قديمًا كانت المرأة تهتف بالرجل وهو تحت ظلال السيوف، فتهبه عزيمة متجددة لا تلين ولا تنثني، ويعاود الكر والهجوم، فلا يهدأ حتى يظفر بالنصر، ومثل ذلك ما فعلت ابنتا ( الفند الزماني ) يوم انتصاف قبيلة ( بكر ) من قبيلة ( تغلب ) ، فقد اشتجرت الأسنة، وظهرت ( تغلب ) كالمنتصرة، وبدأت ( بكر ) تنكشف وتفر، وهناك حسرت الفتاتان البكريتان خماريهما، ونفذتا بين صفوف قومهما، وأخذتا تثيران نفوس القوم بما تنشدان، وكان مطلع قولهما :
وغى وغى وغى وغى حــر الحــرار والتـظـــــى
وملئــت منه الربــــــى يا حبذا المحلقون بالضحى
وأقبلت من ورائهما ( كرمة بنت ضلع)، فتغنت بما يحيل الجبان المستطار شجاعًا صنديدًا، وشهابًا ثاقبًا، وكان مما تغنت به:
نحن بنـــات طــارق نمشي على النمارق
مشي القطي البــارق المسك في المفــارق
والدر في المخــــانق إن تقبلـــوا نعــــانق
أو تدبـروا نفـــــارق فراق غيــــر وامــق
عرس المولي طـالق والعار منـــه لاحــق
فلم يلبث القوم أن تدافعوا وراءهن كالسيول المنجرفة على أعدائهم، فاقتحموا صفوفهم، ودكوا معاقلهم، فلم ينتهي الأمر حتى كانت (تغلب) بين قتيل وأسير وشريد.
ومن الطريف الرائع أن المرأة العربية القديمة لها سليلات وبنات من جنسها ورثن هذه الملكة، وعبرن عن مشاعرهن تجاه الوطن خير تعبير، فبين نجوم شعراء العصر الحديث تسطع أضواء شاعرات مجيدات تغنين بالوطن، وشاركن الرجال في التعبير عن الأحداث، ولم يقفن بمعزل عنه في قضاياه العامة، بل انفعلن وعبرن تعبيرًا صادقا عن كل ما يؤلم هذه الأمة الواحدة، سواء كن –أي الشاعرات– في مصر أو الشام أو العراق أو شبه الجزيرة أو في الأردن، وغيرها من البلاد العربية، فالآلام واحدة، والآمال مشتركة، وهذا هو أكبر دليل على أن المرأة العربية لا تقل وطنية عن أخيها العربي، فهي التي صنعته من قبل، وأعدته لحياة كفاح وجهاد، وكان بطنها من قبل له وعاء، فكيف لا ترضعه رحيق الوطنية؟ وهي وريثة وسليلة الشرف والبطولة عن أجدادها .ومن ثم نقدم نماذج مثالية وموجزة –هي غيض من فيض– لتلك المشاعر الوطنية العملاقة عند بعض الشاعرات المحدثات.
فهذه هي الشاعرة الفلسطينية المبدعة (فدوى طوقان)، تستشعر مأساة فلسطين استشعارا يفوق كل المشاعر، وإحساسًا يغلب كل إحساس ، وكيف لا ؟ وهي التي شهدت قصة الاغتصاب الدنيء، فذابت الابتسامة الحلوة على شفتيها وتوارت البسمة وراء حجاب الحزن، وأبت أن تبتسم حتى تعود السليبة فلسطين، فتقول في قصيدة لها بعنوان (نداء الأرض) من ديوانها (وجدتها) :
سأرجع لابد من عودتــي سأرجع مهما بـدت محنتــي
وقصة عاري بغير نهايـة سأنهي بنفسي هذه الروايــة
فلابد لابـد مـن عودتـــي وظل المشـرد عــن أرضــه
يتمتــم لابد من عودتـــي وقد أطرق الرأس في خيمـة
وأقفل روحًا على ظلمتـه وأغلــق صدرًا على نقمتــه
وقصة الوطن السليب تظل تؤرق عيونها، وتلهب شعرها ثورة عارمة، فتقول بعنوان : ( مع لاجئة في العيد ) من ديوانها : (وحدي مع الأيام) :
أترى ذكرت مباهج الأعياد في (يافا) الجميلة
أهفــت بقلبــك ذكريـات العيـــد أيـــام الطفولـة
إذ أنت كالعــــون تنطلقيــن فـــي زهــو غريـر
والعقدة الحمراء قد رنت على الرأس الصغيــر
والشعر منسدل على الكتفين محلول الجديلــــة
وهكذا تمضي فدوى الشاعرة الأصيلة، في نغمها الحزين، وصورة وطنها الحبيب لا تفارقها لحظة، وهذا هو السر الكامن وراء دموعها الهادرة المتواصلة .
وها هي الشاعرة السورية الدكتورة (طلعت الرفاعي) التي ترى ألم البلاد العربية كله ألما واحدًا، وآمالها جميعًا أمالاً مشتركة، فتقول :
لو كنت تعلم ما رأيت عذرتني وكففت عني يا صديـــق ملامــا
إني رأيت الشمس قد اتخـــــذت على أرضي لها بدل السماء مقاما
والنيل بين الغوطتين رأيتـــــه يجــري فيمــــلأ قلبهــا أنغاما
ومواكب الشهداء قد أبصرتها في المهرجان ترقص الأعلاما
إني رأيت الشام مصر فضمني بين الجني ورأيــت مصــر الشاما
لكنني والنور يخطـف مقلتــي والأرض أجت بالشروق ضراما
روعت لما (قاسيون) بطــوده ترك السهــول وعانـق الأهرامــا
أنا لم أنم هــي يقظــة علويـــة فيها كشفت عــن الغمـــام غمامـا
والشاعرة المصرية (جليلة رضا) لها قصائد وطنية تقولها في كل مناسبة، بل لا تكاد تنسى مناسبة وطنية، حتى إنها لتخاطب آخر جندي هارب من جنود المعتدين في بورسعيد :
لا تنظر خلفك يا أحمق لا تنظــر نحـــو الأنـــوار
يا آخر جندي يهــرب مــن بلــدي كاللــص الفــار
لا تنظــر خلفــك فالخيبــة تتبع ظلـك في إصـرار
ووراءك تاريخ يكتب (النصر) على كـل جــدار
والشعب الأسمــر قــد عانــق شلال ضيـاء زخار
وشهيــد حملــت صورتــه أم وتزغــرد بفخـــــار
ورئيسك (إيدن) تمثـال مشنــوق في كف صغار
أما ( مقبولة الحلبي) الشاعرة العراقية، فتقول في قصيدة لها بعنوان (إلى الجزائر المناضلة) :
قومي معفرة الجراح فالليل أسفر عن صباح
والنار حولك لم تـزل تنساب كالمــاء القـراح
وبنوك فوق أنوفهـــا يتراقصـون بدون راح
والشاعرة العراقية (عاتكة الخزرجى)، تقول في قصيدة رائعة بعنوان (وحدوا الصف) من ديوانها (أنفاس السحر):
وضــح الصبــح لدنيــا العـرب وتجلــى كسنــى مــن لهـب
يا بناة المجــد يا أســد الحمـــى يا كــرام الجنـد من كـل أب
علمــــــوا الأيـــــام إنـا أمـــــة تنقل الخطو على وحي نبي
تستمــد الهـــدي من قرآنـــــــه ســورًا مكتـــوبــة بالذهــب
وترى المــوت لذيــذ المجتنـــى إن دعا داعي القنا والغضـب
وحــدوا الصف ولا تنقسمــــوا وانحروا يا قوم كيد الأجنبـي
هذه صهيون من حول الحمى نصبــت أشراكها من كثـــب
إن الشاعرة العربية كانت دائمًا تهتم بقضيا أمتها، ويلهج فؤدها بإثارة همة الأمة للنهوض والعمل، وما ذكرناه هنا ما هو إلا مجرد بعض الأمثلة وإلا فالباب أوسع وأرحب من أن يجمع في مقالة قصيرة بل ربما يحتاج إلى مجلدات ضخمة تضم بين جنباتها الشاعرات العربيات ومكانتهن في التراث العربي القديم والحديث.