رسالة المسلم الأساسية في الوجود هي تعريف وتحبيب الخالق إلى الخلق لا ترهيبهم دون كلل أو ملل من أهوال النار وعذاب القبر.
في البداية أؤكِّد أنه لا قيمة للعناوين، عندما تنمحي وتغيبُ المضامين: العناوين الدينية أقصد والتي لا اختيارَ إرادياً حقيقياً فيها لعباد الله، عَدا أفراد قِلة سمحت ظروفُهم بذلك ومِن هذه الأخيرة أنهم وُلدوا في بيئاتٍ تكفُل حرية الاعتقاد وتمنح للجميع إمكانِيةَ البحث الهادئ والاطلاع والدراسة الموضوعية لِكُل الفلسفات والعقائد، ولا تُكلَّف نفس إلاَّ وُسعها كما هو مقرَّر بهذه العبارة في كتاب الله.
أنا على يقين تام بأن الذين شرَّفوا إنسانِيَّتهم مِن أهل الخير أياً كانوا سيلقون جزاءً حسناً “يوم ينفع الصادقين صدقُهم” لأن رب العالَمين شفوق حليم عادل كريم شكور ومِن المحال أن يُضيع أجر المُحسنين. الخطأ قد يَصدُر بطبيعة الحال من أهل الخير والإحسان، ورُبَّما يكون في مجال الاعتقاد وعُذر الجميع في ذلك أنَّ ملاك الوحي لم يتجلَّ لِكل إنسان لِيُخاطِبَه بِلُغتِه الأم، الخطأ الذي يَقعُ من هؤلاء سيُقابِلُه بالتأكيد عَفوُ الرحمن: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الأحزاب:5)، لا أتصوَّر على الإطلاق أن الله سيُؤاخذ فاعلاً للخير -ما زاره ملاك من السماء ولا تلقى خطاباً مباشراً من الله- لِمُجَرَّدِ أن مُعتقده بخصوص الله قد يكون غير مُوَفَّق.
نعم بعضُ فاعلي الخير وتاركي الشر أنكروا وجود الخالق ولَكِنْ ليس جحوداً مِنهم أو استِكباراً، وإنما لأسباب يَجِب التَّمَعُّن فيها مَلِياً وأخذُها على مَحْمَل الجِدِّ -على رأسِها حجمُ معاناة الكثير مِن المخلوقات آدمِيَّة كانت أم لا-، سَيُجادل هؤلاء عن أنفسِهم يوم يَمثُلون بين يدي هذا الخالق وسيحكم فيهم بِعدله و برحمتِه أيضاً: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾(النحل:111)، إذن كل إنسان سيُجادِل عن نفسِه بين يدَيْ الرب، والظلم مُنعدِم تماماً في المحكمة الإلهية؛ ولا جدوى مِن التباهي بالعناوين الدينية، لأن كُلَّ واحد مِنا سيُحاسَب على أفعاله وحسب. العِبرة عِند ذوي الرَّشاد بِزكاة القلب وحُسن الإرادة وشرف المبادئ ونُبل الغاية وصلاح العمل، الكافر هو مَن لا يسمع نِداءَ ضميره في غالِب الأحيان وقد يَصِلُ به الأمر إلى التَّجَرُّد مِن إنسانيته، وكلُّ ذلك في القرآن ولَكِنْ مَن يَتدبَّرُ بِعُمق وبِعقل مُتحرِّر مِن وِصاية أيِّ مَخلوق هذا الكِتاب الفذ؟
القرآن الكريم نَعَتَ مَن لا يَستحِق الجنة بأوصاف أذكرُ مِنها ما يلي: “منَّاع لِلخير”، “يَدُع اليتيم ولا يَحُض على طعام المِسكين”، “مُعتد أثيم”. الكافِرُ المَلوم المَمْقوت في القرآن تِلْك بعضُ ميزاته وخِصاله، وفي الأمة المُسماة إسلامية التي أنتسب إليها أُطلِقت هذه الصفة على جميع المُغايرين في المُعتقد بلا تمييز، أبراراً أكانوا أم أشراراً وبالتالي ساوينا بَيْنَ الخبيث والطَّيِّب. والقرآن يُعلِن: “لا يستوي الخبيث والطَّيب”. وهو يَعِدُ أهل البِر والإحسان، كُلَّهم دون استثناء، بالإحسان من إِلَهٍ لا يظلم أحداً: “هل جزاء الإِحسان إلاَّ الإحسان؟”. هذا كلام من سَمَّى نفسَه الرحمن وهي إحدى دُرَر سورة الرحمن! فالذي بِكُلِّ ما في وُسعِه يَجْتنبُ السوء ويسعى للخير، مِن إلهٍ عادِلٍ سمَّى نفسه بالشكور كيف لا يلقى الخير؟ والذي يرحم من في الأرض، كيف لا يرحمه من في السماء!؟ وجيه وذو كرامةٍ عند الله كلُّ إنسانٍ يسعى للخير. ولا ضَيْر إن لم يُكتب له الظَّفَر لحظة مجيئه إلى هذه الدنيا بعنواننا الديني – الذي وُلدنا عليه ولكن قليلون مِنَّا مَن يرتقون إلى مُستوى معناه ومُحتواه.
المجرم الشِّرير الذي قد يكون شيخاً مُعمَّماً هو آخِر مَن يستحق تسمِيَّة مسلم. وهو مَن يقول -إنْ مات على هذه الحال- غداً يوم القيامة: “يا لَيتني كُنْتُ تُراباً”. الله، الذي خلق الناس لِيَبْلُوَهُم أيُّهم أحْسَنُ عملاً، قال: “أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لَكُم كيف تحكمون؟”. هذا ما يُقرِّرُه القرآن الكريم.
وإنَّ في الظاهرة الطبية المعروفة اليوم تحت اسم تجربة الاقتراب من الموت -لا حصر للدراسات والأبحاث حولها- لَذِكرى لِمَن فتح لها بابَ عقلِه وأصغى لِلذين عاشوها هنا وهناك بِسَمْع القلب. لِيَعلمْ المُوشك على مفارقة الحياة الدنيا أنه لن يَجِد في انتظارِه وحشاً رهيباً سادِياً عديم الإحساس، ولكِنْ رباً مُتفهِّماً قد سبق حِلْمُه غضبَه كما أخبر هادي الإنسانية، أمَّا ما ورد في القرآن مِن وعيدٍ شديد بنارٍ حامية، فإن الغاية مِنه ردعُ العُتاة وإيقاظُ القلوب النائمة، وليس أنْ يُزرَع في أذهانِنا أنَّ إلهنا أقسى مِن كبار جلادي الإنسانية، لأن العُقوبة في الدار الآخرة هي لِلَّذي يَستحِقُّها فِعلاً ولا أرى أنَّها تتعارض مع رحمة الخالق.
فالرحمة الربانية التي وَسِعت كلَّ شيء، كما ذكر القرآن، ستشمل بِطريقةٍ أو بأخرى جميعَ الخلق. تأكيداً لِهذه الرُّؤية نَجِد أنَّ القرآن، في مَعْرِض الحديث عن الرجوع الحتمي إلى الخالق، يُؤكِّد أنَّنا جميعاً سَنُلاقي الرحمن: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾(مريم:93)، لقد وجدتُ في تجارِب الاقتراب مِن الموت التي عاشها خَلْقٌ كثيرون مِن مُختلف الأجناس والثقافات -بدأ الحديث عنها مُنذ عقود وإنَّ فيها لآية لأولي العقول- خيرَ مُؤكِّدٍ لِما يَعِدُ به هذا الكلامُ الرباني ومُحفِّزاً لاعتماد خِطابٍ ديني أكثر سماحة ورأفة وإنسانية. لِذا أنصحُ بالاطلاع الجاد على هذا الموضوع المثير والهام للغاية، الذي ما زال عندنا مُحاطاً -إلى حد ما- بجدار سميك من الصَّمت، لِكَي نظل في هلعٍ وخوف وجزعٍ من عذاب القبر إلى يوم القيامة.
والحق أن الواقع أثبت فشل كُلِّ محاولاتِ سَوْقِ العباد إلى ربِّهم وبارِئهم بهذا الأسلوب، بالترهيب منه بَدَلَ التشويق إليه، وخطابُ التخويف مِمَّا سَيَعْقُبُ موت الجسد فقد فاعِلِيَّته وقدرته على التأثير في النفوس. إنَّ الموت ما هو إلاَّ ولادة جديدة ولَكِنْ في عالَم الروح وانتِقالٌ إلى مرحلةٍ تالِيةٍ في سِياقِ وجودٍ لا مُنقطع مُنتَهاهُ عند الله. الله الذي مِن دون أدنى شك وبالتأكيد هو أرحمُ بِكثير مِما يتصوَّر المؤمنون.
أهل الإحسان والإرادة الخَيِّرة الطيِّبة والساعون للإصلاح في الأرض لا خوف عليهم البتَّة عند الله، يوم يقِفُ الجميع بين يديه فينفعُ الصادقين صِدْقُهم، مِن بين هؤلاء أناس نُسمِّيهم بمنتهى الوقاحة “كفاراً” ونَحْن دونهم وعياً وخدمةً للغير واستقامة، ويَمحقُ الكاذبين كِذْبُهم أياً كان في هذه الحياة مقامُهم، حتى لو كانوا فيها مُبجَّلين كرجال دين وربما أدعياء وصاية خاصة على ضمائر العباد باسم الله. هذا ما علَّمتنيه الحياة ومُعايشة البشر وأمَّا مَن أحسبُه مُخطئاً في مسألة الاعتقاد وإن أنكر وجود خالق للكون، فأنا لا أُعطي لِنفسي الحق في أن أحكُمَ عليه وأقول له أنت كافر ومصيرُك جهنم، بل أترك ذلك لِلذي يعلم بواطن العباد ونواياهم وبَواعِثَهم الحقيقية، عِلماً أنَّ مِن أعظم وأخطر أسباب هجرِ وتطليق ناس كثيرين للدين الدجالون مِمَّن نصَّبوا أنفسَهم وكلاء عن خالق هذا الكون.
التديُّن الزائف المغشوش أضر بالبلاد والعباد مِن عدم الانتماء الإسمي لأي دين. وما أكثر غير المُلتزمين بالمراسم والطقوس والشعائر الدينية، مَن وجدناهم أزكى مسلكاً مِن أُناس هم في الظاهر شديد والتديُّن!.