عجيبة ذائقة البشر الجمالية التي تثبت أن الأمور ليست متوقفة عند تلبية الضرورات المادية من مطعومات، وبيوت، وملبوسات، ومفروشات ونحوها من ضرورات الحياة. بل يُتجاوز ذلك بتلبية حاجات معنوية، كحاسة تذوق الجَمال، والحاجة للتجمل، والتزين والزخرفة المركوزة في الفطرة البشرية؛ الفطرة التي انفتحت واستقت من مظاهر الجمال والإبداع المبثوثة في الكون جماداته قبل أحيائه. لذا زخرف المبدعون -خاصتهم وعامتهم- كل ما يستطيعون زخرفته بطرائق ونماذج ووحدات وعناصر زخرفية لا تعد ولا تحصى.
الزخرفة هي فن تزيين وتجميل، وإكمال حُسن الأشياء بالنقش، أو الرقش أو الحفر أو التطعيم أو التطريز أو التلوين وغير ذلك، مما يُسهم في إضفاء لمسات جمالية ولمحات فنية. وقبل تبلور نظريات الفن قديمها وحديثها، يبقى الفن رؤية أو حدسًا، صورًا ذهنية يراها الفنان أو الصانع، ومن ثم يختار للتعبير عنها وسائل مادية لتخرج للواقع عملاً منظورًا أو ملموسًا أو مسموعًا. ولا يكتمل رونق تلكم الأعمال إلا بلمسات إبداعية، وتنوعات زخرفية تترك في الذائقة البشرية مشاعر شتى وتوحدات جمة وأفكارًا عدة. ومن ثم بناء المعيار الجمالي الذي يقاس به صدق الأحكام الخاصة، بالقيمة الجمالية والبراعة الفنية. وتتطابق هذه الأمور وغيرها -أيما تطابق- مع فنون الزخرفة التي هي أحد مكونات التشكيل، وجانب مهم من جوانب الهوية القيمية، والخصوصية المجتمعية لكل المجتمعات البشرية. ولقد توالى إبداعها -كمًّا وكيفًا شكلاً ومضمونًا- لتضفي مظهرًا جماليًّا، وتشخيصًا لأفكار ومعتقدات، ورغبات ومخاوف، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام، اقتراب وابتعاد من تحقيق الأهداف والغايات، والأمنيات البشرية.
وفضلاً عن كونها تعبر عن ملامح تتصل بحياة الإنسان العامة، وتعكس عاداته وتقاليده، وطرائق معيشته وأنشطته البيئية الخاصة، فإن ملامح وتفصيل تلك الزخرفة البشرية، بادية -أيضًا- في المساجد والبنايات، وفي المعمار والطرقات، والأخشاب والأثاثات، والأزياء والمنسوجات، والسجاد والمفروشات، والحلي والزينات، والخزف والزجاجيات، والأواني والمشغولات، والكتب والمجلدات.. ولقد أتى الفنان أو الزخرفي أو الصانع، في التعبير الفني والجمالي، عن تلك الجوانب بعناصر مُشاهدة ومتنوعة ومتغيرة حسب الأزمنة والأمكنة.. فقلّد المظاهر الزخرفية الطبيعية من حوله، ثم راح يطور ويبدع، اختيارًا وتخطيطًا وتصميمًا وتنفيذًا.. وأعاد تنظيم وترتيب تلكم العناصر معتمدًا على التكرارات المنتظمة وغير المنتظمة من عنصر واحد أو عدة عناصر متنوعة متآلفة أو متباينة. كما أنه مع مرور الوقت، عَمد إلى إضافة شيء جديد مُبتكر، لكنه -أحيانًا- لا يولد من فراغ. فتقليدًا وابتكارًا، تنتظم فنون الزخرفة لتشكل نظامًا جماليًّا بشريًّا متكاملاً، يحقق فكرة معينة من خلال مفردات تشكيلية.
عراقة الزخرفة
تركت الحضارات الإنسانية والجماعات البشرية في فنونها المختلفة، تصاميم ومفردات زخرفية متعددة، أصبحت منهلاً خصبًا تمد برصيد وافر ومتنوع من العناصر الفنية. ففي البدايات زخرف الإنسان أدواته من العظم والخشب والحجر.. فجمّلها بمفتاح الحياة، والغزلان، والطيور، والأزهار، والنخل، وأوراق التين، والمثلثات، والمربعات، والسداسيات، والمثمنات.. ثم لوّن عناصره الزخرفية، فاستخدم لوني الأحمر والأسود بدرجاتهما المتفاوتة، لتوافرهما وسهولة استخدامهما.
وفي مجالات مختلفة انتشر استعمال الزخارف النباتية والتوريق أو الأرابيسك، فتم بها تزيين الجدران والقباب، والتحف المختلفة، وصفحات الكتب وأغلفة تجليدها. وكانت أهم عناصره الزخرفية الزهور والأشجار والأوراق المتموجة أو المنبسطة أو المستديرة أو المسننة، وأشكالها المتشابكة أو الحلزونية بين فجوات التشبيك الهندسي. ولا شك أن أشكال الزخارف كثيرة، وتخضع في أغلبها لبنية أولية تأخذ صيغًا متعددة حسب رغبة المزخرف وأسلوبه. وقد تكون هذه الزخرفة ثنائية الاتجاه، كما هو الغالب في زخرفة الحوائط والأبواب والسقوف والسجاد.. وقد تكون ثلاثية الاتجاه، كما في الأعمدة أو العقود، وفي المقرنصات في أعالي البوابات أو جدران القباب.
زخارف بصرية
تشكيلات زخرفية بصرية متنوعة أبدعتها يد الفنان والمعماري في الجوامع والمساجد والقباب والمدارس، والبيمارستانات والبيوت، والمشربيات والطرقات، والأزقة والحارات.. وكثيرًا ما استُخدمت المواد البيئية الأولية وأدوات بسيطة في تزيين البيوت والأسبلة؛ فاستُعمل الجير الأبيض -مثلاً- مخلوطًا بأكاسيد المعادن وغيرها من الألوان، لدهان الحوائط الخارجية، ونقشها بعناصر زخرفية، وفنون خطية كتابية. أما في المدن والبيئات الساحلية، يكثر زخرفة الأبواب والنوافذ والطرقات باللون الأزرق والأبيض، ليتواءم ولون السماء الصافية وزرقة الماء الساحرة.
وثمة الرسومات الشعبية واللوحات الجدارية التي تُعدّ احتفالاً واحتفاء برحلات الحج والعمرة، فأينما حللت وارتحلت تجد مظاهر الاحتفال والتوثيق الزخرفي العريق بالرحلة المقدسة. بالإضافة إلى تزيين جدران منازل الحجيج والمعتمرين التي تُوضع إعلانًا للفرحة، وإشاعة للبهجة، ومشاركة وجدانية، وأبهة اجتماعية، وتذكيرًا بالرحلة المقدسة من جانب، ومن جانب آخر لتعكس موهبة وإبداعًا فطريًّّا للفنانين.
وفي عالمنا العربي الإسلامي، ما زال يتواجد الحرفي الذي يحوّّل خامة الخشب إلى قطعة رائعة تموج بالفن وتجذب عشاقها. ولقد أظهر هؤلاء الصناع، المهارة والبراعة في تزيين وزخرفة الأخشاب والأثاث والمشربيات. إنه أسلوب حياة بكل ما تنطوي عليه من تراث مادي ومعنوي حي، يعكس آثار منتجات هذه الصنائع على السلوك الإنساني في إثراء الذائقة الجمالية والمتعة البصرية، لتنتشي الحواس بما تدركه من علاقات جمالية بين الأشكال والتكوينات، التي تعكس وجدان ومهارة الصانع الفنان.
إن أغلب سيدات الريف والبدو، وبعض سيدات الحضر، يحترفن التطريز اليدوي، ويحرصن على تصنيع ملابسهن، وأثواب زفاف بناتهن.. كما يتميز الزي الريفي والبدوي بغرز خيوطه الفريدة وتناسق ألوانه الرائعة، مما يجعله بطاقة تعريف للشخصية والقبيلة والمنطقة. وغالبًا ما يكون لون الزي النسوي وأماكن توزيع ألوانه، محددًا للمرحلة العمرية للمرأة أو الفتاة. وفي كثير من المناسبات ترتدي المرأة ثوبًا خاصًّا مطرزًا بالكامل، لتبقي تلك الأزياء التقليدية كقطع من ذهب على أطباق من فضة، لذا فقد تنامى الأثر الجمالي والزخرفي للأزياء البدوية والريفية العربية الإسلامية. ونتجت تشكيلة حديثة من الأزياء غاية في الإبداع والتطريز الزخرفي، لتكمل لوحة فنية رسمت بأرقى التصاميم ممتزجة بأصالة الذوق الأصيل.
وتعد مواد الزينة -أدواتها وأشكالها وطقوسها- تعبيرًا فنيًّا راقيًا ورائعًا عن مظاهر التحضر وقيم الحضارة، سواء في شِقها المادي (عالم الأشياء)، أو في شقها المعنوي (عالم القيم والأفكار)، ومنها قيمة الجمال. وقديمًا وحديثًا يزداد الولع بالوشم والحنّاء، ولعل السر يكمن في تصميماتها المعقدة التي يستغرق نقشها أو رسمها ساعات، ولونها الأحمر القاني الذي يتوهج، ورائحتها العطرة التي تفوح بعبق الطبيعة.
هذا وقد ظهرت صالونات متخصصة في نقش الحنّاء وتخطيطها على الأيدي والأرجل، كما ظهرت كتالوجات تحمل أشهر النقوش والتصاميم. ويسري الحال على زخرفة الخزف والزجاجيات، والأواني والمشغولات، والكتب والمجلدات، وتزيين الدمي والعرائس الشعبية كعروسة المولد وغيرها.. لتبقى قيم الجمال والزينة الحسية والمعنوية، حاجة فطرية جُبل عليها البشر، لتسكن نفوسهم ويبتهج مارتهم ويتمتع ناظرهم.
إذن، من خلال فنون الزخرفة، يستطيع الإنسان التعرف على الذائقة الجمالية العامة والمشتركة، فضلاً عن تبين هوية وخصوصية جماعات بشرية بعينها، وتواصلها وتلاحمها فنيًّا مع غيرها من المجموعات الأخرى. وهذا التراث الزخرفي من الأهمية والثراء بمكان، بحيث يدعو للتأمل والتذوق والتمسك بخصوصياته والإسهام الوافر فيه، إثراء للحضارة الإنسانية. فكم هو مبهر عالم الزخرفة، لا تنتهي ولا تنضب إبداعاته ودلالاته المتنوعة.. يريح النفوس ويجردها من أشباح عالم ظاهري، تجريدًا يدفع إلى التأمل والتدبر؛ فتسمو الروح، وترتاح النفوس، وتتداوى من مراراتها اليومية، وقلقها الوجودي.. إذا ما كان في جوهره سباحة للعين، فإنه سباحة للنفوس. وأمثال تلكم الفنون المتوازنة ورسالتها السامية، مدعاة لتكريس فنون أصيلة ذات هوية، ورؤية يحتاجها المشروع الساعي لانتشال الإنسانية من أزمتها الفنية الراهنة.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.