لولاهم لأصبحت الحياة على الأرض غير ممكنة، ولما استمرت في نقاء وتوازن بناء؛ إذ يُنظفون البيئة تنظيفًا طبيعيًّا، كما يُصلحون ما تفسده أيدي بعض البشر.
للبكتيريا والفطريات، دور رئيس في النظافة الطبيعية على الأرض. فإنها تحلل الأجسام والنباتات الميتة على مدار الحقب، كما تقوم أنواع من البكتيريا بمعالجة المخلفات الحيوانية، والمكافحة البيولوجية. ولها إسهام كبير في دورات العناصر الطبيعية كدورة الكربون، والكبريت، والنيتروجين. وعبر قيامها باختزال النترات وإنتاج أكاسيد النيتروجين، تُسهم مجموعة من الكائنات الدقيقة -كالسودوموناس (Pseudomonas)، والعُصَيّات (Bacillus)، وكورني باكتريم (Cornybacterium)- في تحطيم جزئيات الأوزون، وتحويلها إلى أكسجين في طبقة الهواء القريبة من الأرض. وهناك أصناف من البكتيريا تعمل كمنظّفات عضوية صديقة للبيئة، حيث تقوم خلال عملية التمثيل (الآيض البكتيري)، بمعالجة المواد العضوية في القمامة، وتحليل الأوساخ، والغبار، والدم، والبول، والروائح الكريهة، كما تبرع الخنازير، والفئران، والقطط، والكلاب، في تنظيف البيئة من القمامة المتراكمة، وموادها العضوية.
وتعمل الأشعة فوق البنفسجية الصادرة من الشمس، على تطهير الجو، والملابس، والمفروشات، من الميكروبات وقشور الجلد وغيرها. كما تقوم الكائنات النباتية (وحيدة، وعديدة الخلايا، وطحالب، ونباتات راقية) في الغابات وغيرها من المسطحات الخضراء بعملية البناء الضوئي، فتنظف الجو من غاز ثاني أكسيد الكربون. وفي وجود طاقة من الشمس واليخضور (الكلورفيل)، تنتج المواد العضوية الأساسية، كما تقوم بإمداد الكون بالأكسجين اللازم لاستمرارية الحياة.وكجزء هام من دورة المياه على سطح الأرض، تقوم الأمطار بتنظيف الهواء من الكم الكبير من الملوثات التي تعلق به. وشتان ما بين صفاء ونقاء الهواء قبل وبعد سقوط المطر، مما يجعله صالحًا لتنفس المخلوقات.
منظفو الماء
تم التعرف على نحو 200 مجموعة من الأحياء المجهرية (بكتريا، وبعض الفطريات والخمائر)، تتغذى أو تؤكسد المواد الهيدروكربونية الموجودة في البقع النفطية. ويمكن تدجين هذه الأحياء الدقيقة في المختبرات، لاستخدامها (التجاري) في معالجة البقع النفطية. ومن أمثلة البكتيريا: السودوموناس، وكوريني باكتريا، وأرثرو بكتريا. كما تقوم البكتريا بمعالجة المياه العادمة، والتخلص من بعض الملوثات السامة الثقيلة.
ويفرز فطر المايسيلوم، أنزيمات وأحماض تُكسّر الليجنين والسليولوز، الممثلين لأهم كتلتين بنائيتين في الألياف النباتية، والمتماثلة في تركيبها البنائي مع العديد من الملوثات العضوية الأروماتية، مثل بعض المبيدات الحشرية. وتقوم عملية “الترشيح الفطري” باستخدام المايسيليوم، بتنقية النفايات السامة والجراثيم من المياه في التربة. ويتم عبر المعالجات الفطرية، تحديد الأصناف الفطرية لاستهداف ملوثات بعينها. وهناك استفادة من بعض السلالات في تحلل غازات الأعصاب (في إكس) وغاز السارين.
وتعتبر الهائمات النباتية (وحيدة، وعديدة الخلايا)، من منظفات المياه من غاز ثاني أكسيد الكربون في تمثيلها الضوئي. أما الهائمات الحيوانية، فتنظف المياه من السموم الميكروبية، والنباتات والحيوانات النافقة، والمواد العضوية (تحليل البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون)، فضلاً عن تحطيم المواد غير العضوية صعبة التحلل، مثل اللجنين، والشيتين، والسليلوز، وقد تتوقف الحياة بالمياه، إذا ماتت هذه الهائمات النباتية والحيوانية. وعندما يقلّ نشاطها لكثرة الملوثات، فإن المياه تكون غير مأمونة، ولا تعود لطبيعتها إلا بتشجيع هذه الهائمات للقيام بدورها كمنظفات بيئة مائية.
وهناك ما لا يقلّ عن خمسين نوعًا من أعشاب المياه العذبة؛ منها الطافية دون جذوع للتثبيت كورد النيل، ياسنت الماء، وعدس، وخس الماء.. أو الطافية ذات جذور في القاع كالبشنين، واللوتس، وأنواع من البوتاموجبتون.. أو المغمورة كنخشوش الحوت.. أو نباتات المستنقعات القصبية كالبوص، وأبو رغبة.. تقوم هذه الأعشاب بامتصاص عناصر ثقيلة تعجز بقية الكائنات عن تنظيفها، وباختزال النترات (يشاركها مجموعة من ميكروبات الماء). كما تعمل أعشاب المياه العذبة ككناسة ومرشح لمركبات غير عضوية وبعض المركبات العضوية، ليكون الماء أكثر أمنًا.
وفي مياه البحار، توجد أنواع من الطحالب، والقشريات، والجوفمعويات، والرخويات، والأسماك، وخراف أو أبقار البحر التي تعمل -جميعها- على تنظيف وتنقية المياه المالحة. وتعتبر الأسماك بأنواعها المتخلفة، من أهم منظفات البيئة المائية. فما إن تطأ بقايا حيوانية أو قمامة أو روث، إلا وتسهم -مع كائنات أخرى- في عملية التنظيف والتطهير. لذا يتراكم تركيز عدد من الملوثات في أجسامها بما يفوق وجودها في الماء بعشرات المرات. وهناك أسماك “رمية التغذية”، فإنها تفضل التغذية على مواد متحللة، وقواقع، ويرقات بعوض، وحشرات، وقشريات نافقة، وحشائش مائية. أما الأسماك عديمة الفكوك (الكناسات) كسمك الجلكا، والجريث، فتعمل في هيئة النظافة العامة، حيث تمارس عملية “قشط، وكنْس، وشفط” الأسماك، والعوالق الميتة، والديدان، والقشريات النافقة.. فتزيل المخلفات العضوية، ومن ثم تعمل على نظافة البيئة المائية، وإزالة مسببات الأمرض التي تتواجد فيها.
الحشرات والزواحف
تقوم الحشرات بدور هام في تنظيف البيئة عبر تغذيتها على الفضلات، وبقايا النباتات والحيوانات النافقة. ويعمل الذباب المنزلي، وذباب الإسطبلات، وذباب اللحم، والذباب الأزرق والأحمر، والخنافس، والعنكبوت الأحمر، والكائنات الحية الدقيقة على غربلة البيئة من القمامة، وروث الحيوانات والدواجن، والمواد العضوية الأخرى. وهناك العديد من الحشرات -مثل الدَّعْسوقة وخنفساء أبي العيد- تفترس الحشرات الضارة، بالمحاصيل الزراعية. وهناك حشرات تتطفّل على أخرى ضارة، فتضع بعض الزّنابير بيضها في اليساريع التي تدمر نبات الطماطم، وحينما يفقس البيض، تتغذى الصغار بأجسام اليساريع وتلتهمها.
تفضل الثعابين -التي تضم نحو 2300 نوعًا- التغذية على القوارض، والفئران، والحمام، والعصافير، فتنظف البيئة من أعدادها المتزايدة الكبيرة. أما الكبير من الثعابين، فقادر على التهام خنزير بري كبير بأكمله. وتُسهم السحالي -تشمل نحو 2500 نوعًا- والضفادع، وعلجوم القصب العملاق، على تطهير البيئة من الحشرات والحيوانات الصغيرة. كما تعتبر التماسيح -يوجد منها نحو 20 نوعًا- من البرمائيات الشرهة. ولقد قامت مع الأسماك المتوحشة الكبيرة، والهائمات الحيوانية والنباتية، بتنظيف بحيرة “فكتوريا”، ومياه نهر النيل، من نحو خمسين ألف جثة بشرية ألقيت فيها.
ومن الطيور نشاهد الخفاش، والحدأة، والبوم، والرخمة المصرية، وصقور الفئران، والنسر الفحام الكبير، وصقر شاهين، والبلاشون، وطيور أبو منجل، ونقارات الخشب، وأبو قردان، وأبو فصداة، والهدهد، والكروان، الوروار، وعصفور النيل، وفرس النبي، وطيور مهاجرة.. فتتشارك جميعها في تنظيف البيئة من الطيور المريضة والضعيفة والنافقة، وكذلك من الفئران، والضفادع، والثعابين، والحشرات، والديدان، والآفات الزراعية.
الضواري من الأسود والفهود
لم تسبب الحيوانات الضارية (الأسود، والنمور، والفهود، والثعالب، والذئاب، والضباع، وابن آوى، وابن عرس) انقراضًا لأي من الأحياء التي تفترسها، إذ إنها لا تفترس إلا عند الشعور بالجوع وبقدر محسوب.كما لا تقتات -غالبًا- على الضعيف والمريض والنافق والصغير من الفرائس. ولكن في أوقات الجفاف، تضطر الأسود البرية (ليست من آكلات الجيف) لتناول جثث الحيوانات النافقة، وما تبقى من غذاء الضواري الأخرى كالنمور والفهود. مما يجعلها تسهم بشكل إضافي في تنظيف البيئة، إلى جانب الضباع منافسها الرئيس. وتعتبر الأخيرة من أهم الضواري -بجانب سباع الطيور كالنسور، والصقور، والبوم- التي تأكل بقايا الحيوانات النافقة، والمخلفات الأخرى، فتترك البيئة متنوعة ومتوازنة ونظيفة منها ومن القوارض والفئران والأرانب البرية والطيور المريضة. ويمكن للضباع ابتلاع 14 كيلوجرامًا من اللحم دفعة واحدة. وعندما تهاجم الضباع فريسة سهلة -كالحمار الوحشي- فإنها تلتهمه بشراهة خلال ربع ساعة فقط. وإن تبقى شيء من الفريسة، فتدفنها بمكان آمن ثم تعود إليها عندما تجوع. ولعلها بذلك تُعد من أهم منظفات البيئة الطبيعية.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.