في أورشليم دارَ طبق الحلوى من زقاق إلى زقاق، ومن شارع إلى شارع، ومن ناصية إلى ناصية.. حتى استقر كعادته في أحضانِ شجرةِ التين. ودَفنت أنا وأصدقائي أبصارنا فيه حتى لامستْ اللذة أعماقنا، وصرنا أشد التصاقًا من البارحة، ومن اليوم الذي سبق كل بارحة قضيناها في جوار طبق الحلوى الطائر.
لو تعلمون كيف كان سُكَّره ينغمس في الروح! فقط عند رؤيته، يستوي جالسًا كجني مُزَركش الألوان مُحبب إلى العين رؤيته.. كانت حلواه تمسك بتلابيب دواخلنا من دون أن نأكله.. آه لو تعلمون كم مرة أقسمتُ لأمي، ولأم حنّا، ولأم أبراهام، أن الطبق يدور ولم تصدقنا أمهاتنا.
قالت أمي أنت مجنون ورب الكعبة، وطاردت خالتي مريم حنّا بهِراوة بلاستيكية، واكتفت أم أبراهام بقرص أذنيه في عتب ولوم.
مساء الخميس كان القمر يتراقص فوق بيوتنا، وبين الرقصة والأخرى كان يقذف نوافذنا بخيوطِ ضوء فضِّية مبهرة.. هرعتُ إلى نافذة غرفتي لأجد بصمات أصابع القمر على الزجاج، تلك اللعبة التي نتبادلها مع القمر كانت عادتنا، وضمير “نا” هنا تعود إليّ بصحبة حنّا وأبراهام؛ تعاهد ثلاثتنا على خَربشة الزجاج بأظافرنا كلما صفر مصباح قمرنا الساهر، مُعلنًا بدء الشوط الأول من لعبة “الغمّيضة” مع الأعلى.. كنا نظن أن أظافر الصغار الشقية التي تخربش الزجاج حتمًا سَتُقَشره وستقبض راحات أيدينا على النور، ثم سنصافح قمرنا هكذا يدًا بيَد، وإصبعًا بإصبع.. فهل كنا ثلاثة مجانين؟!
كان هذا وصفًا أزليًّا مُرًّا كلما مشينا التصق بنا.
في صباح الجمعة دقَّت أمي عظامي بالعصا حين شَهقت مثل المجاذيب، وتَلَعثم لساني، وقلت لها وأنا لا أمل من تكرار ما ألفظه في لهفة مجنونة: طبق، طبق حلوى، يَطير يَطير!
لكزتني في ذراعي النحيل، وصرخت في وجهي بعبارات كثيرة وغير مُنَظمة.. لم تحتفظ أذناي سوى بتلك الكلمات: مجنون.. أخبل.. أسوأ ولد في العالم.
عندما نعتتني أمي بأسوأ ولد في العالم، لم أكن أعرف هل كان عليّ أن أغضب، أم أن أذرف الدمعات ماسحًا وجهي المُبلل بعباءتها كي تضعف أو تصدقني، عندها وقبل أن أعود إليها وأُمَرّن لساني على تأدية القَسَم، نما إلى أذني عويل حنّا.. لم يمتص سمعي شيئًا، ولكن كل ما دخل حواسي كان بكاء هستيريًّا آخره عبارة “لن أخرج”، والتي كُرّرت عدة مرات في انفعال طفولي غاضب.
في ظهيرة الجمعة هرولت إلى نافذة غرفتي، وأخذت أترقب العالم من خلف الزجاج.. حينها كانت الشمس تغمز بعينيها البرتقاليتين وتضحك، تضحك حتى كادت حماسة مزاجها الحار أن تشعل كل شيء، أو هكذا بدا لي؛ لأنني كنت أسير غضبي، وجدَّتي تقول “إن الولد الغاضب تلسعه حرارة أفعاله”.
رميت ببصري إلى حيث بيت حنّا.. وجدته قابعًا منكسرًا أمام نافذته تمامًا مثلي، ينظر إليّ بعينين حمراوين كدّرتهما دموع الصباح.. لم ننبس ببنت شفة، لكن عيوننا تجاذبت أطراف الحديث.. ثم أخذت تروح وتجيء باتجاه بيت أبراهام الملتصق ببيوتنا.. حدّقنا كلانا في نافذته إلا أنه لم يكن موجودًا؛ فصديقنا معاقَب من الأمس.. لن نراه اليوم.. وغدًا “سبت النور”، وسينشغل في طقوسه الدينية مع أسرته.. وبعدها سيعاقَب تمامًا كما قالت له أمه.. وربما ستصرخ في وجهه كما فعلت أم حنّا، وربما تلكزه في كوعه، وتنعته بالأخبَل كما فعلت أمي أنا.. مَن يدري!
في ليلة الخميس، كنت أُمَرر كعادتي كل ليلة الرمالَ البيضاء من بين أصابع قدمي، وكان حنّا يضع لي خُنفسة سوداء في حفنة الرمال التي أنوي تمريرها، وأنا أراه بطرف عيني وهو يضعها، وأرسم ابتسامتي الصفراء وكأني لا أعلم، ويَلمحني أبراهام فيخطفها من حنّا دون أن يَشعر ليضعها في حفنة الرمال خاصته.. وهكذا كنا نلعب ونضحك من الأعماق حتى تؤلمنا معدتنا من شدة هذا الضحك ونُحدِث لتوّها ضجة طفولية في الشارع، توحي ببَحّة كلاب مولودة ومذعورة.
قبيل أن تسقط عباءة الليل على رؤوسنا، لَمحنا طبقًا يدور.. لم نصدق أعيننا! دعكنا جفوننا في عجلة وانفعال.. كان الطبق يدور من زقاق إلى زقاق، ومن شارع إلى شارع.. أخذ يَهبط ويرتفع في مهارةِ رواد الفضاء.. كان بمثابة حلم أو أسطورة، إلا أنه في نهاية الطيران استقر في قلب شجرة التين القديمة.
اهتزت أكتافنا وارتجفنا رغم اعتدال حرارة الجو.. اقترب أبراهام من شجرة التين، وحاول هزّها حتى يسقط طبق الحلوى، ولكن دون جدوى.. اقتربت أنا وحنّا وهززنا الشجرة مرة أخرى دون سقوط شيء.. اتفقنا على العودة إلى الديار وإخبار أهالينا بأمر الطبق الطائر.. ولكن لم يعبأ بنا أحد كالعادة.
بعد انقضاء سَبت النور، جريتُ نحو بيت أبراهام وناديته بخفاء، فأتاني وهو خائف من أن تلمحه أمه، لأنه لا يزال معاقبًا.. طلبت منه أن يذهب معي إلى شجرة التين القديمة حيث طبق الحلوى الطائر، أجابتني دقات قلبه بالرغبة واللهفة، وأجابني بريق عينيه بالحماسة، إلا أنه بعد عشر دقائق كانت خالتي أم أبراهام واقفة أمامنا، وطلبت مني العودة إلى أمي.. قرصت أبراهام في أذنه ثانية؛ فاحمرّ وجهه وبكى، ثم صفَقت الباب خلفها بشدة.
أخذتني خطواتي إلى حيث طبق الحلوى.. وجدت حنّا واقفًا بذهول أمام شجرة التين؛ مُحرّكًا يديه كمَن هو تحت تأثير التنويم المغناطيسي.. وأخذ يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال.. كان يحدّق في الطبق.. أخذ الطبق يدور أسفل الشجرة وفوقها على الأغصان وفوق الثمار.. هناك على الأرصفة كان يتأرجح بخفة قوة خارقة، وكانت أبداننا وأرواحنا تتأرجح معه في انسيابية مُحَببة إلينا.
تبادرت إلى ذهننا عين الفكرة التي قلناها لبعضنا بالأعين والنظرات، مفادها أن يحمل أحدنا الآخر ليحصل هذا الآخر على طبق الحلوى المستقر في قلب الشجرة ونمسك به، ثم نثبت لأورشليم وأهلها بأننا لسنا مجانين.. ومن ثم سأثبت أنا شخصيًا لأمي بأني لست أسوأ ولد في العالم.
حمَلَني حنّا وصعدت فوق كتفيه، فشعرت بإبَر وأشواك أسفل قدمي؛ قلتُ له أنْ يُكثر من تناول الطعام حتى يسمن قليلاً، تأفف وصرخ من الأسفل قائلاً: لا وقت للمسْخَرة.
رفعت رأسي فرأيت الطبق الطائر.. وحينما حاولت الإمساك به صرخ حنّا وسقط على الأرض، فوجدت نفسي مطروحًا على الأرض أنا أيضًا.. التَفّ الجيران حولنا بسبب الصرخات التي تجلجلت في أرجاء الشارع.. حملنا الناس إلى بيوتنا، وعوقب حنّا بعدم الخروج أبدًا، وعوقبت أنا بالخصام والصراخ في وجهي.. عندها انتشرت الأقاويل والإشاعات في البلدة، التي وصمتْ أبراهام وحنّا كذبًا بأنهما يدعيان رؤية أشياء لا أصل لها؛ لذا عاقبهما الله بأن كُسرت قدَم حنّا، وأَحرقت إحدى شمعات السبت يد أبراهام اليمنى.. وكنت أنا في منأى عن هذة الأقاويل والتهم لسبب واحد وهو أنني لم أتأذّ بشكل ملموس كصديقَيّ الحبيبين.
شعرت كأن خنجرًا غُرس في قلبي، وأني مريض الروح.. لاحظتْ أمي نحولي وشحوبي وعزوفي عن الطعام، وكلما نطقتُ حرفًا عن حنّا وأبراهام، أو عن شجرة التين القديمة وطبقها الطائر، عنّفتني ونعتَتْني بالخبَل، ثم حذّرتني من أن يقول الناس عنيّ كما يقولون عن صديقيّ، بل أخافتْني من أن يغضب الله عليّ، وتنكسر ساقي أو يُقطَع لساني الذي يتفوه بالكذبات الكبيرة.
ذات يوم استيقظتُ على أصوات وضجيج لأهل البلدة، يشتمون صديقيّ ويصفونهم بالكاذبين.. أحسست نارًا بداخلي، فورًا قررت أن أفعل الآتي؛ للمرة الثانية أخذتني خطواتي إلى شجرة التين، حاولت أن أتسلقها وحدي، سقطت عشرات المرات، وجُرِحَت ساقي اليمنى، وأهدتني الأرض خدشًا في ذراعي أخذ يقطر دمًا، إلا أنني لم أيأس، تسلقت شجرة التين، واقتربت كثيرًا من طبق الحلوى، قبضت عليه وأمسكته بين أصابعي، ونظرت إليه فوجدت حلواه عجيبة مدهشة تبدو كأزرار ذهبية وجواهر ولآلئ، إلا إنها حلوى! وعندما حاولت أخذ الطبق معي إلى المنزل، اختفتْ الحلوى كلها مرة واحدة!
ويتحول الطبق بقدرة قادر طبقًا خاويًا، وكلما وضعته في قلب الشجرة عادت إليه حلواه كما كانت بكامل غرابتها، أما إذا حاولت اصطحابه برفقتي، اختفت الحلوى و كأنها لم تكن!
استمر الحال هكذا ساعات طويلة.. لم أكن أعرف ماذا أفعل؟ في تلك الحالة لن يُصدّقني الناس ولن أنجح في إثبات براءة رفيقيّ، إذا لم أرهم الطبق.
شعرت بضيق في صدري، وحيرة في عقلي.. تألمت وبَكيت.. وأصبح لنَحيبي صوت كصوت أمي عند ولادتها لأخي الأصغر.. وصلتُ لأقصى درجات اليأس.. وعندما رفعت رأسي إلى الطبق، وجدت فيه ورقة صغيرة، بها رسالة تقول:
قبل أن تأكلني.. أعطني أسنانك!
فتحت عيني في دهشة بالغة، لم أفهم ماذا تعني تلك السطور؟
وكيف يعطي أحدهم أسنانه لطبَق، حتى وإن كان طبقًا طائرًا؟!
بعد أن قرأت الرسالة وطويتها، ظهرت الحلوى وظهر معها ورقة صغيرة تقول:
عندما تأكلني، تسقط أسنانك، وعندما تسقط أسنانك، تراني!
فورًا سارعت إلى قضم أول قطعة من الحلوى.. عندها سقطت سني الأولى في الطبق من تلقاء نفسها، شعرت بالهلع والدهشة، إذ لم أشعر بأي ألم، لكنها سقطت ولا أعلم متى ستعود.
عندئذ فهمت اللعبة، تلك الشبيهة بغمّيضة القمر، إلا أنها لعبة جدية؛ فإذا أردت أن تظهر لي الحلوى، ينبغي أن أخسر عددًا من أسناني، لأنه بعدد الأسنان المتساقطة ستكون عدد الحلوى الظاهرة في الطبق، والتي لن تصبح مخفية لأي أحد.. وحينها فقط سأستطيع حمل الطبق الطائر المملوء بالحلوى العجائبية والعودة به إلى أورشليم، كي يراه الناس ويتبرأ صديقيّ الحميمين.
وبدأت اللعبة بسِن واحدة وانتهت بالكثير والكثير من أسناني.. عدت إلى شارعنا وأنا أقبض على طبق الحلوى الطائر.. التفّ الناس حولي ليشهدوا براءة أبراهام وحنّا، ومن ثم أعلن حُبّي لهما بما تَبقّى من أسناني.
(*) كاتبة وأديبة مصرية.