للعقيدة دور مهم في تقوية عزائم الإنسان، ودور أكبر في صناعة الإنسان الناجح الذي يسهم إسهامات إيجابية في بناء مجتمعه. فالعقيدة هي أساس صلاح المجتمعات، وأساس صلاح الأسر، وأساس صلاح الأفراد، وإذا استطعنا تربية جيل عقيدتُه سليمة وقوية، ورُكِّزت العقائدُ الصحيحة في قلبه ووجدانه، فإننا حينها نستطيع صناعة الإنسان الذي يقوم بدور فعال في صناعة مجتمع إسلامي متميز مثالي.
فكيف يمكن صناعة هذا الإنسان؟ وهل العقيدة وحدها كافية لصلاح الإنسان وتعزيز القيم في نفسه؟ وهل فعلاً إذا صلح الإنسان صلح المجتمع؟ وما هي الطرق التي تؤدي إلى تركيز المعتقدات في نفوس الناس؟ وما هي أهم الوسائل التي يمكن من خلالها غرس العقائد القوية المنشئة لأجيال صالحة ومصلحة؟
العقيدة وصلاح الإنسان
حقيقة إن موضوع العقيدة وتثبيتها في النفوس، ينبغي الاعتناء به أيما اعتناء، لما له من دور مهم في صناعة الإنسان وصلاحه، ولذلك فإن القرآن الكريم في العهد المكِّي ركز بشكل كبير على تزكية النفوس بالتوحيد، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، فتعميق الركائز الإيمانية في النفوس ومعرفة الخالق عز وجل، ومعرفة أصل الإنسان وخلقته، ودوره في الحياة، والحكمة من خلقه، ومصيره، وما يكون بعد الموت، وحق خالقه عليه، وغير ذلك من الأمور الغيبية كالملائكة، واليوم الآخر، والجنة والنار، والصراط، والميزان، وغير ذلك من قضايا العقيدة لها أثر بارز في صلاح الإنسان الذي بصلاحه تصلح الأسر وتصلح المجتمعات. هذا الإنسان الذي يحفظ الله به نظام الوجود، وبه يرحم جميع الوجود، وبه صلاح جميع الوجود، وهو حياة جميع الوجود، وبه قيام جميع الوجود.
وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تركيز العقيدة في نفوس الصحابة، لمعرفته بأثر ذلك في صناعة الإنسان، ولذلك فعندما بعث صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى أهل اليمن، قال له: “فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم” (متفق عليه).
خيرية الأمة متعلقة بصلاح الإنسان
خيرية الأمة تستلزم صلاح العقيدة، وصحة العقيدة تستلزم صلاح الإنسان.. ومن خلال العقيدة الصحيحة المستفادة من الكتاب والسنة يعرف الإنسان حقيقته ومنشأه، ويعرف الكون من حوله، ويؤمن أن له ربًّا خلقه فسوَّاه فعدّله، وعلَّمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام عليه الحجة، وعرَّفه الغاية والطريق.
ويعرف أن هذا الرب لم يجعل بينه وبين عباده واسطة في عبادته، وأن حقَّه على عباده أنْ يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.. فما هي الطرق والسبل التي تؤدي إلى تركيز المعتقدات الصحيحة في نفوس الناس؟
معتقدات نفوس الناس
إن المعتقدات التي تسلك إلى نفوس الناس تكون من طرق، منها ما هو منطقي سليم، ومنها ما هو مقبول مع تطرق الاحتمال، ومنها ما هو مزيف مرفوض. أما المنطق السليم، فهو ما يسلك مسالك اليقين “مسلك الاستنتاج العقلي، فالعلم اليقيني، فالاعتقاد الراسخ”. وأما المقبول الذي يتطرق إليه الاحتمال، فهو ما يسلك مسالك الظنون الغالبة. وأما المزيف المرفوض، فهو ما يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتقاليد العمياء.
الطريق الأول هو طريق اليقين، وفيه أربعة مسالك، وهو الطريق الحق في التعرف على الحقائق واكتساب الاعتقادات: مسلك الإدراك الحسي، فالعلم اليقيني فالاعتقاد الراسخ. ومسلك الاستنتاج العقلي، فالعلم اليقيني، فالاعتقاد الراسخ، “معرفة الله عن طريق الأدلة العقلية”. ومسلك الخبر الصادق، فالعلم اليقيني، فالاعتقاد الراسخ. ومسلك الإشراق الروحي (الفطرة السليمة)، فالعلم اليقيني، فالاعتقاد الراسخ.
والطريق الثاني هو طريق الظنون الغالبة، والتي يجري الاعتقاد بها، والعمل بموجبها، حتى يأتي ما يعدلها أو يزيلها، ولا يعتبر منكرها جاحدًا ولا فاسقًا، وقد نعتبره فاسقًا، مثل بعض أحاديث الآحاد الواردة في علامات الساعة وأمور الآخرة. وهذا الطريق له نفس مسالك طريق اليقين مع عدم بلوغها درجة القطعية، وإنما تصل إلى حد غلبة الظن.. وهذا طريق مقبول إجمالاً في العمل وفي العقيدة غير الجازمة، الكافية لدفع الإنسان إلى العمل، حتى يأتي ما ينقض نتائجهـا أو يعدلها أو يظهر فسادها.
الطريق الثالث هو طريق الأوهام والشكوك والتقاليد العمياء، و لهذا الطريق مسالك كلها وهمية وخيالية براقة، تعتمد على خداع وهمي، أو على عصبية ممقوتة، ولذلك فهو طريق مرفوض لا يقبله أي ذي عقل سليم ومنطق منصف.
الآثار المعرفية والسلوكية للعقيدة الصحيحة
من أهم ما ينبغي أن نُعنى به ونحن نتحدث عن صلاح الفرد، هو معرفة العقيدة باعتباره غرضًا مطلوبًا لذاته أولاً، ثم باعتباره غرضًا مطلوبًا لغيره من جوانب الصلاح الإنسانية التي تتحقق بوصفها آثارًا لتلك العقيدة الصحيحة، وإن من بين أهم الآثار للعقيدة السليمة القوية ما يلي:
أ- عقيدة الإسلام والحرية: لا شك أننا إذا قارنّا الإسلام بغيره من المذاهب والملل والنحل والفلسفات، فسنجده الأكثر التزامًا بمبدأ الحرية. فالإسلام جاء دعوة تحريرية كبرى لتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى؛ جاء لتحريره من عبوديته للشيطان، ومن عبوديته للإنسان، ومن عبوديته للأوهام، بل من عبوديته لنفسه وهواه، فلا يَعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئًا، ولذلك فقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم برسائله إلى الملوك والأمراء هذا المعنى، بحيث كان يدعوهم إلى الإسلام، ويقول في رسائله إليهم بهذه الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران:64).
بـ- العقيدة والوازع الذاتي عند الفرد: إن العقيدة الصحيحة تتضمن المعرفة الصحيحة بالله عزوجل، ومن أعظم آثارها حب الله والخوف من الله، وهذه الآثار يترتب عليها آثار أخرى، وهي مراقبة الله عزوجل في السر والعلن ووجود الوازع الديني والأخلاقي. ومن المعلوم أن إيجاد الوازع الذاتي عند الفرد يعد مشكلة كبرى تعاني منها النظم والقوانين الدولية؛ فإنه مهما أقيمت ودونت القوانين بدون وازع ذاتي فإن المجتمع لا يستقر، لأن المجتمع ليكون مستقرًا، فلا بد من أن يكون الوازع الذاتي موجودًا عند معظم الناس، لكن إذا كان الوازع الذاتي غائبًا عند غالب الناس، يؤدي ذلك إلى انتشار الفساد الذي يهدد المجتمعات بالزوال والانهيار.
فالعقيدة -إذن- يتفرع منها العبادة والأخلاق والمعاملة، ويتفرع منها الجزء الذي يهم كل الناس وهو كيف يكون هذا الفرد عضوًا صالحًا في المجتمع، ويكون لديه وازع ذاتي يجعله لا يهدد أمن ولا سلامة ولا استقرار الآخرين إلى غير ذلك. فما الذي يمنع المسلم من الغش والسرقة وأخذ الرشوة؟ إنه الدين الذي حرم الرشوة، وحرم السرقة، وحرم الغش، وحرم كل ما يؤدي إلى فساد المجتمعات وفساد الإنسان. للأسف، لو أن المسلمين اليوم رجعوا إلى دينهم وعقيدتهم وأصولهم العقدية والأخلاقية، لكانوا أفضل الأمم وأقواها، لكن الهوى والنفس ووسوسة الشيطان تفسد على المسلم دينه وعقيدته، فما أحوجنا في هذا الزمن إلى مقاومة هذه الفتن!
جـ- أثر العقيدة في تكوين شخصية المسلم العامة: عقيدة الإسلام تستطيع أن تبني لنا إنسانًا صالحًا له سمات بارزة، ومن أهمها البصيرة، والعزة، والتمسك بالحق، والمجاهدة، والرضا النفسي والاطمئنان القلبي، وإدراك غاية الحياة، والأوبة إلى الحق، وموافقة الفطرة، والتوسط، والاعتدال، والتسامح، والصبر، والواقعية.
ومن آثار ضياع العقيدة السليمة القوية، المعيشة الضنك، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه:124).
إن العقيدة الإسلامية تعلِّم المسلمين أنه من أحيا نفسًا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعًا؛ فالمجتمع الذي لا عقيدة له ولا دين له غالبًا ما يكون مجتمعًا مليئًا بالأمراض النفسية، ما يؤدي إلى فساد الأفراد، وهو ما يؤدي حتما إلى فساد المجتمع.
ولعل شيوع الكراهية والبغضاء بين الناس وعدم الرضا، والتفاوت الطبقي، هو بسبب تزعزع عقيدة القضاء والقدر في قُلوب الناس، وعدم قناعتهم بما قسم الله لهم من رزق.
فمن لا يمتلك عقيدة سليمة قوية ثابتة، يعيش ظالمًا لنفسه ولغيره من المخلوقات، فهو لا يعرف لذي حق حقَّه، فالذي لا يعرف العقيدة الإسلامية يسخر نفسه لغير ما خلقت له، ولا يعبد ربه، بل يعبد غيره من شهوات.
في الختام
إن العقيدة الصحيحة تزيد الإنسان خشية وبعدًا عن المعاصي، فالإنسان صاحب العقيدة السليمة القوية تزداد خشيته لله تعالى، فكلما ازدادت معرفة العبد بالله ازداد خشية، وكلما خاف العبد ربَّه ابتعد عن ما نهى عنه والتزم حدوده.. فكيف يعصي المسلم الله سبحانه وهو يعلم أن الله بصير به، سميع له، رقيب عليه! ولا يخفى ما لذلك من أثر في صلاح المجتمعات.
إن للعقيدة أثرًا مهمًّا وكبيرًا في تقوية الترابط بين المجتمعات، مهما اختلفت عاداتهم وثقافتهم وأفكارهم وطرق عيشهم، ومهما ابتعدت المسافات بينهم.. فعقيدتنا الإسلامية علمتنا أن رابط الدين أقوى من أي رابط آخر.
كما أن العقيدة الصحيحة حصن للإنسان من الفتن والشبهات؛ فالعقيدة السليمة القوية لها أثر كبير في الوقاية من فتن الشبهات التي تهدم الأسر والمجتمعات.
والرابطة العقائدية هي أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المتراص المسلم، لأن عقيدة الإسلام أبطلت جميع الاعتبارات التي يمكن أن تهدم أخوة الدين، فعلاقة الأخوة في الدين علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب وتفضلها، وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعًا على أساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها في تقرير الحقوق والواجبات، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الحجرات:10).
وختامًا نقول، بالعقيدة السليمة القوية يمكننا تربية جيل قوي يمكن أن يسهم إسهامًا كبيرًا في بناء المجتمع الإسلامي على الأسس الصحيحة السليمة التي وضع قواعدها القرآن الكريم، وطبقها سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وعاشها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وتناقلها التابعون، وسيحييها أبناء هذه الأمة لا محالة.
(*) جامعة مولاي إسماعيل، الكلية المتعددة التخصصات / المغرب.
المراجع
(1) العقل والنقل عند ابن رشد، أبو أحمد محمد أمان بن علي جامي علي (ت 1415هـ)، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: السنة الحادية عشرة، العدد الأول، غرة رمضان 1398هـ/1978م.
(2) الآراء العقدية والكلامية للإمام عبد الجليل الديباجي، كان حيًّا (478)، تأليف: الدكتور رشيد عمور، الناشر: الدار العالمية للكتاب، الطبعة الأولى:1439هـ/2018م.
(3) الفكر الأشعري وأثره في ترسيخ قيم الوسطية ونشر قيم التسامح والتعايش، تأليف: الدكتور رشيد عمور، الطبعة الأولى: 1439هـ/2018م.
(4) صحيح البخاري، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) الطبعة الأولى: 1422هـ.
(5) صحيح مسلم، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(6) سنن الترمذي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية: 1395هـ/1975م.
(7) العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم، الطبعة السابعة عشرة: 2016م.