الإسلام بنظامه المتكامل الشامل المنظم للحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وغيرها، أسهم في تقويم نظرة الناس إلى النفس البشرية، وأشار إلى أسرارها وخباياها. فلقد جاء الإسلام في بقعة تُعد مفترقا للحضارات القديمة، واستطاع بفضل قيمه الأخلاقية والروحية السامية، أن يحوِّل قومًا من البدو الرُّحل يعبدون الأصنام، إلى قوم يدعون إلى طهارة النفس وسلامة الحياة بدعوة القرآن الكريم الذي أحدث تغيُّرًا جذريًّا في كل ميادين الحياة المادية والنفسية، فاشتمل على وصف لطبائع النفوس ووسائل علاجها، وكشف للإنسان عن بعض أسرار نفسه، بل ودعاه إلى دراستها دراسة علمية تعتمد الملاحظة والتفكير منهجًا لتناول 313 موضعًا في القرآن ورد فيها ذكر النفس ومشتقاتها لبيان أحوالها من الخواطر والوساوس والهواجس والأحاسيس من فرح وحزن ووحشة وانقباض وانبساط وارتجاف وقلق واضطراب.. وغير ذلك مما سجله العلماء بعد طول معاناة ودراسة وتأمل في القرآن الذي يحوي معلومات كثيرة وشاملة عن النفس البشرية لتربيتها وتوجيهها لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ (النازعات:40-41)
ولتعلم كل نفس بشرية أن الله يعلم ما فيها، فلتحذره بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولتعلم أيضًا أنه سبحانه غفور حليم.
ووجه القرآن الإنسان إلى معرفة نفسه بالتوازي لمعرفته بالعالم الخارجي، وذلك حتى يكون لديه توازن في سلوكها وتصوراتها، يقول جل وعلى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53)، واضح أن هناك رابط بين العالم الأكبر وهو الكون الخارجي وبين العالم الأصغر وهو النفس الإنسانية، وعلى ذلك يتسع آفاق الدراسات النفسية بقدر اتساع آفاق الكون لترتبط الاكتشافات الكونية بالاكتشاف النفسي، فكل الاكتشافات والحقائق المعرفية الكونية تعد معرفة نفسية عرفتها النفس الإنسانية التي تتفكر في ذاتها وفي خلق الله.
فقد جعل الله في نفس الإنسان آياتٍ للموقنين توجّه إلى ما في هذه النفس من خصائص ومزايا. فهو سبحانه خلق هذه النفس، وجعل فيها قابليّة التكاثر، فخلق زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً، ثم طالبهم جميعًا بالتّقوى.
وأوضح القرآن الحقائق والمفاهيم النفسية لتكوين صورة واضحة عن شخصية الإنسان وسلوكه ودوافعه وإدراكه وتفكيره وتعلمه وتذكره ونسيانه وحيله العقلية كالتبرير والإسقاط، وعلاجه النفسي بما فيه من شفاء لما في الصدور أي النفوس ففي الهدى شفاء للنفس من الأمراض التي قد تعتريها، لأن الهدى تهذيب للنفس وصقلها، ومقوِّم للسلوك الذي يعكس ما في النفس كأنه مرآتُها.
وتعد خاصية شفاء الصدور هي الرؤية الشائعة عن علم النفس في القرآن الكريم. والحقيقة أنها جزء من علم النفس وموضوعاته في القرآن، حيث تناول الكثير من المسائل التي تعمل على فهم أفضل للنفس البشرية. وسبقت الشريعة الإسلامية كل علماء النفس القدامى والمحدثين والمعاصرين الذين عرفوا علم النفس والشخصية الإنسانية، ففي القرآن مئات الآيات التي تناولت النفس، سوية كانت أم مريضة.
فالإنسان مخلوق مزدوج الطبيعة والاستعداد والاتجاه، خلقه الله من الطين ومن نفخته فيه من روحه، فأصبح مزودًا باستعدادات متساوية للخير والشر، قادرًا على التمييز بينهما وتوجيه نفسه إلى أيهما يريد، وهذه قدرة كامنة فيه.
فالنفس سوية في مبدئها، فأصبحت قادرة على فهم الخير والشر وإدراك الفضيلة والرذيلة والتقوى والفجور، أي مدركة ذاتيًّا للشيء وضده، وأعطيت الإرادة بين خيارين، امتحانًا من الله تعالى، لتحديد مصيرها. والفلاح والفوز يحصل بتزكيتها وتطهيرها والسمو بها وتطهيرها وتجلية مرآتها باكتساب الفضائل حتى تحتفظ بصحتها الأولى. فالنفس المطمئنة التي امتثلت لأوامر الله واجتناب نواهيه لا يؤثر فيها أي اضطراب نفسي مهما كان، لأنها تحيا حياتها على يقين تام بالله، فهي متوافقة مع نفسها والمجتمع الذي تحيا فيه. وتؤدي تزكية النفس ومحاولة علاجها وتوجهها نحو النهج السليم إلى تحقيق الراحة النفسية والطمأنينة القلبية والحياة الطيبة.
فالنفس المطمئنة هي النفس الراضية المتزنة التي وصلت إلى أعلى مراتب النضج والكمال الإنساني، فيسودها الاستقرار النفسي والطمأنينة، وبالتالي تكون سلوكياتها التي تصدر عنها سليمة صحيحة.
وفي القرآن أنواع أخرى من النفوس، ومنها النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء، أما اللوامة فهي تلك النفس التي لا تثبت على حال واحدة، فهي كثيرة التردد والتقلب بين الذكر والغفلة، والحب والبغض، والفرح والحزن، والرضا والغضب، والطاعة والمعصية، والتقوى والفجور، إلى أضعافِ أضعاف ذلك من حالاتها وتقلباتها التي جعلتها آية من آيات الله، والتي تسترجع وتشعر بالذنب وتندم عليه كما ندما أول نفسين خلقهما الله أبوينا آدم وحواء لما أزلهما الشيطان وأكلا من الشجرة التي نهاهما الله جل وعلى عنها، فلما شعرا بالندم تضرعا إلى الغفور الرحيم.
أما النفس الأمارة بالسوء فهي النفس التي تنحرف نحو الجانب المادي وتنساق وراء الملذات الدنيوية وشهواتها وأهوائها وتؤدي بصاحبها إلى عدم النضج النفسي والاضطراب النفسي والهلاك والتهلكة، فينساق الإنسان وراء نفسه وشهواتها حيث تنحرف به عن كل القيم الأخلاقية والدينية. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول في خطبة الحاجة: “الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا”. فلقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شر النفس، فكما أن النفس قد تكون مطمئنة وقد تكون لوامة فكذلك قد تكون أمارة بالسوء، والنفس الأمارة: هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، فهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة، وهذه هي النفس التي ينبغي مجاهدتها. وما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (يوسف: 53).
وفي القرآن الكثير من سمات النفس البشرية العنيدة، والكِبْر الذي يملأ نفوس الكافرين الذين قابلوا أنبياء الله تعالى ورُسله ودعوتهم بتوحيده بالعتوِّ والنفور، فكانوا من الهالكين بعنادهم وكبرهم.
والقرآن حينما يتناول النفس وظواهرها، فإنه يجمع بين الجوهر والعرض في أغلب الحالات، فالنفس هي جوهر الإنسان، والأخلاق هي أعراضها الصادرة عنها. وتمثل السلامة النفسية الارتباط المتبادل بين النفس وأخلاقها، فالنفس محتاجة للأخلاق في تحقيق كمالها، والأخلاق محتاجة لسلامة النفس لتحققها وثباتها. يقول الله تبارك وتعالى: (مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) (سورة القلم2-4). يستشف من الآيات أن مستوى الرسول صلى اللّه عليه وسلم الخلقي مرتبط بمستوى قوته النفسية وقدرته على التحمل والثبات على سلوك منتظم محدد الغايات. فالتعقل الكامل يفرز خُلقًا عظيمًا. ويظهر التوازن النفسي النبوي في أخلاقه المعجزة كأعقل الناس وأسلمهم نفسية مكلفة بتبليغ الرسالة الخاتمة العظمى, وإرشاد الناس كافة نحو السعادة الأبدية, ونهيم عن الجحيم المقيم.
وفي آيات كثيرة وصف دقيق للنفس الإنسانية بالعَجَل وحب الجدل والضعف والهلع الذي يؤدي بصاحبه إلى اليأس ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ (المعارج:19) حالة نفسيه فطرية حيث ينتاب الإنسان الهلع في مواقف متكررة، وتضيف الآيات التالية سمات أخرى للإنسان في حالات الشدة واليسر حين يمسه الشر أو الخير ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج:21*22) ثم تعرض آيات السورة استثناء من هذه القاعدة يتضمن الوقاية والعلاج لحالة الهلع ﴿إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ (سورة المعارج 22-29).
وظهر مؤخرًا مصطلح اضطراب الهلع Panic disorder، ونوبات الهلع Panic Attacks في مراجع الطب النفسي الحديث لوصف حاله مرضية غامضة تصيب نسبة كبيرة من الناس، وتقدر نسبة الإصابة بنوبات الهلع بحوالي 12% من الناس من مختلف الأعمار، وهذا يعني وجود ملايين المرضى الذين يعاني معظمهم في صمت ولا يدركون أن المشكلة تتمثل في الإصابة باضطراب نفسي قابل للعلاج بما ورد في آيات الذكر الحكيم.
وفى أحسن القصص وضع القرآن الكريم الكثير من موضوعات علم النفس ككيفية فهم نفسية الإنسان، وبواعثه التي تحرك سلوكه، فمثلاً قصة ابنَيْ آدم (عليه السلام) توضح كيف يسيطر شعور الغيرة على الإنسان حتى يقوده إلى قتل أخيه؛ حيث قادت غيرة أحدهما من الآخر تجاه القبول الإلهي لقربان أخيه دون قربانه لأنه لم يكن من المتقين بسبب ما كان في نفسه من أدران وسوءات دفعته لارتكاب أول جريمة قتل في البشرية وأصبح من الخاسرين.
ونفس مشاعر الغيرة قادت أخوة يوسف (عليه السلام) إلى ارتكاب جريمة إلقائه في الجب، وفى نفس السورة يبين القرآن تناقض المشاعر لدى النساء، مثل الحب المبالغ فيه والذي يقود إلى كراهية شديدة لو لم تجد المرأة استجابة له من الرجل الذي تحب، فادعت امرأة العزيز على يوسف “عليه السلام” وقادته إلى السجن بضع سنين لرفضه الاستجابة لرغباتها المشؤومة. ومع كل ما ابتلى به يوسف عليه السلام، فإن أباه يعقوب عليه السلام يضرب أروع الأمثلة في التفاؤل وعدم اليأس الذى اعتبره القرآن كفر بالله تعالى، فقال مخاطبًا أبناءه ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف:87).
من كل ما سبق ومن منطلق اهتمام القرآن بالنفس وحثّه في كثير من آياته على إسعاف المرضى والسفهاء، وبيانه كيفية تصريف أموالهم والإحسان إليهم، انطلق الطب النفسي أو علم النفس العربي، وجاء مترجمًا وشارحًا للآيات والأحاديث النبوية الخاصة بالنفس البشرية وأمراضها وعلاجها -ربما نعرض لها في مقال قادم إن شاء الله-، وأصبح الحكماء والمفكرون والأطباء العرب يعملون وفق نظريات شاملة، وخاصة النظريات النفسية الجسمية “Psychosomatic”.