إن العقلية التي اختزلت الإنسان في جسده، واقتصرت في تفسيرها له على أبعاده البدنية، ذهبت إلى أن جميع مظاهر النموّ والتكامل التي حدثت منذ أن بُعثت مادة الحياة في الكائنات الحية إنما هي “تطورات بيولوجية” بحتة، وهامت تلك العقلية في وديان نظريات التحولات الوراثية المختلفة هابطة بالإنسان إلى مستوى الحيوان، منقبة عنه بين أنواع الحيوانات، محولة علم الأنثروبولوجيا إلى إصطبل أو حظيرة للدواب.
من هذا المنطلق، فلن تكون لهذا الإنسان -الذي صنف نفسه حيوانًا- غاية في الحياة سوى المنفعة، ولن يعير للقيم بالاً إلا إذا حققت له المتعة والمرح والمصالح الذاتية، أو بعبارة أخرى لن يسعى إلا خلف السعادة الحيوانية. ومن ثم فإن أي نشاط يحقق هذه المنفعة، وأي تكنولوجيا توفر تلك المتعة، وأي مال يجلب له نشوة جسدية سوف يتصدر قائمة أولوياته، ويتقدم على كل معيار، ويتفوق على كل قيمة بسرعة مذهلة. في نظام قيمي كهذا، بل -بعبارة أصح- في فوضى قيمية كهذه محال أن ينشأ رجال فكر رفيعو المستوى، أو أرباب علم عالو الهمة، أو أصحاب فن مشحوذو العزيمة؛ وإذا ما وُجدوا فهم ما بين متملق لبعض الأفراد أو متسول لبعض المؤسسات أو طفيلي على أبواب الدوائر الحكومية. أعتقد أن هذه هي الصورة التي نشهدها على امتداد تاريخنا القريب.
إن الحضارة المادية هي مصدر كافة المآسي والأزمات التي يعاني إنساننا مرارتها اليوم. وقد صار ذلك من البدهيات التي لا تُنازَع. فهذه الحضارة هي من شيّدت الوقائع العلمية على نظريات مظلمة، وبنت قواعد الفيزياء على أرضية ضبابية، وقوّضت في مجال الفنون التشكيلية والأدب كل ما يمتّ إلى روحنا، وضخّت في كل شيء نوعًا من الهذيان والميوعة، وزلزلت مؤسسات اجتماعية حافظت على كيانها بنيانًا مرصوصًا أكثر من ألف عام، وقلبت مجال التدبير والسياسة إلى مسرح لألوان مرعبة من الكذب والخديعة، وحولت الأسرة إلى خلية سرطانية في جسم المجتمع. إن حجم الخسائر التي تعرضت لها البشرية -بسبب هذه الحضارة التي باتت دوامة من الأزمات المتداخلة- تتجاوز المكاسب التي جاءت بها. أما نحن، فمنذ أن أطلقنا أشرعتنا -كأمة- ميممين وجوهنا شطرها، لم نستطع -بأي حال من الأحوال- أن نملأ بما منحته لنا فراغَ ما سلبته منا حتى اليوم.
لقد ارتفعت قواعد هذا النظام -المتواري خلف قميص الحضارة- على أرضية مادية بكل ما تعنيه المادة من معنى. إنه، أي هذا النظام، لم يوفر للبشرية سعادة أو سلامًا، بل إنه لم يفتأ يشحذ نوازع الطمع عند البشر، ويغذي غرائز الجشع لديهم، وينادي: “ألا هل من مزيد”؟ مزيد من الإمكانات، مزيد من الإنتاج، مزيد من الديون، مزيد من الربح، مزيد من الحياة المترفة، مزيد من المستقبل الزاخر بالمتعة والترف؟ الحقيقة أن الإنسان، ذلك الكائن المكرّم الذي خُلق كل شيء لأجله، عندما يعجز عن تعريف ذاته، ويخطئ في تفسير جوهره، فإن مصيره المحتوم هو أن يقع أسيرًا في قبضة المادة والأشياء كما هو الحال اليوم.
إننا نعيش في عالم يفضّل المنفعة على الصدق والخير والجمال. وأحسب أن هذا هو السبب في شقاء بؤساء هذا الزمان الذين لا يكادون ينجون من مصيبة حتى تلمّ بهم أخرى. أجل، إن العقلية المريضة التي أعطت العلوم الوضعية والتكنولوجيا مكانة فوق ما تستحق، وأضفت عليها قداسة غير قابلة للنقاش، مستثيرةً نزعة التبجح والتعالي لديها؛ حيث تنظر إلى الدين والأخلاق والفضيلة والجمال أن لا طائل من ورائها، وتروج لذلك في كل مكان… هذه العقلية تُعامَل اليوم باعتبارها عبقرية هذا القرن. ومن ثم فإنه -على ما يبدو- لن تهدأ الهزات التي تدك كيان الأمة، ولن يتوقف الدوار الذي يعذبها، إلى أن ننجو من هذه العقلية السقيمة التي قلبت القيم الإنسانية رأسًا على عقب. ليتنا انتبهنا إلى ما تعنيه القيم الإنسانية في وقت مبكر!
إن “الروح” التي نفذت في طبقات التاريخ نفاذ الذهب والفضة في طبقات الأرض، هي البعد الحقيقي لتاريخنا، وهي تؤكد لنا أن لا مكان للمنفعة والمتعة واللهو في منظومتنا القيمية؛ وإن افترضنا لها مكانًا فإنه لا يتعدى خط الصفر إلا شيئًا يسيرًا. وإن هذه لَمزيّة من المزايا التي يمتاز بها الإنسان عن الكائنات الأخرى. أجل، إن كل كائن -عدا الإنسان- مسيَّرٌ صوب تحقيق مصلحته الذاتية إلى جانب إسهامه بدور في التوازن الكوني. أما الإنسان فإنه يقتفي أثر “روح ومعنى”؛ يتجاوز ذاته والكون بل والأكوان كلها. إن الحيوان لا يمتلك شعورًا دينيًّا أو قلقًا أخلاقيًّا أو كفاحًا، من أجل الفضيلة أو حسًّا فنيًّا. إن هذه القصور الزمردية لم تَفتَح أبوابَها على مصاريعها إلا لقلب الإنسان ومشاعره المرهفة. فالإنسان هو الضيف العزيز الأوحد الذي فَتحت له تلك القصورُ العامرة أبوابها. أجل، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خُلق/وُلد توأمًا مع الدين، واكتسى بخمائل الأخلاق الدافئة، وهو من نذر عمره للتخلق بمكارم الفضيلة، وأعرب عن خوالج قلبه ومكنونات روحه بلسان الفن. إن كل صوت ونفَس، ولون وخط، ونقش ورسم يصدر عنه، بدءًا من الأعمال الفنية البسيطة التي صنعها بأدوات بدائية، وصولاً إلى آيات بديعة تجاوزت المحدود إلى اللامحدود بما احتوته من معان سامية وقيم فريدة، إنما هي أطياف خاصة به انبثقت من أعماقه الوجدانية وانسكبت من موشور فطرته البلوري.
إننا اليوم حين نتأمل في شبكة العنكبوت، وعش العندليب، وخلية النحل، وهندسة القندوس، وموهبة الذباب، ورحلة ثعابين البحر الطويلة والمعقدة، تأخذنا الدهشة ويتملكنا الانبهار، مع أن كل كائن منها يتحرك ضمن برنامج خَطَّته يد القدرة الربانية. فما بالنا بالإنسان؛ صاحب العبقرية الفذة والأفق الممتد الذي يخترق المحدود إلى اللامحدود، المتجاوز لذاته بذاته، والمترفع عنها؟ أليس ذلك الكائن هو المثير للدهشة حقًّا، والمستحق للتبجيل والانبهار فعلاً؟
تلكم هي الحقيقة، وإن كان أغلب الناس اليوم عن القيم الإنسانية الحقة التي ترفعهم إلى أعلى القمم، غائبين. وحتى يأتي ذلك اليوم الذي تَفهَمُ فيه العقولُ هذه الحقيقة بجلاء، من يدري كم من مآس مروعة سوف تقع، وكم من سيول من الدموع والدماء سوف تتفجر، بسبب من كبرياء العلم وتبجح التكنولوجيا وسقم عقليتنا الحضارية التي لا تقيم وزنًا لأي قيمة ما عدا المنفعة.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:١٧3 (يونيو 1993)، تحت عنوان “Kendi Derinlikleriyle İnsan -2”. الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.