“التوت المرّ” رواية الذاكرة الوطنية وعودة الوعي المجتمعي

تحيلنا رواية: “التوت المرّ”، للروائي التونسي محمد العروسى المطوي إلى حقبة الاستعمار الفرنسي لتونس، حيث غياب الوعي والذاكرة الوطنية، من خلال محاولة الاستعمار السيطرة على عقول الشعوب بتدمير طاقات الشباب والفتيان، بل والمجتمع، لتمرير سياسات الاستعمار الغاشمة.

ورواية “التوت المرّ”، تبقى شاهدًا على تلك الحقبة المأزومة من تاريخ الشعب التونسي المناضل نحو التحرر من ربقة الفرنسيين.

وتدور أحداث الرواية في قرية “الغنّوش”، وهى إحدى قرى الجنوب التونسي، حيث فاطمة، ومبروكة، وعائشة -المقعدة على كرسي متحرك- تعيش مع والدها الشيخ مفتاح الطرابلسي؛ الذى كان يتعامل سرًا مع الجنادرمه من قوات الاحتلال الفرنسي آنذاك، والأم ذات القلب الكبير المتمسكة بالتقاليد والعادات التونسية الصارمة، وعبدالله بطل الرواية الذى يكره التكروري –الحشيش– وشرب الخمر، وإبراهيم وأصدقائه، وعلى بن مسعود ضيف الأسرة، السيد عبدالرزاق، خديجة، أحمد العائب، محمود، وابراهيم، ومختار، وعبدالله، والسيد الحمروني، ومسعودة، ومبروكة، وصالح، عبدالقادر، خميس، حميدة وغيرهم، من الشخصيات الداعمة لمسيرة الأحداث، وأغلبهم وإن كانوا “شخصيات ثانوية”، إلا أنها كانت فاعلة بامتياز في تسيير الأحداث بقوة، ورسم الصورة الاجتماعية للشعب التونسي الذي نجح الاستعمار –كما تصوّر واهمًا- في تغييب الوعى الوطني والعام لديهم، من خلال نشر شرب التكروري –الحشيشة- بصورة كبيرة، وبأسعار زهيدة، الأمر الذى من شأنه تغييب عقولهم ووعيهم، وكسر ارادتهم الوطنية الحرّة، واستعمارهم اجتماعيًّا وفكريًّا وثقافيًّا من خلال نشر تعاطى هذا المشروب الذى يذهب العقل، من خلال البكبوك، أو ما يطلق عليه “السبسى”.

لقد نجح الكاتب / محمد العروسى المطوي في وصف تشابكات الأحداث من خلال وصفه لقرية “غنّوش” تلك القرية الرابضة في جنوب قابس، جنوب تونس، والتى تمثل شريحة مجتمعية مغيّبة آنذاك كبقية الشعب التونسي، والليبي، والمصري بل والعربي من جراء الاستعمار بعد الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وتقسيم البلاد العربية واستعمارها من خلال سياسة عالمية خبيثة لنشر الحشيش من قبل الاستعمار – لتغييب الوعي لدى الشباب، وكسر ارادتهم وعدم اكتراثهم بالقضايا المجتمعية أو بأي شىء سوى اللهاث لشرب الحشيش والتلهي عن الدنيا والانصراف حتى عن الزواج، وهو الأمر –أو أحد الأدوات الاستعمارية- التى تمكّن الاستعمار من السيطرة على مقاليد الحكم لدى الشعوب العربية آنذاك.

ورغم كل تحدّيات الاستعمار في تغييب إرادة الوعى لدى الشباب، ورغم تجنيد بعض الطامعين الخونة ضد أوطانهم، من أجل المال -كشخصية الشيخ مفتاح- أو الذين يبيعون الوطن ببيعهم الحشيش أنذاك، فقد انتفض الشباب ضد المحتل، أو كما صوّرهم المطوي هنا بالرجال الأبطال الذين أسسوا “جمعية لإنقاذ الشباب”، وكان الغرض منها القضاء على شرب الحشيش، أي عودة الوعى للذاكرة الوطنية، فالجمعية تمثّل الإرادة الشعبية، والحشيش هو الاستعمار، وقطع الشجرة التى تنبت هذه الحشيشة، هو رمز لاجتثاث جذور الاستعمار من الأرض، وتطهيرها بانتفاضة المخمورين والحشاشين الذين استيقظوا وعادت إليهم الذاكرة الوطنية الشجاعة للذود والدفاع عن الوطن، من خلال الشباب، والشعب بكل طوائفه، الذى غيبه الاستعمار بالمسكنات والوعود من جهة، وبالقهر والاستبداد والقتل والقمع والتشريد من جهة أخرى، وبنشر الحشيش كثقافة راديكالية لكسر الإرادة الوطنية، ومن هنا كانت الجمعية هي الرمز الوطني الكبير للإرادة المجتمعية، للنهوض بالمجتمع لطرد الاستعمار، ولعمرى فإن موضوع الرواية هنا يذكرني برواية “عودة الوعى” لتوفيق الحكيم، وبرواية ” “الحشاشين” لنجيب محفوظ، وروايات المقاومة الشعبية لكبار الروائيين المصريين والعرب آنذاك، وغيرها من الأعمال التى أبرزت مقاومة الشعوب للاستعمار، ومن هنا جاءت الأهمية التاريخية لرواية : “التوت المرّ”، للمطوي –آنذاك– لأنها رواية مقاومة، رواية لإيقاظ الوعى، لرفض الاستعمار ، لاجتثاث الفتنة من خلال التأكيد على الثوابت والقيم الوطنية ، فها هو إبراهيم يكتشف أن والده يتعامل مع رجال الجنادرمه الفرنسيين ضد أبناء وطنه وأهله، وهو الذى يشى بهم ويخبر عن الكثير منهم من أجل حفنة دولارات، أو من أجل مال زهيد رخيص، بالمقارنة بمن يدفعون أرواحهم ليموتوا لتحيا الأوطان، فنرى إبراهيم يحرق محل الحشيش الخاص بوالده، وكان قبل ذلك قد اجتث بمساعدة الأصدقاء من جمعية إنقاذ الشباب شجرة الحشيش المزروعة في معسكرات الفرنسيين، تلك الشجرة الخبيثة للتكروري، وفى حرق إبراهيم لمحل الحشيش لوالده رمزية كبيرة: ربما ليطهّر الوالد من ربقة الخيانة، وربما ليثنيه عن السير في ذلك الطريق الآثم، وربما ليقرر حقيقة بأن الخيانة عليه أن يتبرأ منها، وهنا تظهر قوة الوطنية للأبناء للانتقام حتى من آبائهم الخونة –وهم قلة– فالوطن أقوى من رابط الدم والأبوة، وارادة الشعوب لا تقهر، وذاكرتها لا يمكن أن تغيّب، مهما حاول الاستعمار ذلك، ولنلاحظ كذلك دور المرأة الشاعرة التى كتبت القصيدة العتيقة في نبذ الحشيشة، ودعوة الشباب لعدم شرب التكروري، وهى القصيدة التى انتشرت في أرجاء القرية، وفى كل القرى المجاورة، لتبرز دور الثقافة، والتعليم في مناهضة الاستعمار، ولو بالقلم، قبل السلاح، لتعبئة الارادة الوطنية، قبل النهوض بالثورة الكبرى لهزيمة وكسر الطاغوت الاستعماري الفرنسي الغاشم.

لقد نجح الكاتب/ محمد العروسى المطوي في استخدام دراما السرد في وصف الأحداث، وعن طريق لغة الحوار، والتصوير الشيق المتنامي للأحداث ،وكسر الايهام بالجمل الحوارية للشخوص، ثم الانتقال البديع عبر اللغة السردية البسيطة والعميقة في آن، في وصف الحالة التونسية آنذاك، كما استطاع أن يصور لنا بعض عادات المجتمع التونسي وتقاليده، من خلال استدعاء لغة السرد المحليّة، لتضمينه السياقات النصية جملاً ومعان ومفردات تونسيّة صرفة إلى جانب وصفه حتى لأكلات شعبية مثل “الكسكسي” وغيرها إلى جانب تضفيره لغة السرد ببعض الأغاني الشعبية التونسية، بلهجتها المحلية، الغاية في الإشراق، والتي تتنامى مع نسيج السرد المتدافع والمنساب بمهارة وجمالية متناغمة.

كما تصف الرواية –باقتضاب– نضال “الشعب الليبي”، ضد الطليان –الاستعمار الإيطالي– وتظهر المقاومة الشعبية هناك من خلال سرد العجائز للأطفال حكايات اشتراكهم في المقاومة ضد الغزاة الايطاليين لمساعدة ليبيا، باعتبار الأوطان العربية غاية كبرى، يجمعها نسيج واحد، ووطن عربي كبير مشترك، لابد أن ندافع عنه من منطلق وطني، وعروبي، وقومي أيضاً.

كما تأتى النهاية الإنسانية المؤثرة والسامقة والتي تكشف عن طبيعة المجتمع التونسي، الإنسانية، النبيلة، لذلك الشعب العريق، متمثلاً في تضحية عبدالله بالزواج من عائشة التي لا تستطيع المشي –كسيحة– ومع أن المجتمع المتمثل في أهل القرية ووالديه سيرفض تلك الزيجة نظرًا للقيم والاعتبارات القبيلية وشرطية التكافؤ في الزواج، إلا أن عبد الله هنا قد أصرّ على أن يظهر الجانب الإنساني الجميل، من قبل الشباب –وليس من العجائز- وكأنه أراد أن يبشر بميلاد جيل جديد من الشباب، عليهم الأمل لاستعادة البلاد لوجهها الناضر الجميل، ورتق وجه الوطن الذى حاول الاستعمار تشويهه ومحوه، وهم الحلم والأمل الجديد لتونس الخضراء، أولئك الذين سيكتبون تاريخاً جديداً لمنطقة الشمال الأفريقي في تونس والجزائر والمغرب العربي كذلك، وفى الوطن العربي الإسلامى أيضًا.

ستظل رواية “التوت المر” للتونسي محمد العروسى المطوي شاهدة على حقبة تاريخية معاصرة من تاريخ تونس المجيد ومقاومتها للاستعمار الفرنسي الغاشم المستبدّ العنيد.

إن هذه الرواية قد رصدت تشكيل الوعي الوطني والمقاومة إبان فترة الاحتلال الفرنسي، كما أظهرت الدور الوطني الريادي لشعب تونس في مقاومة الاحتلال، من خلال استلهامات الدور الوطني الكبير للثورات العربية الكبرى آنذاك ، كما تؤكد على استمرارية قيم: “الحب، و”العطف”، و”المقاومة” و”النضال”، و” الحرية”، تجاه سلطة القرية وتقاليدها، والتى تمثلت في زواج عبد الله من عائشة الكسيحة، لتنتصر الإرادة والإصرار، على قسوة القيم الاجتماعية المقيتة، لتنتج لنا معادلة الحب والثورة، وإرادة الفرد، وقوة الجماعة في الدفاع عن المقدرات الوطنية، ودحر الاستعمار الفرنسي الغاشم.

سيظل الإبداع الوطني والثقافي ملهمًا، وستظل الرواية ذاكرة للشعوب وشاهدة على رصد التحولات الكبرى لمسيرة النضال الوطني للتحرر من الاستعمار الغاشم، لترتفع أعلام الحق والخير والنور والحرية مرفرفة فوق سماء وطننا العربي الإسلامي الكبير.

  • التوت المرّ”، رواية، الناشر: كتاب مجلة الدوحة، وزارة الثقافة والرياضة، قطر 2016م.