لطالما ناديت ومازلت وسأظل أنادي بأن التقليب والتفتيش والتمحيص والدراسة فى المخطوطات العربية الإسلامية، ومحاولة فهمها وتحقيقها، ليوضح بصورة جلية أن مخطوطات حضارتنا العربية الإسلامية ما زالت تحوي كنوزًا وذخائرًا لم يكشف عنها بصورة لائقة حتى اليوم.
وقد سبق واستخرجت من المخطوطات ما أثبت به أن من أهم هذه العلوم وأكثرها فاعلية حتى هذه اللحظة “علم الطب النفسي وعلم النفس” الذي يعد ابتكارًا عربيًّا اسلاميًّا خالصًا.
ومع صحبتي للمخطوطات العربية الإسلامية دراسة وتحقيقًا ونشرًا على مدار أكثر من ربع قرن، وجدتني أمام محاولة تأصيل “علم عربي جديد” من العلوم الإبداعية المهملة في الحضارة الإسلامية، ألا وهو علم “الطفيليات والأحياء المجهرية ” وهاك بوادرها:
نبتدئ بمفهوم علم “الطفيليات والأحياء المجهرية” في العلم الحديث لنتخذه محكًا ومعيارًا لما نستخرجه من نصوص علماء العرب والمسلمين فى هذا العلم الحديث.
يُعد علم الطفيليات والأحياء المجهرية فرع من فروع علوم الحياة، ويختص بدراسة الأحياء التى لا ترى بالعين المجردة، بل ترى بالمجهر أو الميكروسكوب، فيدرس كمية وكيفية انتشار هذه الأحياء فى الطبيعة، ويتساءل ويجيب عن علاقاتها بعضها ببعض وبالأحياء الأخرى الغير مجهرية، وأعلاها الإنسان، ومدى حجم النفع أو الضرر الواقع على الإنسان من خلال هذه العلاقة التى تربطه بأحياء أخرى مثله لم يكد يراها.
وكل ذلك من خلال دراسة تركيب هذه الأحياء وكيفية تكاثرها وتوالدها، وكل أنشطة دورة حياتها:
يذكر لنا التاريخ العلمي الحديث أن العالم أجمع لم يسمع ولم يعرف الأحياء المجهرية والطفيليات إلا فى القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك بفضل اختراع المجهر على يد العالم الدنماركي أنطوني فان ليفن هوك (1632- 1723م) الذي ينسب إليه فى تاريخ العلم أنه أول من نشر صور الأحياء المجهرية عام 1684، الأمر الذي اعتبر ثورة علمية وفتح علمي لا مثيل له.
فتتابعت الأبحاث والدراسات، وتنافس العلماء وتسابقوا فى هذا المضمار طيلة قرنين من الزمان حتى جاء عام 1876 ليسجل للعالم الألماني “كوخ ” السبق فى إعلان الحقيقة العلمية القائلة بأن الأحياء المجهرية تعد من المسببات المرضية للإنسان، وذلك بفضل ما قام به من أبحاث فى (الجمرة الخبيثة).
ومن الجمرة الخبيثة، وصاحبها (الحديث) كوخ، نرجع إلى علماء الحضارة الإسلامية لنرى وكأن ابن سينا (ت 428 هـ) يصرخ فينا من أعماق القرن الرابع الهجري ليقول فى كتابه (القانون) ولأول مرة فى تاريخ الطب أنه اكتشف وعرف ووصف الجمرة الخبيثة، بل والطفيل المسبب لها وما ينتج عنها من حمى أطلق عليها (الحمى الفارسية).. فالجمرة الخبيثة هي التى تطلق على كل بثرة آكال منغط محرق محدث خشكريشة.
وهذا أول توصيف لمرض الجمرة الخبيثة فى تاريخ الطب. والعجيب أن المصطلح المعبر عن الجمرة الخبيثة هو Anthrax يحمل ويعبر حرفيا عن الاسم الذي أطلقه ابن سينا على هذه الجمرة، وهو “الجمرة الفحمية” ولفظه Anthrax لاتينية معناها الفحم.
ولم يتوقف الشيخ الرئيس عند هذا الحد من حقل الأحياء المجهرية المرضية، بل نراه يقدم توصيفًا لمرض خطير آخر ينتمي لنفس الميدان الطبي الحديث، ألا وهو مرض “السل” الذي عرفه باسم “الدق”، وعرف الطفيل المسبب له، فيقول فى موضوعين من “الأرجوزة فى الطب”.
وحميات الدق “السل” جنس ثاني فلا تكن عن علمها بواني
وحميـــــات الدق فى الأعضــــاء المتشــــابهات فى الأجــزاء
وفى “القانون ” يقدم وصفًا بليغًا لأعراض مرض السل “الدق” فيقول بإن أظهر علاماته: “السعال الذي كثيرًا ما يشتد بهم ويؤدي إلى نفث الدم أو المدة، وحمى رقيقة لازمة تشتد عند الليل، ويفيض العرق منهم كل وقت، ويأخذ البدن فى الذبول والأطراف فى الإنحناء..”. وهذا التوصيف السينوي الدقيق لا يخرج عندما هو معمول به حاليًا فى الطب الحديث لاسيما الحقيقة العلمية الثابتة حتى اليوم والقائلة بتبدل الأظافر فى المسلوليين، تلك الحقيقة التى أعلنها ابن سينا لأول مرة فى تاريخ الطب.
ووصف ابن سينا أيضا داء اليرقان “الصفراء” وذكر الأمراض التى تسببه، وكشف الطفيلية المسئولة عنه وهي الدودة المستديرة التى تسمى اليوم “بالأنكلوستوما”، فسبق بذلك (دوبينى الإيطالي) بتسعمائة سنة. فقد قام أحد الأطباء المعاصرين بفحص ما جاء فى الفصل الخاص بالديدان المعوية من كتاب ” القانون “، فتبين له أن الدودة المستديرة التى ذكرها ابن سينا هي ما نسميه بالأنكلوستوما. وقد أخذ جميع المؤلفين فى علم الطفيليات بهذا الرأي فى علوم الطب الحديثة، وكذلك أخذت به مؤسسة روكفلر الأمريكية التى تهتم بجمع أي معلومات تتعلق بالأنكلوستوما، الطفيل والمرض.
ولم يكن الشيخ الرئيس أول من اكتشف ووصف بعض الأمراض المعدية والطفيليات المسببة لها من علماء الحضارة الإسلامية، لكن سياق الموضوع اقتضى الربط بين اكتشاف ووصف ابن سينا للجمرة الخبيثة، وأبحاث “كوخ” الألماني إبان العصر الحديث فى ” نفس الجمرة”.
فقبل ابن سينا، يعد أبو بكر محمد بن ذكريا الرازي (ت 313 هـ) أول عالم فى العالم يتطرق لبحث ودراسة واكتشاف ووصف مرض الجدري والحصبة Small – pox and Measles والذي يدخل فى صميم علم الأحياء المجهرية الحديث.
فلقد وضع الرازي فى وصف الجدري والحصبة رسالة مكونة من أربعة عشره فصلا عدت من أهم وأقيم المؤلفات العلمية فى علم الأوبئة، وإحدى روائع الطب الإسلامي على حد قول مؤرخ العلم المشهور جورج سارتون.
ورسالة الجدري والحصبة من أوسع مؤلفات الرازي انتشارًا فى أوربا، فقد نشرت باللغة العربية مصحوبة بترجمة لاتينية قام بها شاننج بلندن 1766، وكان قد سبقها ظهور ترجمة لاتينية لهذه الرسالة فى فيينا سنة 1556، كما ظهرت ترجمة انجليزية قام بها “جرينهل” ونشرتها جمعية سيدنهام سنة 1848. وقد عرفت هذه الرسالة فيما مضى باسم الوباءdepestes ، وهي كما يقول “نوبرجر”: تعتبر حيث تكون حلية التأليف الطبي العربي وزينته. وأنها تحتل مكانة عالية من الأهمية فى تاريخ علم الأوبئة باعتبارها أول كتاب عن الجدري والحصبة.
ويقول ول ديورانت فى قصة الحضارة: وكانت رسالته فى الجدري والحصبة آية فى الملاحظة المباشرة والتحليل الدقيق، كما كانت أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين هذين المرضين. وفى وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه الرسالة من بالغ الأثر واتساع الشهرة إذا عرفنا أنها طبعت باللغة الإنجليزية أربعين مرة بين عامي 1498 – 1866.
ويعد تمييز الرازي بين أعراض كل من الجدري والحصبة أول تمييز من نوعه فى تاريخ الطب الإنساني وبه قدم الرازي كشفا جديدا يفتح الباب على مصراعيه لتقديم العلاج الصحيح والمناسب لمثل هذه الأمراض الخطيرة: يقول الرازي: “يسبق ظهور الجدري حمى مستمرة تحدث وجعا فى الظهر وأكلان فى الأنف وقشعريرة أثناء النوم. والأعراض الهامة الدالة عليه هي: وجع الظهر مع الحمى والألم اللاذع فى الجسم كله، واحتقان والم فى الحلق والصدر مصحوب بصعوبة فى التنفس وسعال وقلة راحة. والتهيج والغثيان والقلق أظهر فى الحصبة منها فى الجدري، على حين أن وجع الظهر أشد فى الجدري منه فى الحصبة.
لقد أبدع الرازي فى “الحاوي” و”رسالة فى الجدري والحصبة”، وابن سينا فى “القانون”، وغيرهما من علماء الحضارة الإسلامية، أبدعوا فى الحديث عن الديدان الطفيلية المعوية، فإذا كان العلم الحديث يعتمد أربعة أنواع، فهي نفس الأنواع التى تحويها مخطوطات التراث الطبي الإسلامي، وهى الديدان المعترضة أو الشريطية taenia، والديدان الصغار التى تسبب داء الدبوسيات enterobiasis، والديدان العظام أو الكبار التى تعرف حاليا بالإسكارس ascaris، والديدان المستديرة أو الشاصية hookwarm، ومنها الأنكلستوما التى اكتشفها ابن سينا.
ولم يتوقف حد الإسهام فى تدشين علم الطفيليات والأحياء المجهرية على الرازي وابن سينا فحسب، بل هناك علماء أخر أدلو بدلوهم فى هذا المجال الدقيق، ومنهم أبو مروان بن زهر الأندلسي (ت 557 هـ) الذى عرفه الغرب باسم Avenzorai الذى لا يعادله فى الشرق سوى الرازي، ففضلا عن أنه أول من قدم وصفا سريريا لالتهاب الجلد الخام، وللألتهاب الناشفة والأنسكابية لكيس القلب، وأول من ابتكر الحقنة الشرجية المغذية، والغذاء الصناعي لمختلف حالات شلل عضلات المعدة، وأول من استعمل أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعصر البلع، وقدم وصفا كاملا لسرطان المعدة، ففضلا عن كل هذه الإنجازات الطبية والعلاجية التى أفادت الإنسانية، يعد ابن زهر هو أول من اكتشف جرثومة الجرب وسماها ” صؤابة “، ذلك الاكتشاف المثير الذى يأخذ به علم الطفيليات والأحياء المجهرية الى اليوم.
إن من يتناول مخطوطات علماء الحضارة الإسلامية التى لم تحقق وتنشر حتى اليوم باحثا عن أصول علم الطفيليات، سوف يجد الكثير من الحقائق العلمية والمنهجية التى تنسب زورا وبهتانا لعلماء الغرب، دون أدنى إشارة الى مكتشفيها الأصليين فى العصر الإسلامي، فتحتوى مخطوطات التراث الطبي الإسلامي على ملاحظات دقيقة عن انواع الطفيليات التى تعيش داخل الجسم والتى تعرف اليوم “بالطفيليات الباطنية”Endoparasites ، وأنواع ” الطفيليات الخارجية “Ectoparisites” التي تعيش على ظاهر الجسم، بالإضافة الى بعض “الطفيليات الأولية “Protozoa مثل أنواع الأميبا التى تعيش فى جدار وتجويف الأمعاء الغليظة وتسبب مرض الدوسنتاريا Dysentry، وما جاء عن أعراض بعض الأمراض مثل حمى الملاريا التى كشف العلم الحديث عن طفيلياتها التى تصيب الإنسان من جنس البلازموديوم PLASMODIUM
يتبين من كل ما سبق أن أسس علم الطفيليات والأحياء المجهرية -كعلم حديث نسبيا موجودة على حد زعمي- فى مؤلفات وكتابات علماء الحضارة الإسلامية، لكن معظم هذه المؤلفات لازالت فى صورتها المخطوطة. وبناء على ما قدمته، فإن مثل هذه المخطوطات تستحق منا أن ننفض عنها غبار السنين بالدراسة والاستيعاب والفهم والتحقيق، لعلنا نكشف عما تحتويه من كنوز ما زالت فاعلة حتى اليوم، ومنها علم الطفيليات والأحياء المجهرية.