أتى الإسلام ليؤكد على الأخوة الإنسانية، ويبيَّن أن الناس أسرة واحدة مع تنوعهم واختلافهم، فقد توجه القرآن إلى الإنسانية كلها من خلال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، وليؤكد وحدة الأصل الإنساني؛ لأن الناس بكل اختلافاتهم وتعدداتهم، وتباعدهم في المكان والزمان، إنما يرجعون إلى أصل إنساني واحد. إنه تأكيد على التنوع بين البشر، وبيان ضرورة التعاون والتواصل والتكامل بينهم (لِتَعَارَفُوا)؛ فتنوع الناس إلى شعوب وقبائل، وتوزعهم في الأرض لا يعني أن يتفرقوا وتتقطع بهم السبل، ويعيش كل شعب -وأمة وحضارة- في عزلة وانقطاع، كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادم الناس ويتنازعوا لأغراض مختلفة(1). إن مفهوم (لِتَعَارَفُوا)، يؤسس للحوار والتعاون والتكامل والسلام، وإن في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107) معنى إنسانيًّا وافيًّا، لا يدع مجالاً لذرة من الريب في أن الإسلام إنما جاء ليمنح البشرية الأخوة والحب والسلام(2).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسى معالم العيش المشترك من خلال هذا النموذج الحضاري، الذي تجسد في مجتمع المدينة، ورسَّخ لاحترام التعددية الدينية، وعدم إكراه أحد على الإسلام، “إنه منذ عقود والعالم كله يسعى بدوله ومؤسساته ومنظماته إلى تحديد الأسس والقواعد التي تنظم حقوق الأفراد وواجباتهم، وترسم حدود العلاقات البينية بين الأفراد من جهة، وبينهم وبين الدولة ومؤسساتها وهيئاتها من جهة أخرى، وهو ما يمكن تسميته “الحق في المواطنة”. ومفهوم حق المواطنة يقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى الانتماء الديني، أو العرقي، أو المذهبي، أو أي اعتبارات أخرى، فالاعتبار الوحيد هنا هو الإنسانية والمواطنة.
لقد عرف الإسلام هذا الحق ورسَّخه منذ ما يربو على أربعة عشر قرنًا، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم -بعد هجرته إلى المدينة وإقامته للدولة- عقائد مختلفة وقبائل شتى؛ ففي المدينة كانت اليهودية والشرك، وعلى أطراف الدولة كانت النصرانية، وفي ظل هذا التنوع وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم “وثيقة المدينة” كأول دستور للدولة المدنية في العالم؛ للتأكيد على عدم التفرقة بين مواطنيها من حيث الدين أو العرق أو الجنس.. وتعد صحيفة المدينة أول دستور ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين(3).
إن جميع الوثائق والكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الدول وحكامها آنذاك، تدل على أن أساس التعامل مع المجموعات الدينية الأخرى هو التسامح، وإباحة إبقاء أهل الأديان على عقائدهم دون إلزامهم باعتناق الإسلام، انطلاقًا من قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة:256).
لقد تميز الإسلام برفضه فلسفة الصراع؛ لأن الصراع يُقوِّض التعايش، ويلغي التعددية والتنوع، ويؤدي إلى رفض الآخر ونبذه وإقصائه، واغتياله معنويًّا وماديًّا.. ولذا عمل الإسلام على بناء جسور التواصل والثقة مع جميع الناس، من خلال احترام عقائدهم وعدم إكراههم على تركها، وآية ذلك بقاء غير المسلمين -سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم- على عقائدهم بين المسلمين، ومشاركتهم في الشؤون العامة في المجتمعات المسلمة، وعدم اضطهادهم أو كرههم بسبب معتقداتهم.
إن احترام الإنسان وتكريمه، لا يعتمد -في نظر الإسلام- على دينه أو مذهبه أو فكره أو جنسه أو كونه أبيضَ أو أسودَ، بل على إنسانيته فقط، دون النظر إلى شيء آخر: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70).
ولذا، فإن الإسلام لم يطلب من غير المسلمين أن يتركوا معتقداتهم ليعتنقوا الإسلام، ولم يأمر بقتلهم تحت أي دعاوى أو ظواهر عدائية، مثل “الإسلاموفوبيا” التي ظهرت في أوروبا، فلم تظهر في المجتمعات الإسلامية مصطلحات مثل “المسيحية فوبيا” أو “اليهودية فوبيا”، كما لم تكن هناك فزَّاعة للخوف من الأديان أو المعتقدات الأخرى.
لقد أكد الإسلام أن السلام والأمان من أسس علاقة المسلمين بغيرهم؛ لتهيئة أجواء التعاون والتعارف بين الناس؛ ولذا عمل على ترسيخ السلام، حتى إنه لم يجعل المخالفة في الدين سببًا للعداوة، قال تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8).
إن الإسلام لم يطلب من غير المسلمين إلا أن يكون ولاؤهم للوطن الذي يعيشون فيه، وينعمون فيه بالاحترام وحقوق المواطنة. ولم يكن هذا المبدأ في التعايش مقصورًا على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وإنما انسحب على غيرهم من أرباب الديانات الوضعية، مثل المجوس وغيرهم؛ فقد تحققت لهم الحرية في ممارسة عبادتهم وحياتهم، وتمت معاملتهم معاملة أهل الكتاب تطبيقًا للتوجه النبوي: “سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب”(4). ومن خلال التجارب التاريخية للعيش المشترك بين المسلمين وغيرهم، تحقق التعاون والتكامل، ومن الشواهد على ذلك، الإسهامات الحضارية لغير المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية، والتعاون مع المسلمين في المجالات الحضارية المختلفة.. فهل كان من الممكن أن يتم ذلك، في أجواء العداء والكراهية وعدم قبول الآخر؟
إن ما يطلق عليه “صراع الأديان” أصبح من أهم التحديات التي تواجه البشرية، وتهدد السلام في المجتمعات الإنسانية؛ لأن اختلاف الأديان لا يمكن أن يكون سببًا للحروب والصراعات بين أتباع الأديان المختلفة. وتؤكد النظرة الموضوعية أن الأديان وتعاليمها ليست سببًا في الحروب، وإنما السبب هو التوظيف السياسي للدين، وكذلك الأطماع السياسية التوسعية التي تُشعل الصراعات، وتتخذ من الدين ذريعة لها(5).
لقد طلع علينا زُمرة من المفكرين والكتاب، مثل “هنتنجتون” الذي أكد أن أساس اختلاف الحضارات هو التاريخ واللغة والتقاليد، ثم قال: “ولكن أخطر العوامل هو الدين؛ لأن كل حضارة تستند إلى رؤية دينية، وإن الصراع الحضاري القادم هو صراع ديني”.
أما “فوكياما”، فقد جاء بمقولته عن نهاية التاريخ، التي تؤكد استقرار النموذج الغربي في الفكر والحضارة، الذي هو أفضلها جميعًا؛ لأنه الوضع الطبيعي الذي سيؤول العالم إليه.
إن الواقع التاريخي لا يؤيد هذه النظريات، لأن الحضارات تزاوجت ولم تتصارع، وحدث التلاقي والتواصل بينها، سواء فيما يتعلق بالحضارة الإسلامية واستفادتها من الحضارات السابقة عليها، مثل اليونانية والرومانية وغيرهما من الحضارات الأخرى، أو بالنسبة للحضارة الغربية واستفادتها من الحضارة الإسلامية.
إن نظرية “هنتنجتون” تقوم على ثنائية الصراع بين حضارات الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية، وحضارة الغرب ليست مسيحية فحسب، لأنها حضارة تقوم على الرأسمالية؛ حيث الغاية تبرر الوسيلة، وهي حضارة تأثرت -أيضًا- بعدد من كبير من المفكرين المسلمين، مثل ابن رشد، وابن سينا، وابن طفيل، وأبي بكر الرازي، والخوارزمي.. وغيرهم.
كما أن المسيحية ليست غربية فقط، أي ليست حكرًا على أهل الغرب دون غيرهم؛ لأن المسيحيين العرب من النماذج الطيبة للمسيحية، ولهم أدوار كبيرة في أوطانهم، وفي دعم التعايش السلمي. وهناك أعداد كبيرة من المسيحيين العرب الذين يعتزون بالهوية العربية، وكان لهم إسهامات في إثراء الحضارة العربية والشرقية حتى قبل الإسلام.
وهنا يجب أن نؤكد حقيقة مهمة تتعلق بضرورة فهم تعاليم الأديان السماوية، ومعرفة أن الاختلاف في الدين لا يبرر قتل الآخر، أو كراهيته، أو إقصاءه، أو الدعوة والتحريض على طرده ورفضه، والتخويف من دينه، أو اتهامه بالإرهاب.
إن احترام قيم المواطنة وحقوقها وواجباتها، مطلب حضاري عاجل يجب تفعيله واحترامه؛ لأنه يمثل الضمانة الأساسية للتعايش السلمي المشترك بعيدًا عن التعصب والتطرف.
إننا بحاجه إلى العمل على بناء ثقافة الإنسان المدرك لحقيقة التواصل والتداخل بين الثقافات والشعوب، والمدرك كذلك لصعوبة واستحالة الانعزال والتقوقع على الخصوصيات الثقافية في ثورة الاتصالات المعاصرة، بغية تأسيس القواعد المعرفية والثقافية للسلام العالمي الحقيقي، القائم على إدراك حقيقة مصدر الوجود الإنساني وغاياته، واتحاد النشأة والمصير والغاية، وبذلك يتضح ما بين الخصوصية والعالمية من اتصال وانفصال.
إننا بحاجه إلى بناء العقلية النقدية القادرة على التفاعل مع جميع مصادر المعرفة وفق قواعد منطقية قرآنية، بحاجة إلى العقلية التي لا تقبل معرفة أو أطروحة بدون دليل معتبر بشروطه، ولا تُخضع المعارف للأيديولوجيات والأوهام، ولا المصالح والأهواء.. وبذلك ينتفي توهم القدرة البشرية على امتلاك الحقيقة المطلقة الكاملة من طرف من الأطراف، ويصبح للجميع شرعية الوجود والتحاور، وتزول فكرة نفي الآخر، ويتضاءل التحيز أو التمركز العرقي أو اللاهوتي أو الطائفي حول الذات(6).
وبعد، فإننا نؤكد على أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، هو التعارف والسماحة والتآلف والتكامل، واحترام التعددية الدينية والمذهبية والفكرية، واحترام إنسانية الإنسان.

(*) الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية / مصر.
الهوامش
(1) تعارف الحضارات، زكي الميلاد، دمشق، ص:61-63.
(2) نظرات في الإسلام، د. محمد عبد الله دراز، ص:104.
(3) النماذج الأربعة من هدي النبي  في التعايش مع الآخر-الأسس والمقاصد، أ.د. علي جمعة، ص:36-37.
(4) موطأ مالك، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي 2/395، ط1، 1425هـ-2004م.
(5) التراث المسيحي الإسلامي، د. ليلى إبراهيم تكلا، ص:61-62.
(6) التعليم الديني بين التجديد والتجميد، د. طه جابر العلواني، دار السلام للنشر والتوزيع، القاهرة، ص:84-85.