ثمة سؤال يطرحه المرضى بإلحاح، لا سيما قبل حلول شهر رمضان المبارك بفترة وجيزة: “هل يجوز أن أصوم يا دكتور؟”، وكنا نجيب نحن الأطباء على هذا السؤال سلبًا أو إيجابًا حسب وضع المريض وحاله. مثلاً، كنت أنصح مرضاي الذين يعانون من الروماتيزم بأن يتناولوا أدويتهم بانتظام عند السحور والإفطار، وأن يأخذوا الكمية الكافية من السوائل، وما كنت أتصور أبدًا أن الصوم سيؤثر على صحة المرضى إيجابيًّا بهذا القدر! وقد جاء في الأثر “صوموا تصحوا”، إشارة إلى الفوائد الطبية للصوم، وأنه بمثابة درع يقي صاحبه من الأمراض. وثمة آيات عديدة في الذكر الحكيم تؤكد دور الصوم الإيجابي على صحة الفرد. بيد أن معظم النالس يهتمّ فقط بالناحية الدينية للصوم، وبأنه درع يحمي صاحبه من الوقوع في شرك الذنوب والآثام.
قبل سنوات كنت أحضِّر كلمةً لمحاضرة عن أمراض الروماتيزم الالتهابي الذي يحدث عندما يتعرض جهاز المناعة في الجسم إلى خلل أو اضطراب، لفت انتباهي مقال في إحدى الصحف يدور حول الصيام المتقطع. نعم، كان المقال يتحدث عن دراسة أجريت على فئران جائعة، أو قُدِّم لها وجبات ذات سعرات حرارية منخفضة، ليلاحَظ بعد ذلك في هذه الفئران ارتفاعًا في عدد خلاياها التائية المنظِّمة (T Cell) التي تلعب دورًا أساسيًّا في المناعة الخلوية، أيْ هي استجابة مناعية تعمل على تنشيط الخلايا المناعية لمكافحة العدوى، وتعمل كذلك على تدمير الخلايا المصابة بنشاط، وكذلك تقوم بإرسال الإشارات إلى الخلايا المناعية الأخرى للمشاركة في الاستجابة المناعية.. كان موضوعًا لافتًا حقًّا بالنسبة لي، ولكن الزمن حجب عني الموضوع لأنساه حتى أواخر عام 2019؛ حيث رأيتُ مقالاً نشرته مجلة “نيو إنجلاند الطبية” (New England Journal Of Medicine)، ألهب الموضوع عندي من جديد.. عرض المقال إحصائيات علمية عن الصيام المتقطع، وتحدث عن دراسة تؤكد أن الصيام المتقطع يقي الإنسان من أمراض كثيرة، ويؤثر بشكل إيجابي على الأمراض السريرية، ومن ثم يرفع من استجابة الإجهاد للجسم. وبعد حين من الزمن رأيت مقالاً آخر تم نشره في “نيويورك تايمز” (New York Times) يتناول كيفية تطبيق الصيام المتقطع وفوائده الجمة.
من المعروف أن جسم الإنسان يقوم بعد الطعام باستهلاك الجليكوز لإنتاج الطاقة، وذلك لإتمام عملية التخزين للدهون الثلاثية في الأنسجة الشحمية والعضلات؛ إذ عند حافة الجوع تتحلل الدهون الثلاثية إلى الأحماض الدهنية والجلسرين، وبالتالي تتحول الأحماض الدهنية بعد عملية الكيمياء الحيوية المذهلة في الكبد إلى جزيئات الكيتون التي يستعملها الدماغ ومعظم الأنسجة كمصدر رئيس في استمداد الطاقة. وبعد 8-12 ساعة من الشعور بالجوع، تبدأ نسبة جزيئات الكيتون هذه بالارتفاع، لتصل إلى ذروتها بعد 24 ساعة. الملفت للنظر أن الجسم عند استجابته للصيام المتقطع، يقوم بتخفيض أنشطة التركيب وتفعيل نظام التصليح لديه؛ فيقوم بإصلاح الجزئيات التالفة نتيجة زيادة الإجهاد، ليسهِّل عملية الفرز بإعادة تدويرها. علمًا بأن جزيئات الكيتون لا تستخدم كمصدر للطاقة فحسب، بل تقوم أيضًا بدور المنظِّم في تركيب الكثير من الجزئيات والبروتينات، لتتمكن من التأثير على الأيض النظامية في الجسم، بالإضافة إلى إسهامها المباشر في عملية تركيب المواد الخاصة بسلامة الدماغ وصحته، الأمر الذي يلعب دورًا كبيرًا في معالجة الأمراض النفسية والعصبية الناتجة عن تلف الخلايا العصبية وتآكلها.
هناك مسألة أخرى تثير فضول الناس دائمًا، وهي مسألة التأثيرات الأيضية الإيجابية للصيام المتقطع، وعلاقته بفقدان الوزن. ولقد ظهر أن التأثيرات الإيجابية للصيام المتقطع، كضبط الجليكوز، وضغط الدم، وسرعة نبضات القلب، ومقاومة الإجهاد، لا علاقة لها أبدًا بفقدان الوزن.
لا شك أن استجابة الإجهاد والتوتر الذي يؤثر سلبًا على الصحة، يحدث أضرارًا كبيرة أو التهابات خطيرة في خلايا الجسم وكائناته الحية. علمًا بأن خلايا الذين يخضعون لدورات منتظمة في الصيام المتقطع، تقوم في غالب الأحيان بتطوير طريقة تكيُّفٍ مع الإجهادات اللاحقة فتكتسب قدرة على مقاومتها. وذلك يؤدي -من جهة- إلى مضاعفة العمل في تعزيز الدفاع أمام مضادات الأكسدة الضارة في الخلايا، وإلى مضاعفة العمل لإصلاح الحمض النووي ومراقبة جودة البروتين في الجسم، ومن جهة أخرى إلى تخفيض الاستجابة الالتهابية التي تؤدي إلى الأمراض القلبية.
وأثبتت الدراسات العلمية أيضًا، أن الصيام المتقطع يؤثر إيجابًا على ضغط الدم، وضبط سرعة نبضات القلب، وعلى الدهون في الدم، وضبط مستوى الكوليسترول والأنسولين والجلوكوز، ويقلل نسبة الالتهابات النظامية في الجسم. كما لوحظ في بحث علمي آخر، أن الصيام المتقطع يلعب دورًا كبيرًا في ضبط الكولسترول الضار، وضغط الدم، ومستوى الإنöسلين وتحسينه عند الذين خضعوا لدورة غذائية منتظمة ممتدة لستة أشهر، فتناولوا الطعام يومًا، وأمسكوا عليه في اليوم التالي فصاموا الصيام المتقطع حتى نهاية المدة.
إن الصيام ومدى تأثيره على الدماغ والوظائف العقلية، موضوع ما زال يثير فضول الطلاب وعائلاتهم. من أجل ذلك أجريت على الحيوانات دراسات علمية عديدة، ليظهر بعدها أن الجوع المتقطع، أثّر التأثير الإيجابي على مكوّنات ذاكرة الحيوانات (الرؤية، والسمع، والشعور المكاني)، وعلى قابلية التعلُّم لديها.. أما الإنسان، فلوحظ أن تقييد السعرات الحرارية عنده لفترة قصيرة، يقوّي ذاكرة كلماته؛ وذلك من خلال دراسة أجريت على الذين يعانون من البدانة، ومن اضطرابات الوعي والهوس الخفيف، ليتبين بعدها أن تقييد السعرات الحرارية لـ 12 شهرًا لدى هؤلاء المرضى، أدى إلى تحسُّن ملحوظ في ذاكرة الكلمات ومستوى وعيها العام.
وأما الفضاء الآخر لهذه الأبحاث والدراسات فهو المنتمي إلى مجال الأمراض العصبية، أيْ أمراض الدماغ والجهاز العصبي. ففي دراسات المجتمع القائمة على المشاركة الواسعة، ظهر أن الإفراط في تناول الطعام والطاقة، يزيد من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية ومرض الزهايمر (الخَرَف الكهلي) ومرض الباركنسون (الشلل الارتعاشي)، بينما الصيام المتقطع، يزيد من استجابة الإجهاد في الخلايا العصبية، وبالتالي يجنِّب المريض من النوبات الصرعية. كما يؤدي الصيام المتقطع عند مرضى التصلب العصبي المتعدد، إلى انخفاض في فقدان الميالين (النخاعين) في الخلايا العصبية، ويؤدي كذلك إلى تحسُّنات في استعادة الوظائف البدنية للمريض.
هذا وقد ظهر في التجارب التي أجريت على الحيوانات أيضًا، أن الجوع المتقطع الممتد لأيام وأسابيع، أدى إلى انخفاض في نمو الورم، ومن ثم إلى زيادة استجابة الورم الموجود للعلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي. وقد ثبت نتيجة الأبحاث التي أجريت على الذين يعانون من المرض الأرومي الدبقي -وهو أكثر أورام المخ شيوعًا- أن الصيام المتقطع كان سببًا في تراجع الورم عندهم ومن ثم العيش لمدة أطول. وهناك أبحاث ودراسات علمية على Clinicaltrials.gov تبيّن بالتفصيل تأثيرَ الصيام المتقطع على سرطان الثدي، وسرطان المبيض، والبروستاتا، والرحم، والكولون.
من أهم المواضيع التي يوقَف عليها في الصيام المتقطع، هو مدته. فمع وجود نصائح عديدة حول الطريقة والفترة الزمنية للصيام المتقطع، فهناك طريقتان شائعتان تستخدم في التجارب السريرية؛ الأولى هي المداومة على ما يُعرف بـ”صوم داود”، أيْ الصيام والإمساك عن الطعام يومًا، والإفطار وتناول الطعام بشكل عادي في اليوم التالي وهكذا.. أما الطريقة الثانية فهي الإمساك عن الطعام يومين في الأسبوع. ولقد أشارت الدراسات -رغم وجود إحصائيات مختلفة- إلى أن المدة الطبيعية للصيام المتقطع، تتراوح ما بين 12-18 ساعة من الزمن. وأرى -أنا كطبيب- أن الموضوع الذي يجب الاهتمام به ودراسته في هذا الباب، هو التغيرات الموسمية في فترة الصيام. ربما لا نستطيع إثبات ما نقول؛ ولكن من المتوقَّع جدًّا أن تتأثر عملية الأيض، ووظائف الخلايا في جسم الإنسان، من فترة الصيام التي تمتد وتتقلص وفق التغيرات الموسمية.
كل ما تم ذكره آنفًا، يؤكد فوائد الصيام المتقطع في الوقاية من كثير من الأمراض، أما الصعوبة التي يشير إليها المختصون في هذا الصيام، هي تغيير طريقة تطبيقه. ففي نمط الحياة الغربية، هناك ثلاث وجبات أساسية ووجبات خفيفة بين الحين والآخر. وإن الذين يمارسون الصيام المتقطع، إذا ما تخلَّوا عن عادتهم هذه وابتعدوا عنها، نراهم في البدايات يشتكون بكثرة من الجوع، ثم التهيج، ثم الضعف في التركيز، بيد أن هذه الشكاوى غالبًا تقلّ بعد شهر من الزمن، مما يدل على دور الصيام في صحة الإنسان وتأثيره المحفز. إن الكثير من الناس عندما يترك وجبته المعتادة، يبدأ يعاني من الشعور بالجوع، ودوار في الرأس، وزيادة في إفراز الأنسولين. والغريب، أن هذه المعاناة والشكاوى قلما تظهر أثناء الصيام في شهر رمضان المبارك، مما يشير إلى أن الصيام، يمكن أن يسهِّل على المرء مرحلة الانتقال إلى حمية طويلة الأمد. ولعل ذلك يؤكد العلاقة الوطيدة بين الصوم والصحة كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية الكريمة.
وبالرغم من النتائج العلمية التي تشير إلى الفوائد العديدة للصوم أو الصيام المتقطع، إلا أن المطلوب من كل مريض أن يصوم بعد الاستشارة مع طبيبه، وعلى كل طبيب أن يقوم بتشخيص حالة المرضى كل على حدة، وذلك انطلاقًا من مقولة “لكل قاعدة شواذها واستثناءاتها”. ولعل الدراسات السريرية الممنهجة والدراسات الجزيئية المنتظمة بشكل جيد، كشفت -وما زالت تكشف- عن فوائد جمة متعلقة بالطب الوقائي، وبعلاج أمراض لا حصر لها. بعد ذكر كل هذه الحقائق العلمية، أرى من الأنسب أن يغيِّر المرضى صياغة سؤالهم الذي ابتدأنا به مقالنا إلى: “كم مرة يمكنني أن أصوم حفاظًا على صحتي أو تعزيزًا لجهاز مناعتي أمام المرض يا دكتور؟”.
(*) كاتب وأكاديمي تركي. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.