يطرح تدريس الأدب مشكلة حقيقية في الوسط التربوي، ويعتقد بعض المدرسين على أن النص الأدبي ودراسته ونقله إلى المتعلم وفق منهجية معينة هو السبيل الحقيقي لتدريس الأدب، لكن تبقى تلك مجرد مغالطة، فما يتم تعليمه وتدريسه هو منهجيات التعامل النقدي مع النص وليس تعليم الأدب. فالأدب في الحقيقة لا يُتعلم ولا يُدرس، بل يكون تحصيل حاصل في نهاية المشوار الدراسي للمتعلم، بحيث لا ننتهي دائما بعد سنوات طويلة من الدراسة إلى تخريج شاعر أو قاص أو روائي أو كاتب مسرحي، وإنما إلى تخريج طالب حاصل على شهادة أكاديمية بحسب التخصص ومن ذلك طبعا، دارس أدب أو ناقد لا أديب.
فما الذي يمنع من تدريس الأدب؟
لقد خرج من بطون القرى والصحاري في الجاهلية شعراء لم يمروا بالمدرسة أبدا، وظهر في العصر الحديث فنانون ومبدعون في مختلف الفنون ممن لم يلجوا المدرسة، وحتى في الفنون الجميلة مثل الموسيقى والنحت والرسم نجد فنانين برعوا وأجادوا دون حاجة إلى أن يتم تعليمهم، كما نجد اليوم من الشعراء الشعبيين مثلا عمالقة في الشعر والزجل دون أن يلج أحدهم المدرسة، بل إننا وجدنا من الروائيين العرب مثلا من لاقوا شهرة منقطعة النظير وكتبوا من الروايات ما لم يستطعه كبار المثقفين العرب.
بناء عليه، فلا يمكننا أن نعول على المدرسة في تخريج شاعر مبدع، ولا يمكن أن نرى بالضرورة في ناقد محترف في مجال القصة أو الرواية مبدعا في السرد، والحق أننا إن عدنا إلى كبار الأدباء لوجدناهم كانوا في أصناف علمية بعيدة كل البعد عن الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي نفسه، فقد كان فرانسوا رابليه رائد الرواية الغربية الحديثة طبيبا كما كان جل رواد مدرسة أبولو (أحمد أبو شادي وإبراهيم ناجي) أطباء، بل كان رائد القصة العربية يوسف إدريس بدوره طبيبا قبل أن يكون قاصا. كما نجد في عصرنا اليوم من يجمعون بين العلم والأدب أبرزهم الروائي والمسرحي الفرنسي جيرالد تيننبوك (Gérald Tenenbaum) الذي كتب أكثر من ثماني روايات، وهو عالم رياضيات مشهور، ومثله في ذلك الأمريكي لورانس فان كوت نيفن (Laurence van Cott Niven) الذي جمع بدوره بين الرياضيات والرواية.
فما هو دور المدرسة إذن؟
يقوم دور المدرسة في الأصل على تهذيب ملكات المتعلم الفطرية في مجال الإبداع، وهو ما يدعو المعلم والأستاذ إلى امتلاك دراية تامة بعلوم الإنسان خاصة علم النفس وعلوم التربية وعلى أن يكون ملما بمختلف الفنون، لا سيما معلم المرحلة الابتدائية، حيث إن عليه أن يكتشف مختلف الملكات لدى متعلميه لتهذيب ما نشأوا عليه فطريا وتقويمه، وهي مهمة صعبة تتطلب مشاركة أطراف آخرين ومختصين في علم النفس، وتتطلب كما هو الحال عليه في الدول المتقدمة كاليابان أن توفر المدرسة للمتعلم الأدوات والوسائل البيداغوجية والتقنيات الحديثة لينشغل في فترات محددة بالهوايات التي يميل إليها، وبذلك تتحدد الوجهة التي عليها أن يسير عليها في مستقبله.
وينبغي في هذا السياق، أن تضطلع مؤسسات التربية تخصص آداب وعلوم إنسانية على توجيه المتعلم إلى التعامل مع النصوص الأدبية بمختلف أشكالها نقدا ودراسة وتحليلا، ومن ثمة يكتشف المتعلم الفروق بين الأنواع الأدبية ويتعلم ما يلزمه كي يضبط خصوصيات كل فرع أدبي، فالمدرسة تكسبنا القدرة على معرفة خصائص النص الأدبي وليس بالضرورة القدرة على كتابة نص أدبي مماثل، مما يدعو إلى منح الحرية اللازمة للمتعلم للإبداع من خلال عدم تقييده بإنتاج نموذج محدد وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتقويم التربوي، حيث يتضح أن ما يتم تدريسه يمنح المتعلم قوالب جاهزة لكتابة ويطلب منه أن يحاكيها، كما هو الحال لتدريس كيفية إبداع نص سردي حول السيرة مثلا حيث يمنح قوالب جاهزة ليحاكيها أو حين يتعلق الأمر بكتابة رحلة حيث يطلب منه أن يكتب وفق صياغة معينة وحول موضوع يحدده المدرس مسبقا (زيارة مدينة كذا.. مع استحضار: مكان الانطلاق، السفر، وصف المشاهدات، نهاية الرحلة، العودة إلى المكان الأصل).
هل المدرسة تحقق هذه المفارقات؟
إذا عدنا إلى الأطر المرجعية التي تنظم عمل التقويم فضلا عن المقررات والمناهج المدرسية سنجد أن المتعلمين يُمتحنون في المادة نفسها وفي المكون الواحد بطريقة واحدة، ويترتب على ذلك في تقويم الآداب واللغات الاشتغال على موضوع ما بأن نطالبهم جميعا مثلا بكتابة قصة قصيرة أو رحلة أو سيرة، وهو ما يعوق ما يسمى بمبدأ تكافؤ الفرص حيث تُقيد عملية الإبداع لتسير وفق الوجهة التي يريدها المدرس. على أنه يجب أن يمتحنوا في كتابة نص أدبي بشكل عام بغض النظر عن النوع، على أن يكون الامتحان في قصة مثلا هو التعريف بالخصوصيات والحدود والمميزات لا في الإبداع بيد أن هناك من يستطيع أن يبدع في القصة ومن يقدر على الإجادة في الشعر ومن له قدرة على الإبداع في فن السيرة ومن تستهويه الرواية ونفسها العميق. إن الحرية في الإبداع الأدبي تدعو إلى طرح أسئلة من قبيل:
- اكتب نصا سرديا تعتمد فيه الخيال وتضمنه أساليب السرد والوصف والحوار.. عوض اكتب قصة قصيرة.
أو السؤال:
- حوّل المقال الأدبي الآتي إلى نص إبداعي تضمنه الصور الشعرية، مع الحفاظ على الأفكار الأساس للنص الأصلي.
انطلاقًا من هذا المبدأ، يمكن للطالب أن يبدع نصًا شعريًّا أو نصًا قصصيًّا أو ما شابه بشكل يتيح له الحرية الكافية للإبداع ويجعله ينمي ملكته في المجال الإبداعي الذي يميل إليه، أما أن نلزمه بكتابة نموذج إبداعي معين، فالأمر لا يحمل أي معنى لتكافؤ الفرص. حيث إن طرح أسئلة من قبيل ما ذكر يجعل المتعلم يبدع وفق موهبته الأدبية الخاصة على اعتبار أن المهم هو تنمية الملكة الإبداعية وتمهير المتعلم على شحذها من أجل عطاء يوافق ميولاته.
على أن ما يتم تعلمه في المدرسة هو إقدار المتعلم على تحليل النصوص وفق مهارات معينة وهذا ما يجعل الكفايات الخاصة بتدريس القراءة والنصوص الأدبية تتحدد وفق بيداغوجيا الكفايات في: الكفاية الثقافية والكفاية المنهجية والكفاية التواصلية والكفاية المعرفية، حيث لا وجود للجانب الإبداعي في عملية التقويم، وهو ما يقدم مؤشرات واضحة في تقويم ما ينجزه المتعلمون على مدى تحقق الكفاية من عدمه، وتبقى بذلك، مسألة المجال الذي يبدع فيه المتعلم خاصا بميولاته الأدبية.
إن تدريس الأدب في المدرسة هو من قبيل تدريس الفن في المعاهد الفنية وما يجب التركيز عليه في مناهجنا هو المعرفة الكاملة بخصوصيات كل مجال إبداعي، والابتعاد عن إجبار المتعلم على عملية الإبداع وفق هوى المدرس، وذلك يدعو بالضرورة، إلى إعادة النظر في المناهج والبرامج والأطر المرجعية المعتمدة في التدريس وفي التقويم التربوي.