قد يقول قائل: هناك آية في كتاب الله تعالى في سورة يوسف تقول: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)(يوسف:84)
وهى تعنى أن البكاء المتكرر هو سبب العمى الذي أصاب سيدنا يعقوب عليه السلام، فهل أصيب سيدنا يعقوب عليه السلام بالعمى حقًا؟
فى البداية نعلم من علم الطب أنَّ القسم الظاهر من مقلة العين مؤلف في الأمام والمركز من طبقة شفافة تسمي (القرنیة) وفي وسطها دائرة مفرغة تسمي (الحدقة) ومن وراء الطبقة القرنية والحدقة، طبقة أخرى تحيط بالحدقة ذات لون أسمر، أو بني، أو رمادي، أو أرزق، أو عسلي، أو أخضر تسمى( بالقزحية) وهي التي تعطي العين الصفة المميزة لها، ومن حول القرنية يأتي بياض العين الذي يؤلف القسم الأكبر من مقلة العين ويسمى (بالصلبة)؛ وعلى ذلك فيكون المراد من القول في الآية 84 من سورة يوسف (وابیَضَّت عَينَاهُ مِنَ الحزنِ) هو القسم المركزي من العين، أي أنّه عبر بلفظ الكل وأراد الجزء .الغزى، عبدالله: مؤتمر تفسير سورة يوسف، ج1، ص1153-1154. وإنّما ذكر الكلّ و هو(ابيضاض العين) لما يحمله ذكر الكلّ من دلالة يفتقر لها ذكر الجزء مباشرة. فابيضاض العين في الآية الكريمة يدلّ على شدة الحزن الذي يولد البكاء ومن ثمَّ يؤدي ذلك إلى القلب سواد العين إلى بياض فكأنّما انمحت معالم عينه بسبب كثرة البكاء وشدته وتحولت إلى قطعة بيضاء لا ترى فيها شيئاً من معالم العين.
ولوعبرت الآية الكلام على حقيقته بأن يقال (ذهب الله ببصره) لما دلـّت هذه شدة الألم والعذاب الذي عاشه نبي الله يعقوب(عليه السلام) على ابنه. إذن فالآية قصدت الجزء المركزي للعين الذي فيه يكمن البصر، وإنّما أطلق البياض من باب المجاز لما في ذلك من دلالة على ما كابده يعقوب(عليه السلام) من أحزان وآلام على فقده ابنَهُ الحبيب، وإنّه ما فقد بصره إلاّ من كثرة الحزن والبكاء عليه. فكأنّما ابيضاض العين مرتبط بالبكاء الشديد المصحوب بالعبرة والآلام وهذا ما كان عليه حال النبي يعقوب(عليه السلام). والذي یبدولي أنَّ بياض عين يعقوب (عليه السلام) حقيقة لا مجاز لأنه من كثرة البكاء نزل في عينه الماء الأبيض فصارت كلُّها بياضاً؛ أيْ صارت فی عینیه غشاوة بيضتهما. الغزى، عبدالله: مؤتمر تفسير سورة يوسف، ج1، ص1153- 1154.
وقیل إنَّ الابيضاض کنایة عن العمى فیکون قد ذهب بصره (عليه السلام) بالكلية. واستظهره أبوحيان بقوله تعالى «فارتدّ بصيراً» وهو يقابل بالأعمى. الآلوسی، شهاب الدین السید محمود: روح المعانی، ج13، ص40. وعليه فالابيضاض يدلّ على شدّة الحزن الذي يولد البكاء وان لم يؤد ذلك لقلب سواد العين إلى البياض، فكأنّما انمحت معالم عينيه عليه السلام بسبب البكاء الشديد وتحولت كلها إلى قطعة بيضاء.
ولايفوتني أن أنقل لكم بحث رائع فى هذا الموضوع للأستاذ محمد اسماعيل عتوك – الباحث فى الاعجاز البياني والبلاغي فى القرآن والسنة، لنقرأ ماكتبه، يقول: إن ما حدث ليعقوب عليه السلام من ابيضاض عينيه فقد كان بسبب إفراطه في البكاء المتتالي، نتيجة حزنه الشديد على يوسف، والذي عبَّر عنه في البداية بقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، ثم عقَّب تعالى على ذلك بقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ). أي: شديد الكظم لحزنه، فلم يشك ما به إلى أحد؛ وإنما كان يكتمه في نفسه، ويمسك همه في صدره، وكان يرسل العبرات المتتالية من عينيه دون انقطاع حتى ابيضت عيناه ، وحصل له العمى التام. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: “من الحزن” تفسير القرطبى.
روي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه، وأن وَجْدَه عليه وَجْدُ سبعين ثكلى، وأجرَه أجرُ مائة شهيد. فابيضاض عينيه كان بسبب بكائه الدائم، نتيجة حزنه الشديد . وأنت تعلم أخي القاريء أن كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالدواء يصبح داءا إذا أخذ منه جرعة زيادة عن الجرعات التي يحددها الطبيب، فما بالك إذا أخذ منه أضعاف أضعافُ ما هو محدد، وهذا هو ما يمكن أن يحدث لعين مصابة سُكبتْ فيها أضعَافُ أضْعافُ ما تحتاجه من قطرات الدواء . فالبكاء إذا كان علاجًا انقلب في هذه الحالة إلى داء … ولو كان علاجًا في هذه الحالة ، لما أصيب يعقوب ، ولا الخنساء بفقد البصر على نحو ما سنرى. ثم قد يكون في بكاء يعقوب الدائم الذي أفقده بصره إنقاذٌ لحياته من الهلاك ؛ ولهذا كان أولاده يقولون له : (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)، فكان جوابه لهم: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) والبث أشدُّ الحزن، سمِّيَ بذلك؛ لأنه من صعوبته لا يطيق الإنسان حمله، فيبثه. والبثُّ هو النشر مع التفريق .وفي المستدرك على الصحيحين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :« كان ليعقوب أخ مؤاخيًا ، فقال له : ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك ؟ فقال : الذي أذهب بصري ( البُكاءُ ) على يوسف ، وقوس ظهري ( الحزن ) على بنيامين» ،الحديث وذكر الرازي في تأويل قوله تعالى : (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن ) وجهين :
الوجه الأول: أنه لما قال :(يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء. وقوله: ﴿وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن﴾ كناية عن غلبة البكاء. والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى. فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء، كان هذا التعليل حسنًا. ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل . فكان ما ذكرناه أولى . وهذا التفسير مع الدليل رواه الو احدي في «البسيط»، عن ابن عباس رضي الله عنهما . والوجه الثاني: أن المراد هو العمى، والقائلون بهذا التأويل قالوا: الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم، وهو يوجب العمى، فالحزن كان سببًا للعمى بهذه الواسطة، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى؛ لأنه يورث كدورة في سوداء العين . ومنهم من قال: ما عمي؛ لكنه صار بحيث يدرك إدراكًا ضعيفًا . قيل : ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون عامًا . لاحظ قوله في الوجه الأول: تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى، ثم قوله في الوجه الثاني: الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم، وهو يوجب العمى، فالحزن كان سببًا للعمى بهذه الواسطة.
وشبيه بما حدث ليعقوب-عليه السلام- ما حدث للخنساء في جاهليتها، حين فقدت بصرها من كثرة بكائها حزنًا على أخيها صخر . وكانت تقول مخاطبة عينيها
أعيني جودا، ولا تجمُـدا *** ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجري الجميل *** ألا تبكيان الفتى السـيدا
وكانت تعزى نفسها بكثرة الباكين من حولها، وتقول:
فلولا كثرة الباكين حــولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكـن *** أعزي النفس عنه بالتأسي
سؤال: ماحقيقة اصابة سيدنا يعقوب عليه السلام بالعمي؟هناك احتمالان في قضية وقوع العمى على نبي الله يعقوب : من وقوع العمى التام أو ضعف البعد بحيث يصدق عليه العمى عرفاً.
فلنا أن نقول أولاً: أن العمى المذكور لم يكن المقصود منه العمى التام بل صيرورته بحيث لا يدرك إلا إدراكاً ضعيفاً ومقتضى الإدراك الضعيف وجود أصل البصر غايته لم يكن على ما كان عليه من قبل فقد ولده يوسف (عليه السلام). ويصح أن المراد من الابيضاض من العين أو العمى هو غلبه البكاء عليه ، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنهاابيضت من بياض ذلك الماء ويكون ذلك منشأ لضعفها.
ثانياً: لم يقل القرآن فعميت عيناه من الحزن فهو كظيم إنما قال فابيضت عيناه لضعفها من الحزن. والفرق بين عمى العين وبياضها واضح وظاهر إذ لا يستلزم بياض العين عماها بالمرة.
نعم لازمه ضعفها عن النظر وقلة فاعليتها في مقام أداء الوظيفة فهذا مما لا شك فيه، ولا يرد عليه أن الله قال حكاية من حاله فيما بعد (فارتد بصيراً) لإمكانية حمل المعنى (ارتداده بصيراً) على جلاء البصر وعودته قوياً لا حمله على العودة بعد ذهاب أصل الرؤية.
يقول الشيخ محمد كاظم ال شبير الخاقاني: إن الدلالة قد تكون نصاً كما وأنها قد تكون ظهوراً، وما نحن فيه في مسألة العمى ليست الدلالة إلا من باب الظهور في الآية الشريفة وهي قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام وبنيه: وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) وإن قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) لا يدل على ثبوت العمى كصفة ثابتة وإنما يدل على حدوث أمرٍ لشدة البكاء والحزن ولحالة نفسية قد سبب حجب الإبصار كغشاوة وهذا ما قد يحصل لحدوث بعض العوارض الجسدية أو الروحية كشدة الحزن أو شدة الفرح فتجعل السواد بحكم البياض ويأتي البيان من باب المبالغة فلم يكن ذلك عماءً تاماً ليصبح صفةً لصاحبه .
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:
(وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ) أي: أن دموع يعقوب كثُرتْ حتى بَدا الجزء الأسود في العين وكأنه أبيض. أو: ابيضتْ عيناه من فَرْط حُزنه، الذي لا يبثُّه لأحد ويكظمه.