لما كان الغيب قضيتنا الكبرى التي طوت ملحمة الحياة، وإليها تصبو كل المهمات، كان الرحيل إليه أجمل رحيل، وليس كأي رحيل؛ إذ هو رحيل بدون إشعار للقريب أو البعيد، وبلا عودة كرة أخرى إلى عالم الدنيا الفاني، وخلاص نهائي من ألم الانتظار لعالم الآخرة الباقي، وتجرد من الأعباء التي منها ما كان يبطئ المسير، إنه اللحظة التي نعانق فيها السماء، ونفيق من الحلم الذي طال على مرقد الأجفان، كما روي عن علي أشرف العارفين رضي الله عنه حين قال: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.
ولما كان الموت أجمل رحيل كان الإعداد لمراسيمه حفاوة وأي حفارة، فكان أول ما يباشره الميت أن يغسل، ويلفظ جثمانه ما علق به من أدران، وكان الحرص كل الحرص أن يتجرد الراحل من كل شيء تعلق به من مخلفات دنياه؛ ماله، مطعمه، مشربه، مركبه…، ويكفن وحيدًا متحررًا في أصفى الألوان وهو البياض، ويطيب بأجمل الطيب والبخور، ويشيع نعشه فوق الرؤوس احتفالا بانعتاقه ومعانقته أعتاب حريته…، كيف لا يحتفل به وهو يفارق عالمًا ضيقًا حالكًا مظلمًا، ويستشرف عالما بهيًّا جميلاً، ويقطع أستار الخلود، ونعشه من إشراق القداسة يزهو ويومض، وحسبه في نهاية الشوط حفرة تسعه، هي مرقده وقراره ومضجعه في عالم الأرض، لكنها منفذه للعوالم الغيبية، والمنازل الخفية، بيننا وبينه نصف ميل أو قدم، بيد أن الوصول إليه يحتاج مسافات ومسافات، فسبحان الذي خلق الموت والحياة.
مفاجآت وراء الأستار الغيبية
الجسد وعاء الروح، وللروح في عالم الدنيا دورة حياتية منها تتشوف بحبوحة عالمها الغيبي المنتظر، وحين يؤذن لها أن تحلق بعيدا وتتجاوز الحدود التي كانت تمنعها من أن تقطع تلك المسافات، والأستار التي كانت تحجب عنها العوالم الخفيات، ترى المفاجآت تترى عليها مما لم تعاينه من قبل.
حين تغمض العيون وينطفئ فيها الإبصار، وتنسل الأرواح من الأجساد، تنفتح الأجفان عن المبصرات الحقة، وتنجلي لها كل الألوان التي كانت تقبع في خفاء، بل سوف تبرز لها كل العوالم وكأنها تتفتق أمام ناظرها، فتطلع على مساحات الجنان، وما يعج فيها من بساتين وأوراق وافرات، وأنهار وقصور وحور وسرر.
لما تنزاح أستار الغيوب ويطلع الإنسان على رحابة المكان وامتدادات الزمان، آنئذ ينجلي له الضيق الذي كان يعصره ويخنقه، والحدود التي كانت تسيجه، والموانع التي كانت تمنعه من أن يستشعر رحابة الفضاء الذي يسبح فيه.
فيا فرحة من عاش باليقين، ما يفتأ يترقب ما إليه سائر، حين يحيى بالسلام (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(الأحزاب:44)، ويا حسرة على الأعمش الذي لم يتكلف أن يبصر السبيل، حين يطلع على الأهوال التي إليها مستقرة فيتبوأ مقعده(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً)(الزمر: 71)
ويا ندم المستعجلين الذين ظنوا أنهم فيها مخلدون (ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مايَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)(يس: 48ـ 49) حين يصرخون (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)(يس: 52). ويا لسعادة الموقنين الذي هم آنئذ في (شغل فاكهون هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ)(يس: 56).
من كانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه عاش في كنف ضيق، وفي الآخرة إِذَا(أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً)(الفرقان : 13) من ضيق إلى ضيق فكيف يهنأون، وكانت أمنيتهم الهلاك، ولكن هيهات هيهات(لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً)(الفرقان : 15)
حين نخندق أمانينا في ركام الأشياء ونطلب الكمال في دنيانا، ونحن حتما إلى زوال، تتفاقم أوجاع القلوب وتنصرف إلى أزمات خانقة لا يبيدها إلا الشوق للفردوس الأبدي، وحين نرقى بتلك الأماني إلى عالم الملكوت، يحيا فينا الوله إلى الرحاب الواسعة فنغدق باليقين هنا وبالنعيم هناك (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(هود : 108)