لا معنى لـ”الأقومية” في الهداية، و”الأحسنية” في التفسير في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(الإسراء:9)، وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾(الفرقان:33) إلا بأن تكون هدايات القرآن مرشدة للعقل الإنساني في عمارته للأرض خططًا وبرامج ومقاصد، ومرجعًا له تدافعًا وتنافسًا واستباقًا للخيرات.
والمتأمل في العلاقة العمرانية للإنسانية اليوم -على اختلاف حضاراتها وفلسفاتها وقيمها وأهدافها- يجد أنها تنحصر على العموم الغالب في علاقتين اثنتين: علاقة التوتر والصدام والصراع والمنافسة المفضية إلى الإضعاف والإقصاء، ثم علاقة التفاهم والتعاون والرغبة في تعميم الأمن والاستقرار والتنمية والسكينة.
ولا يحتاج المتأمل إلى كبير تحليل ليدرك أن العلاقة الأولى هي المهيمنة، وقد أوجدت لها داخل كل كيان حضاري أو ديني أو مجتمعي فلسفة تشرعنها، ومسوغات تسوقها، وخلفيات تاريخية وواقعية تقويها، وبيئة نفسية وفكرية تحتضنها.
والنتيجة الحتمية لانتشار تلك العلاقة، هو أن يشهد العالم مزيدًا من التوتر والإقصاء والصراع، بل مزيدًا من الدعوات إلى المواجهة والاحتراب، مما يجعل كل كيان يندفع في اتجاه مزيد من الاستقواء. وقد يجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى المواجهة والردود، بل قد يرفعون أكفهم ضارعين لله بأن يدمر الكفار والأعداء واليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين والمتربصين بهم… إلى غير ذلك من المواقف والدعوات التي من السهل أن تجد مسوغاتها في البيئة النفسية والفكرية الحاضنة لمظلومية المسلمين.
نحو تمثل حضاري لقاعدة “الغضب النُّوحي منسوخ بالرحمة المحمدية“
وبالعودة إلى القرآن الكريم استمدادًا للأقومية وتلمسًا للتفسير الأحسن، يقف الدارس على معطيات قد تكون معارضة للحالة النفسية وللبيئة الحاضنة لمشاعر الأمة اليوم. وقد تتبعت جانبًا منها فوجدتها قابلة لأن تساغ ضمن القاعدة الحضارية الآتية: “الغضب النُّوحي منسوخ بالرحمة المحمدية”.
ونقصد بالغضب النوحي، تلك المشاعر والأحاسيس التي تملكت نوحًا عليه السلام، وأوقعت في قلبه “مللاً من دعوة قومه وضجرًا، واستولى عليه الغضب ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم”، وملأت وجدانه يقينًا حادًّا بأن الأرض “تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحيانًا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيًّا ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين”.
وقد تفجرت تلك المشاعر من أعماق قلب نوح الحزين فصاغها دعاء قويًّا: (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا((نوح:26-27).
ومع ما يسوغ هذه الحالة النفسية بسياق السورة نفسها -ما دام نوح قد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما دام قد دعاهم سرًّا وجهرًا واستفرغ جهده في دعوتهم وإنذارهم- فإنها تبقى “استثنائية” بالنظر إلى مقاصد القرآن في الدعوة والهداية، وبالنظر إلى طبيعة الدعوة المحمدية، واستثنائيتها هاته هي التي تجعلنا نحكم بأنها منسوخة بالرحمة المحمدية. كيف ذلك؟
الثابت أن جل المفسرين، ذهبوا إلى أن دعاء نوح عليه السلام ذلك على قومه بالهلاك إنما جاء -كما يورد الطبري وغيره- بعد أن أتاه الوحي من السماء: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ)(هود:36)؛ مما يعني أن إقدام نوح عليه السلام على ذلك الدعاء إنما عن علم علِمه عن ربه عز وجل، وهذا ما يذهب إليه الماتريدي في قوله: “فبما قيل لنوح عليه السلام: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ* وقع له الإياس من إسلام من تخلف عن الإيمان ، فارتفع معنى الدعاء إلى الإسلام، فجائز أن يراد له الإذن بعد ذلك بالدعاء عليهم بالهلاك، فيدعو إذ ذاك”.
ويضيف الرازي إلى ذلك العلم الثابت بنص الآية علمًا آخر ناتجًا عن الاستقراء، يقول: “فإن قيل: كيف عرف نوح عليه السلام ذلك؟ قلنا: بالنص والاستقراء، أما النص فقوله تعالى: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ)، وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فعرف طباعهم وجربهم”، وهو ما ذهب إليه الزمخشري، والنيسابوري، والشربيني، والقاسمي، وابن عجيبة وآخرون.
إلا أن المفسرين لم يتساءلوا عن موقف مقاصد القرآن والرحمة المحمدية من مثل ذلك الدعاء، ولم يبرزوا الحالة الخاصة في دعاء نوح عليه السلام، ولم يستخلصوا من ذلك قواعد تقي من جعل الغضب النوحي الخاص عامًّا ينسحب على الإنسانية جمعاء في صيرورتها التاريخية بعد نوح وبعد جميع الأنبياء إلى يوم القيامة مهما عتت وتكبرت وانحرفت عن طريق الفطرة والهداية.
حقيقة أننا نجد عند الماتريدي كلامًا يستشف منه أن الأصل استنكار دعاء نوح بذلك الدعاء، وهذا واضح في قوله: “هذا كلام شنيع في الظاهر من نوح عليه السلام، لأنه خارج مخرج الإنكار على الله تعالى، لو تركهم ولم يهلكهم. وهذا يشبه قول من قال: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)(البقرة:30)، وهذا أيضًا خارج مخرج التكبر لله تعالى: أنه لو أبقاهم، أدى ذلك إلى إضلال العباد، وفيه تقدم بين يدي الله تعالى؛ وذلك عظيم، ولأنه ليس في شرط الألوهية إهلاك من عمله الإضلال.
ألا ترى أن إبليس اللعين وأتباعه جُلّ سعيهما في إضلال بني آدم، ثم لم يهلكوا، بل أبقوا إلى الوقت المعلوم؟ ولكنه يجوز أن يكون دعا عليهم بعد أن أذن بالدعاء عليهم بالهلاك والبوار، فيكون الدعاء بالهلاك على تقدم الأدب”. لكن توجيه الاستنكار في اتجاه استدراكات كلامية عقدية غيبية، يجعلنا نسجل غياب اهتمام المفسرين بتحليل دعاء نوح في ضوء مقاصد القرآن وظلال الرحمة المحمدية في واقع حياة البعيدين عن أنوار الهداية.
إن الظلم والإقصاء ومحاصرة الأمة في مهاوي الذل والخنوع والاستسلام، والإمعان في جعلها ساحات للاحتراب بالوكالة، وإشعال الفتن بين مكوناتها وطاقاتها… ذلك كله قد يسوغ الغضب النوحي، لكن ذلك الغضب من شأنه أن يحجب عن الإنسانية طبيعة المسلمين ودورهم في الحياة. ومعلوم أن القرآن يعلن مقاصده بوضوح تام، فهو نور وهدى وبيان وشفاء، وهو جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعلهم على كلمة سواء، وبعث فيهم رسولاً كان شعاره الذهبي: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ((الأنبياء:107)، و”إني لم أبعث لعّانًا، وإنما بعثت رحمة” (رواه مسلم)، و”يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة” (رواه الدارمي).
يقول المفكر أبو زيد المقرئ الإدريسي في شرح كنوز هذا الحديث: “يكرر النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة كونه رحمة عالمية، حتى تبلغ هذه الحقيقة بالتكرار إلى العموم بالإلحاح فتنغرس في وعيهم، ويخاطب بها العالمين لا قومه فقط؛ (أيها الناس)، ويعبر بالمصدر لا بالصفة؛ (الرحمة) للإطلاق والمبالغة، ويعلنها بدون مقابل مجانًا لوجه الله لا يريد بها جزاءً ولا شكورًا، ولا يطلب مقابلاً لها على عظمها نعمة (مهداة). ويستعمل أداة الحصر ليبين أنها رحمة خالصة لا منغص لها ولا شائبة تشوبها؛ (إنما)، ويعلن بها، يدلل عليها، ينادي (يا أيها)… ست حقائق عظيمة تجتمع في عبارة موجزة بليغة، كي لا يتسرب لورثة رسالته من بعده أيّ شبهة احتكار أو علو أو إقصاء، ولا يتشكك عموم المخاطبين بهذه الرسالة بأنهم -مثلهم مثل من سبقهم إلى الإسلام- أحق بهذه الرحمة وأهلها، إلحاح وتعميم وإطلاق وإهداء وخلوص وإعلان، هذه هي الرحمة المحمدية”.
ثم إن الغضب النُّوحي، من شأنه أن يضعف من تلك الحقائق التي تشكل عمق الرحمة المحمدية، وقد يهبط بها من العموم إلى الخصوص فيجعلها خاصة بالمسلم ومن يسلك مسكله، بينما الأصل أن الرحمة المحمدية -بنص القرآن- تشمل عموم الناس، وتمتد إلى الحيوان والنبات والجماد. وقد أومأ الأستاذ فتح الله كولن بفهمه المتدبر، إلى آفاق رحبة للرحمة المحمدية التي شملت فيمن شملت، الكافر والمنافق، مع أن الثقافة المستمدة من الغضب النُّوحي تجعل المسلم ميّالاً إلى صب جام غضبه على أولئك، والدعاء عليهم وعلى أمثالهم من المنحرفين والمتآمرين، بالهلاك والبوار؛ يقول الأستاذ فتح الله كولن: “كان رحمة للمنافقين أيضًا، فبسبب هذه الرحمة الواسعة، لم ير المنافقون العذاب في الحياة الدنيا، ولم يهتك الإسلام سرهم فبقوا بين المؤمنين… كما استفاد الكفار من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها هلاكًا جماعيًّا، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة نبينا هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة إلى الكفار”.
الوعي بشمولية الرحمة المحمدية
إن الوعي بشمولية الرحمة المحمدية وتمثل أبعادها النفسية والتواصلية، من شأنه أن يجعل حالة الغضب النوحي حالة خاصة لا يجوز تعميمها، مع أن “عادة الرسل الصبر على أممهم” كما يقول محمد الأمين الشنقيطي، لكن الإشكال هو في كيفية إقناع العقل المسلم بهذا، كيف يمكن أن يدرك المسلم بأن الارتقاء في سلم النبوة ومقتضيات الختم الرسالي، تتضافر مع مقاصد القرآن، لتقدم لنا النبي محمدًا راعيًا للرحمة وأستاذًا لها، ومعلم الأجيال كيفية تمثلها والإحساس بها والتعامل مع الناس وفقها على ضلالهم وكفرهم، والحرص على أن تشملهم الرحمة كما شملته، فيدعو لهم لا عليهم، ويرجو لهم الهداية بعد الضلال.
لقد شعر بعض المفسرين بنوع من الحرج بين يدي تفسيرهم لغضب نوح ودعائه على قومه، فراحوا يلتمسون المسوغات المنطقية للقبول بغضبه ودعائه، وذكروا في ذلك أحوالاً لم يرد فيها نص صحيح أو هي “تحتاج إلى نقل صحيح”، بينما الأصل أن يبقى ذلك كله حالة خاصة بنوح عليه السلام، وأن ينتهوا حين يدركون أن السيرة النبوية تشهد بالرحمة العالمية التي امتدحها القرآن في نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن الغضب النُّوحي منسوخ بالرحمة المحمدية.
لنتأمل في ما أورده البغوي: “قال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع، وغيرهم: إنما قال نوح هذا، حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام نسائهم، وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل سبعين سنة (لاحظ كيف أن المفسرين لا يذكرون في هذا أثرًا صحيحًا، وإنما هي استمدادات من الإسرائيليات)، وأخبر الله نوحًا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا، فحينئذ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه وأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب، لأن الله تعالى قال: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ((الفرقان:37)، ولم يوجد التكذيب من الأطفال وهو ما ذهب إليه الطبرسي وغيره.
واسترسل آخرون في تقديم بعض العلل، مثلما نجده في قول أبي السعود: “أي إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن، منكر، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم بعد ما جربهم واستقرأ أحوالهم قريبًا من ألف سنة.
ويقول القاسمي: “وقال بعضهم: ملّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة وتتربى بهيآتها المظلمة، لا تقبل إلا نفسًا مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه”.
ويقول محمد عزة دروزة: “وقد تضمنت الآيات… حكاية مناجاة نوح ربَّه بعد يأسه من قومه ودعائه على الكفار بالهلاك وعدم إبقاء أحد منهم، لأنهم بلغوا من العناد والجحود إلى درجة لا أمل فيها لصلاحهم وصلاح نسلهم الذي سوف يسير على غرارهم بتلقينهم، ثم حكاية دعائه لنفسه ولوالديه ولكل من آمن بدعوته ولكل مؤمن ومؤمنة”.
ويقول الشيرازي ناصر مكارم في تفسيره “الأمثل في تفسير الكتاب المنزل”: “وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح عليه السلام، لم يكن ناتجًا عن الغضب والانتقام والحقد، بل إنه على أساس منطقي، وأنّ نوحًا عليه السلام ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الأمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم، بل إنه دعا عليهم بعد تسعمئة وخمسين عامًا من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني”.
وقد يصل التعليل حدّ الاختلاف والتناقض، فعند هؤلاء أن نوحًا عليه السلام لم يغضب ولم يضجر ولم يضق صدره، بينما هو -عند آخرين- قد “أيس من إيمان قومه، وقنط من فلاحهم وصلاحهم”، ووجد “مللاً من دعوة قومه وضجرًا، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم”.
ولم يكن هؤلاء المفسرون محتاجين إلى تأويلات وتعليلات ومسوغات، فحتى لو كان الدعاء بوحي من الله فلا يجوز -بمنطق الرحمة المحمدية- أن يحجب أحد عن أولاد الكفار وذرياتهم نور الهداية، ويجعلهم في زمرة الهالكين لكفر آبائهم، مع أن هذا يتعارض مع مقاصد القرآن في هداية الخلق، ويشوش على معنى قوله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى((الأنعام:164)، و(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ((المدثر:38)، وقوله سبحانه وتعالى: (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ((الحجرات:7)، كما يشوش على القاعدة الفقهية القانونية الحضارية: “لا يؤحذ أحد بجريرة غيره”.
ويقول الماتريدي: “والأصل أن الرسل عليهم السلام بعثوا لدعاء الخلق إلى الإسلام، وكانوا في دعائهم راجين الإسلام خائفين عليهم بدوامهم على الكفر، فبما قيل لنوح عليه السلام:(لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ)، وقع له الإياس من إسلام من تخلف عن الإيمان، فارتفع معنى الدعاء إلى الإسلام، فجائز أن يراد له الإذن -بعد ذلك- بالدعاء عليهم بالهلاك فيدعو إذ ذاك”.
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يختار لنفسه -من ضمن عشرات الوظائف النبوية والغايات الرسالية- أن يكون “رحمة” للإنسانية، أي إنه كما يقول فتح الله كولن: “بعث رحمة من قبل الله تعالى للناس أجمعين، ولم يبعث لكي يستمطر اللعنة والبلايا والمصائب على الناس، ولهذا تمنى رسول الله صلى الله علي وسلم اهتداء ألد أعداء الإسلام، وبذل كل جهوده ومساعيه لتحقيق ذلك”.
والذين يشعرون اليوم أنهم يقتدون بالنبي الكريم، مطالبون على وجه الاستعجال:
- أن يتمثلوا جوهر الرحمة المحمدية في محيطهم الاجتماعي، وفي رؤيتهم إلى الآخر الذي يختلف عنهم عقيدة ومنهج حياة، فتكون دعواتهم لهم -لا عليهم- بالهداية والرشد والإيمان والمغفرة، مع بذل الجهد في ابتكار أحسن الأساليب، لإبلاغهم جوهر الرسالة صافية من مختلف الألوان التي تشكل الصورة النمطية المتداولة.
- وأن يحذروا من أن يتحولوا -دون وعي- إلى حواجز وموانع وجدران عازلة تمنع تسلل الرحمة المحمدية إلى الإنسانية البعيدة عن نور الله تعالى.
- وأن يحذروا ثانيًا من تلويث صورة الرحمة المحمدية بتبنّي خطاب الغضب النُّوحي الذي يدعو على المخالفين بالبوار والهلاك، ويعتقد أن الآخرين مجرد مشروع “غنائمي” للمواجهة والعداء والقتال، لأن الجهاد الاستثنائي -في صورته القتالية- لم يكن ضدهم، وإنما من أجل فتح طريق النور أمامهم، ومن أجل أن يتمتعوا بالجنة في آخرتهم… حتى ليمكن القول مع فتح الله كولن أن الرسول صلى الله عليه وسلم “كان يفتح بحد سيفه الطرق المؤدية إلى الجنة، وهذا بعد آخر من أبعاد الرحمة التي بعث بها للعالمين”.
سيرة نبي.. سيرة رحمة
والقارئ للسيرة النبوية، يتجلى له نسخ الرحمة المحمدية للغضب النُّوحي في أوضح مظاهره عند المشهد الرحيمي الرائع في الحدث التالي:
قالت عائشة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم:” يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: “لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد الليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا” (رواه مسلم).
وهذا الحدث العظيم، يبرز كيف أن الحالة التي عاشها نوح عليه السلام مع قومه دفعته إلى أن يدعو الله عز وجل لاستئصال نسل الكفار وإهلاك أعقابهم حتى لا يكون لهم وجود. وقد لا يكون ذلك الدعاء مخالفًا لدوره الرسالي في تلك المرحلة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم -ومع هول الأذى البدني والنفسي الذي تلقاه من الكفار- أعلن بين يدي الملائكة رغبته في أن يستمر نسل الكفار ليخرج من أصلابهم من يوحد الله عز وجل؛ لأن عالمية رسالته، وخاتمية دعوته، وعموم رحيميته، تقتضي نسخ “الغضب النُّوحي” وإحكام “الرحمة المحمدية”.
ومن جميل ما يلاحظ في مناسبة الحديث عن قاعدة “الغضب النُّوحي منسوخ بالرحمة المحمدية”، أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له القرآن بأنه كان يتمزق ألمًا وحسرة وإشفاقًا على كفر قومه، وهذا واضح في قوله تعالى: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ((فاطر:8)، وقوله سبحانه: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( (الشعراء:3)، مما يعني أن المعين الرحيمي لا يصدر عنه إلا شعور الرحمة ودعاء الرحمة وألم الرحمة، وإذا جاز اعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم انطبعت على نفسه أخلاق الرحمة الإلهية، فيمكن في هذا السياق أن نستحضر قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ((يس:30)، لنقول: إن الرسول الرحيم يتحسر على كفر العباد لتحسر الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إن الكون كله يتحسر على كفر الناس وضلالهم ومحاربتهم للنور. والتحسر فيه دلالة على الشفقة والأسى والحزن، وليس فيه أي دلالة على الغضب واللعن واستمطار العذاب والهلاك.
والإسلام لا يقدم نفسه مشروعًا لملاحقة الكفار وإنزال اللعنات عليهم، لأنه يريد للبشرية جمعاء أن تسير في سبيل الفطرة والعمران الإنساني الاستخلافي الذي يليق بكرامة الإنسان، وليس له من فضل في محاصرتهم في دائرة القدر المحتوم الذي لا يخرج بهم من ضيق الكفر والإلحاد والضلال إلا إلى ضيق القبور ودرك الجحيم، وإنما له الفضل في أن ينعموا برحمة الله ويتذوقوا حلاوة الرحمة المحمدية. وسيشرف المسلمون شرفًا مخصوصًا -حقيقة لا مجازًا- إذا هم استطاعوا تسويق تلك الرحمة بين بني آدم أجمعين، متجاوزين الحواجز والعوائق التي يضعها شرذمة من فاقدي الهوية الإنسانية في عالم السياسة والاقتصاد والإعلام.
(*) مستشار في وزارة الأوقاف الكويتية / المغرب.
المراجع
(1) محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: عيسى البابي الحلبي، 2008.
(2) في ظلال القرآن، لسيد قطب، دار الشروق، بيروت-القاهرة، 2010.
(3) الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم (برنامج إلكتروني)، مؤسسة البحوث والدراسات العلمية، فاس، المغرب.
(4) النور الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، 2010.
(5) أضواء البيان، لمحمد الأمين الشنقيطي، دار الحديث، القاهرة.
(6) روح المعاني، لمحمود الألوسي، تحقيق: السيد محمد السيد، وسيد إبراهيم عمران، دار الحديث، القاهرة.
(7) التفسير الحديث، لمحمد عزة دروزة، دار الغرب الإسلامي، تونس.
(8) تفسير الجيلاني (المنسوب إليه)، للشيخ عبد القادر الجيلاني، تحقيق: الدكتور محمد فاضل جيلاني الحسني، مركز الجيلاني للبحوث العلمية، إسطنبول.
(9) البحر المديد، لأحمد بن عجيبة، تحقيق: عمر أحمد الراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005.