م) وابن رشد (ت595ه/1198م) والفلاسفة اللاتين في أوربا القرون الوسطى. فما هي أسس هذا المبحث؟ وماهي منزلة علم النفس عند ابن باجه؟ وهل كان ابن باجه مجرد شارح وناقل لأرسطو أم محاور وناقد ومبدع؟

تعـــــــــــــــــــريف النفــــــــــــــس

والنفس هي إستكمال لجسم طبيعي ألي.أي يتحرك بمحرك ليس من ذاته. وهي الإستكمال الأول ووجود النفس في الجسم يعني أنه جسم حي. فكل جسم متنفس حي.

غير أن إبن باجه لاحظ بأن مفهوم النفس غير واضح الدلالة فقولنا النفس إستكمال أو جسم أو ألة. كل هذه على نحو من التشكيك لا القطع والإطلاق. لذلك وجب الفصل فيها: ولذلك أعطى للنفس أربعة أنواع:

-النفس العادية (هي إستكمال الجسم الألي المعتدي)

-الحساسة (الجسم الألي الحاس)

-المتخيلة (الجسم الألي المتخيل)

-الناطقة (تقال بنوع من الإشتراك)

منـــــــــــــــــــزلة علم النفـــــــس

يستحضر ابن باجه في سياق حديثه عن منزلة علم النفس أرسطو الذي يرى أن العلم كله حسن جميل وبعضه أشرف من بعض. وعلم النفس متقدم على جميع العلوم الطبيعية والتعاليمية وهو أشرفها على الإطلاق.

والنفس ضرورية لمعرفة كل علم فهي أساس الوقوف على مبادئ العلوم وما هي بالحد. فلابد للناظر في العلم الطبيعي من مقدمات لا تحصل إلا باكتساب علم النفس. إذن لا معرفة قبل المعرفة بأمر النفس.

وبما أن العلم لا يشرف إلا “بالوثاقة” أي بيقينية أقاويله. أو بموضوعه. فالأجدر أن يكون علم النفس أشرف العلوم لأنه يجمع بين الشرطين اليقينية وشرف الموضوع.

النــــــــــفس والعـــــلم بالمبــــــدأ الأول

يؤكد ابن باجه أنه لا علم بالمبدإ الأول على وجه الكمال ما لم يتقدم البحث في علم النفس والعقل.

وقد جعل للعلم بالشيء أنواع من النسب أي الحالات فإما علم ما هو أي البحث في ماهيته وكنه الشيء. وعلم يكون في لواحق الشيء الذاتية والخاصة به. والحالة الثالثة علم باللواحق العامة.

علـــــــم النــــــــــفس وإشكـــــــــالية الحــــــد

ثم يوضح ابن باجه المقصود بعلم ما هو الشيء أي في ماهيته فهو على صنفين إما علم غير تام. كأن يعلم فقط بجزء من أحد أجزائه وهذا أصناف. وإما علم تام وذلك في الإلمام بحده جملة.

والحد يقال في المعاني المشتركة المتساوية في حمل الشيء والتي لا وجود للشيء بدونها. وابن رشد عرف الحد بقوله:”هو قول يعرف ماهية الشيء بالأمور الذاتية التي بها قوامه.

العلم بالشيء: ماهو -لواحقه الذاتية- لواحقه العامة.والعلم بما هو إما غير تام أو تام.

والأشياء المقومة للشيء هي أسبابه. والحدود بتأخير هي ما لم يتألف من أسباب. بل من أعراض إما ذاتية أو غير ذاتي بعيدة أو قريبة.

والحدود بتقديم وهذا أخلق أن يكون حدا. وهو ما ألف من أسباب قريبة أو بعيدة.

ثم ينتقل ابن باجه بعد الحديث عن العلم وعن الحد إلى الحديث عن الأسباب من جهة أنها أربعة:المادة، والفاعل، والصورة، والغاية.

الحد بتأخير (الأدلة. ويفيد الحد بالأعراض) والحد بتقديم (وهو الأخلق بالحد يكون معطى أو الإستنباط أو البرهان) هو ما ألف من أسباب إما بعيدة وإما قريبة، والقريبة هي المادة والصورة والفاعل والغاية.

ويجدر في الحد بالتقديم أيضًا، أن يكون مؤلفًا من الأسباب الخاصة وليس العامة.

ثم يتابع ابن باجه في تعداد طرق التوصل وبناء الحدود، وقصده من ذلك واضح، فهو يمهد القول للنفس ويحاول تلمس الطريق لوضع حد لها لا يشوبه تشكيك أو نقصان. فيذكر طرق بناء الحدود وهو يقصد خاصة الحدود بتقديم، فما أن يأتي هذا الحد كمعطى أو مستنبطًا، فإذا جاء الإستنباط فإما بالقسمة أو بالتركيب، أو الدليل أو الحس أو بالقول.

وهذه تجري مجرى المعطى، أما إذا بنية على أساس من البرهان المطلق، فإما أن تأتي الحدود نتيجة برهان أو مبدأ برهان أو تكون برهانًا متغيرًا بالوضع، وأما الحدود بالأدلة فإنها تفيد الحد بالعرض لا بالذات.

ثم يعود ابن باجه بعد هذا الوضع والتبيين إلى أن يؤكد على أن حدود النفس ليست حدودا معطاة بل هي من الحدود المستنبطة.

وابن باجه قبل ذلك يعتبر النفس من أصعب العلوم إذا كانت تطلب من جهة الحد بتقديم. غير أن هذه الصعوبات ممكن تجاوزها.

حــــــــــــــد النــــــــــــــفس وأراء المتقـــــــــــــــــــــــــدمين

ثم ان ابن باجه يفسر القول في العلوم التي تطلب ماهية الشيء وغاية طلبها معرفة هل ذلك الشيء واحد أو ليس بواحد؟ وهل ذوا أجزاء أم ليس بذي أجزاء وهل هو ذوا قوى أو ذوا قوة واحدة؟ وهذا ما يجب إتباعه في طلب حد علم النفس.

على أن ابن باجه لم يشأ الدخول في حديثه عن النفس قبل عرض لبعض أراء المتقدمين من الفلاسفة الطبيعيين في النفس، وقال: “إن منهم من قال النفس تدل على كثير أي أن اسمها يدخل في الأسماء المشككة…، وفريق قال: أنها تدل على أجزاء عديدة وكثيرة وهي منفصلة فيما بينها (ديمقريطس)، ومن رأى أنها واحدة ذات أجزاء كثيرة متصلة بالموضوعات جالينوس وهذا الرأي الأخير قد اتخذه أفلاطون.

وابن باجه يحدد الإشكال المركزي في علم النفس وغاية التشوق له وعظيم طلبه في السؤال التالي: هل النفس مفارقة للجسم أم غير مفارقة؟ وهو يشير إلى أن أرسطو في المقالة الأولى قال: إن كان للنفس فعل من دون الجسد فيمكن أن تفارق.

ولكن إذا كانت النفس على هذا الحال فكيف ننظر فيها هل من جهة الأجسام التي تحملها أم من جهة لواحق تلك الأجسام التي هي فيها (كالصحة والمرض أو الأفعال كالغضب والرضى). والحد لكي يبنى لابدله من الجنس الذي يوصف به.

ثم إن ابن باجه يتسائل بعد هذا العرض لطرق إستخراج الحد ويعدها ثلاثا:

-طريق التقسيم.

-طريق التركيب.

-والطريق المستعمل فيها البرهان.

ويتسائل عن أي الطرق نسلك في طلب حد النفس؟ ويعرض بعد ذلك أن طريق التقسيم غير متأتي في النفس، لأن جنسها غير معروف هل هو جسم أم لا.

ثم يقضي أيضا طريق البرهان لأنه لا يجعلنى نقف على المعاني التي يقال لها نفس. ثم يستقر ابن باجه على حد التركيب في النفس ولأن طريق التركيب يستعمل في الشيء المعلوم وجوده والنفس من الأمور الظاهرة وجودها مثلها مثل وجود الطبيعة (المعلوم بنفسه والمعلوم بغيره) والنظر في النفس يكون في أنفس كل حيوان وأما النبات فهو في موضع فحص.

لذلك يقول ابن باجه أن هذه الطريق من النظر سيتبعها في الفحص عن النفس لم تكن متبعة قبل أرسطو، فالأقدمون كانو لا ينظرون للنفس في كل ما يقال عليه نفس ولكن كان النظر فقط من جهة النفس الإنسانية ولذلك فالفحص سيكون في الأمور المدنية (الأحوال الإنسانية)، ويضيف ابن باجه أن العلم بالنفس لا يطلب لهذا الغرض فقط (الامور المدنية) بل لأنه جزء من العلم الطبيعي.

نوع الحيوان، ينطلق ابن باجه في عرض القول عن أجسام الحيوان والتي يطلب فيها حد للنفس فيفصل فيها القول، فالحيوان جسم مركب غير متشابه الأجزاء لا متصلة الأجزاء بل منفصلة وهذه الاجزاء تتصل بالإلتحام أو بالفصل، وهي أجزاء متحركة بعضها في بعض، وذلك يوجد في كل حيوان وهو متحرك حساس.

ثم إن الحيوان مؤلف من جسم وصورة وهل النفس هي الصورة أو الجسم فقد تبين أنها صورة.

ولما كانت النفس هي إستكمال لجسم طبيعي ألي فهذا يشمل كل نفس وكل قواها ولكن ليس كمال لكل جسم طبيعي كالارض أو النار فهي إذن لجسم له ألات يستعين بها كالتغذية والنمو. لذلك يشير ابن باجه أن النفس تقال بتشكيك وأنها من المترادفة أقوالها.

ثم يمضي في تفصيل القول في طبيعة النفس، يقول أن النفس ليست ذات طبيعة واحدة ولو كانت كذلك لتجانست أفعالها والمعلوم من أفعال الحيوان أنها غير متجانسة (إغتداء، حس، حركة، تخيل، نطق..) بل حتى هذه القوى ليس تتطابق من جهة التجانس وإنما تتقدم بعضها أو تتناسب فيما بينها، وكذلك النفس وقواها تأتي بتقديم وتأخير وتناسب، ولأجل هذا الذي تقدم لا يمكن أن يطابق الحد جميع ما يقال عليه النفس.

ولأجل ذلك لا يمكن سلك الطريقة البرهانية، ثم ينبه ابن باجه إلى أهمية هذا المنهج في النظر، هذا الطريق إن تم إغفاله من جهة الناظر سيكون سببا في ضياع النفس عنه، كما حصل مع الأقدمين فهذا من الأسباب التي جعلت أمر النفس تذهب عنهم.

ثم جعل ابن باجه يعرض لقولهم في النفس فقد كان الأدمون متفقون حول جوهرانية النفس، لذلك كانوا يجعلونها تحت انواع الجوهر، فقال بعضهم أنها نار، والبعض أنها دم أو هواء، وبعضهم حين لم يستطع أن يجعلها جسما جعلها من المقولات فرتبوها في المقولات العشر.

ثم يفرد القول لأفلاطون الذي جعل النفس من الجواهر فلما أراد تعريفها من جهة أنها هيولة والهيولة جوهر، وهي إما جسم وصورة، ولما كان جعلها جسما من المستحيل جعلها من جهة كونها صورة، فوجد أن صور الأفلاك بإعتبارها أنفسا مشتركة في أشياء، فالحس يختص بالحيوان والحركة تشمل الحيوان والأفلاك.

وقد قصد حدها من جهة ما تشترك فيه وهي الحركة ولهذا فهو يحدها بأنها “شيء محرك ذاته”، والشيء هنا يراد عنده الموجود، وسبب حده للنفس بهذا هو أن أفلاطون يعتقد بأن كل محرك فهو بالضرورة متحرك لأنه لا يمكن أن يحرك دون ان يتحرك.

وينتهي ابن باجه إلى الإشارة لطريق الفحص في كتاب النفس لأرسطو فالفحص سيكون على الشكل الذي تقدم ولأن الأنفس بعضها متقدم بالطبع وبعضها متأخرة، فسيشرع بالفحص عن المتقدمة ثم التي تليها والتالية حتى الأخيرة، لذلك سيبدأ أرسطو بالنفس الغاذية لأنها أقدم قوى النفس ولها قوتان وهي قوة النمو وقوة التوليد، ثم القوة أو النفس الحاسة، والتي جعل فيها قوة البصر والسمع والشم والطعم واللمس والحس المشترك le sens commun والتخيل imagination ، وهي أشدها تأخرًا.

هذا الفحص الذي دشنه ابن باجه في المبحث السيكولوجي سوف ينعكس على مشروعه الفلسفي عموما، وبشكل خاص في نظرية الاتصال التي تعتبر غاية ابن باجه في فلسفته، وكذلك نظريته في العقل والصور الروحانيةles formes spirituelles، وهو ما يوضح بشكل جلي تميزه وإداعه الذي انتبه له من جاء بعده وخاصة ابن رشد.

مصـــــــــادر ومراجـــــــــع:

– ابن باجه، أبوبكر، كتاب النفس، تحقيق: محمد صغير حسن المعصومي، دار الصادق، بيروت، ط.2، 1992

– ابن باجه، أبوبكر، كتاب النفس، تحقيق: جمال راشق، مركز الدراسات الرشدية، فاس، 1999

– راشق، جمال، ابن باجه سيرة وبيبليوغرافية، الرابطة المحمدية للعلماء، دار الأمان، الرباط، ط1، 2017

– العلوي، جمال الدين، رسائل فلسفية لأبي بكر ابن باجه، تحقيق وتقديم، دار الثقافة بيروت،دار النشر الدارالبيضاء، 1983