تتميز القيم والمبادئ التي يتبناها التمويل الإسلامي بطبيعتها بالعالمية، ولهذا فان تبنيها وتنفيذها يسهمان في تكوين مجتمع مستدام قائم على الأمانة والتوزيع العادل للثروة والعدالة الاجتماعية.
وقد تطور التمويل الإسلامي بشكل كبير في جميع مجالاته؛ سواء من حيث المؤسسات المالية أو الأدوات أو الأسواق، وانتشرت أصول التمويل الإسلامي في نحو 131 دولة. كما ارتفع إجمالي أصول التمويل الإسلامي من نحو 2.4 تريليون دولار في عام 2017، إلى 2.5 تريليون دولار في عام 2018، بزيادة قدرها 3 في المائة. في حين تباطأ نمو النشاط المصرفي الإسلامي، وهو أكبر قطاع للتمويل الإسلامي، إلى 2 في المائة في عام 2018 بإجمالي أصوله 1.76 تريليون دولار. وعلى الرغم من التباطؤ لعدة سنوات، كان التمويل الإسلامي ملحوظًا بشكل متزايد في انتشار التمويل العالمي في جميع أنحاء العالم.
وتجاوز الإصدار العالمي للصكوك منذ بدايتها تريليون دولار أمريكي في عام 2018. وتقوم FinTech الإسلامية (التكنولوجيا المالية) أيضًا بتغيير ديناميات الصناعة. وفي الآونة الأخيرة، تم إصدار الصكوك الصغرى المستندة إلى سلسلة الكتلة Blockchain في إندونيسيا، بينما لعبت FinTech الإسلامية دورًا في الترويج للصناعة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة خلال عام 2018.
ويُستدل من تلك المؤشرات وغيرها على قوة الجذب التي تتمتع بها أشكال التمويل الإسلامي في مختلف دول العالم، والذي يُعزى أساسًا إلى القبول والارتياح واسع النطاق للمبادئ والأسس التي يستند إليها التمويل الإسلامي لدى مختلف الأطراف المتعاملة في تلك الصناعة، لا سيما ما يتعلق بمبدأ المشاركة في الربح والخسارة، وربط الأدوات التمويلية بالأنشطة والقطاعات الحقيقية للاقتصاد.
وعلى الرغم مما تحظى به هذه مبادئ المالية الإسلامية من قبول الا أن ما أحرزته الصناعة من انتشار وقدمته من حلول يعد متواضعا ولا يلبى الطموحات، فبعد عقود من العمل لم يتعد نصيب المالية الإسلامية اثنين في المئة من المالية العالمية، ولعل من أبرز أسباب ذلك أنها في واقعها اليوم أميل إلى تكييف المعاملات المصرفية التقليدية لتتوافق مع الشريعة بدلًا من النظر في مقاصد الشريعة وبناء المعاملات على أسسها وركائزها، وليس خافيًا أن العلاقة بين أحكام الشريعة وبين مبادئها، هي علاقة الخصوص والعموم، فإن أقيمت المعاملات على أساس الأحكام بقيت منحصرة في حيز الخصوص، أما إن أقمناها على مبادئ الشريعة، فلسوف تكتسب صفة العموم، ما يفتح أمامها فرصًا واعدة لمزيد من الانتشار بين المسلم وغير المسلم من المجتمعات، ويمنحها دورًا أكبر في قيادة جهود التنمية وتنويع الاقتصاد وتوليد فرص العمل.
وتجدر الإشارة إلى أن التمويل الإسلامي مقيد بالعمل في بيئة غير مواتية وحافلة بالتحديات. يتمثل التحدي الأول في عدم تكافؤ بيئة العمل بين التمويل الإسلامي والتقليدي؛ إذ يتمتع التمويل التقليدي؛ بصرح من الوسائل الهيكلية والمؤسسية والإدارية والمالية والنقدية والقانونية. وثانيا، تفتقر صناعة التمويل الإسلامي لأدوات طويلة الأجل، ومنخفضة المخاطر ونقدية تكافئ أدوات التمويل التقليدي طويلة المدى، وهو ما يفرض قيوداً على السيولة ويطوق قدرة صناعة التمويل الإسلامي على المنافسة. ونتيجة لذلك، تضطر صناعة التمويل الإسلامي لتقليد وتكرار الأدوات التقليدية.
وتقع على المؤسسات المالية الإسلامية مسئولية كبيرة في بذل أقصى جهد ممكن لتقديم منتجات وخدمات تعكس روح التمويل الإسلامي، وليس مجرد الالتزام بالمتطلبات الشرعية. وهذا الأمر ليس بعيد المنال، ولكنه يتطلب فقط بناء القدرات للقيام بأنشطة بحثية أفضل وعرض منتجات وخدمات مبتكرة، فضلاً عن حاجتها لتشجيع العدالة الاجتماعية في أنشطتها من خلال التوزيع السليم لمواردها.
وهناك مجالات رئيسية مهمة من حيث التنظير وأدبيات التمويل الإسلامي يجب التركيز عليها مستقبلا، لعل أهمها: التنظيم والحوكمة في التمويل الإسلامي؛ طبيعة العقود وأدوات التمويل والاستثمار وأسواقها؛ تأثير الخدمات المالية الإسلامية التي يتم تقديمها من خلال مقاصد الشريعة وأهداف التمويل الإسلامي.
وقد بدأ الباحثون في طرح الأسئلة المتعلقة بوظيفة التمويل الإسلامي بشكل عام، ليس من الناحية الشرعية، ولكن من حيث أهدافها في ضوء مقاصد الشريعة. فيرى عدد منهم أن محصلة التمويل التقليدي والتمويل الإسلامي لا تختلف كثيرا. علاوة على ذلك، انتقد الباحثون أن مفهوم التوافق الشرعي يساء فهمه، ويستخدم نهج الميكانيكية على مستوى الهيكل والأشكال متغافلين جوهر وروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
فقد شرع الله الدين لمقاصد وحكم، فالمقاصد هي الركن في بناء الصرح التشريعي، ودون فهم لمقصد الشارع قد يؤدي الى غير ما شرعت لأجله، وبذلك يكون كالفاعل لغير ما أمر به، أو التارك ما أمر به، فالإنسان ما خلق إلا لعبادة الله وامتثال الشريعة التي وضعها الله له؛ ليعمر هذه الأرض التي يعيش عليها.
ويمكن أن تضيع أهداف وغايات التمويل الإسلامي إذا تم تجاهل روح الشريعة المستمدة من القرآن والسنة والتي تؤدى الى تحقيق رفاهية كل فرد في مجتمع تسود فيه العدالة والرعاية والازدهار.
فالفرضية التي أكدها المسلمون – علماؤهم وعوامهم – بمنع التعامل بعقود الربا تجعل من التمويل الإسلامي بديلا قويا عن التمويل التقليدي. ويصبح هذا صحيحاً فقط عندما يعمل التمويل الإسلامي على أساس تقاسم المخاطر بدلا من أساس نقل المخاطر الذي هو السمة المميزة للتمويل التقليدي الذي أنتجت عملياته أزمات متكررة ومدمرة.
تتلخص القيم الأساسية لتقاسم مخاطر التمويل فيما يلي:
– التوافق الوثيق بين القطاع الاقتصادي والقطاع المالي، ونتيجة لذلك فإن معدل العوائد في القطاع الإنتاجي هو الذي يحدد معدل العائد للقطاع المالي لا العكس؛
– زيادة مرونة واستقرار النظام المالي والاقتصادي؛
– الشمولية المالية، والحد من الفقر، واقتسام النمو والرخاء الاقتصادي؛
– توسيع فرص ريادة الأعمال والابتكار؛
– زيادة الكفاءة في تخصيص الموارد.
إذا فهناك أمام الصيرفة والتمويل الإسلامي فرصة ثمينة لجني الفوائد الاقتصادية المرجوة من تقاسم المخاطر مع إمكانية تحقيق السبق باللجوء إلى أساليب مبتكرة لتنفيذ وتعزيز التمويل الإسلامي الأصيل. وتحتاج صناعة التمويل الإسلامي إلى تطوير خدمات مصرفية استثمارية متخصصة في استثمارات طويلة الأجل في الزراعة والصناعة والتعدين والتجارة على المدى الطويل، حيث إن البنوك الاستثمارية لن توفر القروض، ولكنها سوف تشارك على أساس المساهمة. ويمكن للمودعين في هذه البنوك تملك أسهم قابلة للتسويق، أما المودعون غير الراغبين في المخاطرة فيمكنهم الاستثمار فقط في الأسهم التي توفر نموذج عائد المخاطر الذي يرغبون فيه، وهو ما سيجعل البنوك تختار المشاريع الأكثر ربحية. وبالتالي، فستجني الموارد المالية تكلفة فرصتها البديلة الفعلية التي لن تعرض لا مالك فائض المال ولا رجل الأعمال للاستغلال.
ومع ذلك، لا يبدو أن المؤسسات المالية والمصرفية الإسلامية تتحرك نحو هذا الاتجاه وبما يتماشى مع تحقيق أهدافها على الرغم من عملها على مدار 45 عامًا منذ عام 1975. وقد اعتمدت بشكل عام على أسلمة المنتجات والخدمات التقليدية من خلال الفقه، ومنذ ذلك الوقت تقلد أي منتجات تقليدية، بينما يتحرك التمويل التقليدي إلى الأمام. وخطت خطوات كان يجدر بالمؤسسات المالية الإسلامية السبق اليها بما يتماشى مع الحركة العالمية التي تهدف إلى تحقيق نمو مشترك وتحقيق أهداف التنمية المستدامة مثل: “الخدمات المصرفية المسؤولة”، و “الخدمات المصرفية الخضراء”، والوساطة المالية القائمة على القيم، والعوامل البيئية والاجتماعية، والحوكمة و”مبادئ الاستثمار المسؤول” التي يتم دعمها من الأمم المتحدة، ويتم دمجها بشكل متزايد في ثقافة الخدمات المصرفية والمالية العالمية. وكان يجب استثمار تزايد إدراك العالم بأهمية الاستثمارات المسئولة اجتماعياً والمستدامة بيئياً ليكون التمويل الإسلامي خياراً طبيعياً للاستثمارات المسئولة اجتماعياً.. نظراً للتشابه في فلسفة الأعمال. واكتفت هذه المؤسسات بحجة ضمان الامتثال لأحكام الشريعة الإسلامية لتقليد المنتجات التقليدية دون الاهتمام بالمضمون. ولا مبالغة في القول بأن الهدف الوحيد كان هو زيادة العائدات المالية مما يثير مخاوف جدية بشأن مصداقيتها كمؤسسات إسلامية.
ورغم ما تتمتع به المالية الإسلامية من أدوات مبدعة، وحلول مبتكرة، لم تنل بعد حظها من التطبيق، واكتفت بمحاكاة المنتجات التقليدية. لذلك يعاني بنيان المالية الإسلامية من التركز الشديد لأصولها وقلة منتجاتها، فيلاحظ أن 68% من أصول كل البنوك الإسلامية تتركز في المرابحة ثم 14% تتركز في الإجارة، أما بقية المنتجات الأخرى –على تنوعها – فلا يتخطى نصيبها 18%، وفي ذلك تحجير لواسع الشرع، وفوت لوافر الفرص، لاسيما أن كثيرا من الأصول المعروضة للمرابحة ماهي إلا سلع استهلاكية مستوردة، لا تسهم في التنمية الاقتصادية الحقيقية.
أيضا تشير الدراسات إلى أن المالية الإسلامية إن قامت على مبادئها، وأعطت مزيدًا من اهتمامها لصيغ استثمارية متنوعة مثل السلم والاستصناع والشراكة، فسوف يمكنها توفير مئة وخمسين مليون فرصة عمل خلال عقد ونصف، وذلك ربع الوظائف المطلوبة عالميًا.
ولعل ندرة العلماء المختصين الذين يجمعون بين الفقه الراسخ في الشريعة والإحاطة الكافية بالعمل المصرفي والمالي من أهم الثغرات في بنيان المالية الإسلامية. والدليل على ذلك أن ثمانية علماء يشغلون مناصب في ثلاثين هيئة شرعية مختلفة بل إن ثلاثة من أولئك الثمانية يشغل كل منهم عضوية سبعين هيئة شرعية. ونظرا لهذا العبء الثقيل قد تكون حوكمة الرقابة الشرعية موضع شك وريب، فهي بحاجة إلى تعزيز استقلالها ومهنيتها، والتسامي بأعمال التدقيق الشرعي عن المصالح التجارية، حيث أن هذا الترابط بين كيانات الرقابة الشرعية يزيد مخاطر تشابك المصالح وتعارضها، الأمر الذي قد يودي بالمصداقية، ويأتي على الثقة في المالية الإسلامية، وحيث أن تكون الرقابة الشرعية يجب أن تكون في أسمى درجاتها من الإتقان والنزاهة والشفافية.
وهذ لا يعنى المطالبة بتخطي أصول الاجتهاد، وقواعد الفقه، وإنما المطالبة بمنظور أشمل، يضع الإنسان في مركز الاهتمام، فيعتني به خدمة وتيسيرًا، وتعليمًا وتطويرًا، حاضرًا ومستقبلًا. منظور يرى في قضايا ارتفاع البطالة وتأخر البحث العلمي وانخفاض مستوى التعليم وتلوث المناخ، مفاسد يتعين دفعها، ويرى في تنويع الاقتصاد ودعم القطاعات المنتجة، وتمويل المشاريع الصغيرة وتبني التقنيات مصالح يتوجب جلبها، منظور يرى في ذلك كله أولويات يوظف لتحقيقها القدرات الكامنة للمالية الإسلامية.
المراجع:
- الكلمة الرئيسية التي ألقاها معالي الدكتور محمد يوسف الهاشل، محافظ بنك الكويت المركزي، في مؤتمر شورى الفقهي الثامن في 8 ديسمبر 2019 في دولة الكويت.
- عباس ميراخور ومغيث شوكت، التمويل الإسلامي: تحديات الحاضر وآفاق المستقبل،ترجمة عبدالواحد أيوب محمد،مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب،مج23, ع2،السعودية، 2017.
- محمد خليل الشيخي. “أهمية التمويل الإضافي في ضوء مقاصد الشريعة الخاصة بالتمويل.” Majmaa Journal 1.24 (2018).
- Ayub, Muhammad. “Islamic Finance: Focusing Project Financing for Growth and Realizing the Higher Objectives of Shariah.”
- Muhammad, Lakhi, Irum Saba, and Shahab Aziz. “Maqāṣid al-Sharīʿah and Islamic Finance Industry: Addressing the Concerns.”