السفارات الدبلوماسية في الحضارة الإسلامية

كان لبزوغ فجر الإسلام نقطة تحول كبيرة في تاريخ الدبلوماسية، فقد طرأ عليها تغير جذري في ميدان السفارات، شأنه في ذلك شأن سائر الميادين الأخرى من سياسية واجتماعية واقتصادية.. فأصبحت السفارات أفسح مجالاً مما كانت عليه في الجاهلية، وأهم من مجرد العلاقات التجارية المرتهنة بظروفها. فقد أصبح لها منهج يتمتع بقواعد ونظم محددة ترسمها الدولة الإسلامية في تسيير علاقاتها بغيرها من الدول. وقد نشأ هذا النظام وذلك التطور، تبعًا لنشأة الدعوة الإسلامية وتطورها، فلقد اقتضت طبيعة الرسالة أن يتخذ النبي  من السفارات وسيلة لنشر دعوته، وسبيلاً إلى تأليف القلوب، ودستورًا في علاقاته العامة في الجزيرة العربية أو مع الأمم والشعوب الأخرى.. وقد تجلت هذه الدبلوماسية الإسلامية النبوية، فيما بعث به رسول الله  من كتب، وأوفد من بعوث إلى ملوك الدول المجاورة ورؤسائها، لدعوتهم إلى الدخول في دين الله الحق؛ كسفرائه  إلى النجاشي ملك الحبشة، وكسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر. وكانت الكتب التي يحملونها، مصدرة بعبارة “السلام على من اتبع الهدى”. وكان  يمهر كتبه بخاتم لما قيل له إن الملوك لا يقرأون كتابًا إلا مختومًا، وكان عدد سفرائه خمسة عشر سفيرًا(1).
وقد سار الخلفاء الراشدون من بعده على خطاه ، إذ كانوا يرسلون الكتب والبعثات الدبلوماسية التي توالت في العصور اللاحقة، مما مثلت نماذج راقية في طريقة التواصل مع الآخرين، وخلْق جو من الاحتكاك الثقافي مع الحضارات الأخرى التي استندت إلى مبادئ إرساء دعائم ثقافة السلام بين الشعوب، التي استمدت قوتها من القرآن الكريم الذي حث على حسن التعامل مع الآخرين.

أقامت الحضارة الإسلامية علاقاتها الدولية مع الآخرين على أساس المساواة والعدل والحق، فوضعت قواعد دبلوماسية قائمة على الأخلاق والفضيلة.

لقد ألَّف المسلمون الدواوين الخاصة بالعلاقات الخارجية، واهتموا بتوسيع دائرة علاقاتهم السياسية مع الآخرين، التي اعتمدت على تبني الأسلوب الدبلوماسي في حل المشكلات مع الدول المجاورة، خاصة بعد أن ازدادت العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء، وكان من أشهرها السفارات الثلاث التي أرسلها الخليفة هارون الرشيد لشارلمان ملك الإفرنج في أعوام 801، 802، 807 للميلاد، وكذلك سفاراته للقسطنطينية، وروما، ومملكة البلغار، والهند، والصين.. وبالتالي كانت هذه السفارات أيضًا، وسيلة للتعاون والتبادل العلمي والثقافي، كسفاراتهم لإحضار علماء ومترجمين من بيزنطة، أو إرسال طبيب مسلم لمعالجة شارلمان، الأمر الذي أثرى الحضارة الإسلامية، وجعلها تحلق في أفق أرحب من الإبداع في ظل هذا الاحتكاك والتواصل مع الآخر.

حصانات السفراء

لقد تنسم المسلمون خُطا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في سياسته والسير على نهجه في حسن معاملة السفراء وإكرامهم واحترامهم، حتى إنهم قد أعفوهم من دفع الضرائب والمكوس عما يحملوه معهم من الأمتعة، على نحو ما يجري في الوقت الحاضر، “وكانوا يعرفون الحصانة الدبلوماسية للسفراء الذين يعيشون في ديار الإسلام وكأنهم في بلادهم. ويتجلى ذلك في أن قوانين الإسلام لا تطبق عليهم إلا بمقدار”(2).
وأقر الإسلام للسفراء حصانات أو امتيازت ثلاثة؛ هي الحصانة الشخصية، والحصانة المالية، والحصانة القضائية، ولا خلاف بين الفقهاء فيما يخص الحصانتين الشخصية والمالية للسفير. أما الحصانة القضائية فنشأ فيها خلاف؛ “فهناك فقهاء قرروا مسؤولية المستأمن، والسفير السياسي مدنيًّا وجنائيًّا عما يرتكبانه من أعمال في بلاد الإسلام، لأن المستأمن ملزم بإحكام الشريعة بطلبه الأمان والإقامة في دار الإسلام، فيعاقب وفقًا للفساد، ودفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين ولو مؤقتًا”(3). ولم يقتصر الأمر عند السفراء، بل امتد الأمر إلى رعايا هذه الدول، ممن يقيمون داخل الأراضي المسلمة، وأنه خلال العصر العباسي، ونتيجة لنشاط حركة الدبلوماسية الإسلامية “تم تطبيق مبدأ المقابلة بالمثل، فكانت معاملتهم للأجانب تنطلق من معاملة هؤلاء لرعايا الدولة العباسية، فإذا قامت الدولة الأجنبية بإعفاء رعايا الدولة العباسية من الرسوم، أو فرضت عليهم رسومًا أخرى، أو منحتهم مزايا، فإن رعايا تلك الدولة يعاملون بذات المعاملة. وكان من نتيجة التطور الدبلوماسي، أن نصت العديد من المعاهدات التجارية المعقودة بين الدولة العباسية والدول الأخرى على مبدأ المقابلة بالمثل”(4).

استقبال السفراء

لقد كان الخلفاء المسلمون يستقبلون السفراء على النحو الذي يجري اليوم، ويجعلونهم موضع احترامهم وتقديرهم من اللحظة التي تطأ أرجلهم ديار الإسلام حتى مغادرتهم. كانوا يخصون السفير ومرافقوه باستقبال حافل على الحدود حتى العاصمة، حيث يجد السفير بانتظاره شخصية سامية، وينزل ومرافقيه في قصر الضيافة. وقد جرت العادة أن يستقبل السفير من قِبل وزير مكلف بالمهمة، ويحدد معه موعدًا لمقابلة الخليفة، وعندما يحظى بمقابلة أمير المؤمنين، يقدم له كتاب سيده رئيس دولته، ومن ثم الهدايا التي يحملها معه.
وتقص علينا الكتب التاريخية مراسم استقبال أحد الخلفاء العباسيين لسفراء قيصر الروم في سنة 305 هـ، فتقول: “قدم رسل ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئت لهم العساكر المصفوفون حينئذ مئة وستين ألفًا ما بين راكب وواقف، ووقف الغلمان ذوو الزينة الحجرية والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك، وهم حينئذ سبعمائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألفًا وخمسمائة ستر من أعظم الديباج المذهب، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفًا، وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشر غصنًا، وعلى الأغصان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، والأغصان تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفِّر بحركات مرتبة.. وشاهد الرسل من العظمة ما يطول شرحه، وأحضروا بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامهم إلى الخليفة، ويرد الجواب على الخليفة”(5).

أزياء السفراء

كان للرسل والسفراء ملابس خاصة، أو زي رسمي يرتديه السفراء المسلمون حين مقابلتهم رؤساء الدول الأجنبية. فقد ظهر “نصر بن الأزهر” الذي أرسله الخليفة العباسي “المتوكل” إلى القسطنطينية عام 861م بالزي الرسمي العباسي الأسود متمنطقًا سيفًا وخنجرًا”(6). وهناك تشابه بين الزي الذي يرتديه سفراء هذا العصر مثل السموكن، وزي السفراء العباسيين من حيث طغيان اللون الأسود والتمنطق بسيف مرصع بالجواهر في المناسبات الكبرى، أو حين تقديم أوراق الاعتماد لدى بعض السفراء.
وفي النهاية نقول، إن الحضارة الإسلامية قدمت الكثير في مجال العلاقات الدبلوماسية، وأن ذلك يرجع في المقام الأول إلى العقيدة الإسلامية السمحاء التي جمعت بين الدين والدنيا، والتي لم تستخدم الدين كأداة للدنيا.. فالسياسة أخلاق بالنسبة إليها، فقامت علاقاتها الدولية مع الآخرين على أساس المساواة والعدل والحق، فوضعت بذلك قواعد دبلوماسية قائمة على الأخلاق والفضيلة، قادت العالم إلى تنسم خطاها والسير على نهجها.

(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) السفارات النبوية، لسعيد زايد، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد:311.
(2) شريعة الحرب في الإسلام، لمحمد المعراوي، المطبعة الهاشمية، دمشق، عام 1956، ص:316.
(3) كتاب الخراج، للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، الناشر المطبعة السلفية في مصر، الطبعة الثالثة، ص:179.
(4) العلاقات الدبلوماسية إرث العصر العباسي، لعبد المنعم عبدالعظيم، جريدة العرب، العدد:9844.
(5) حضارة العرب، للدكتور غوستاف لوبون، تعريب محمد عادل زعيتر، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، عام 1945م، ص:193-194.
(6) العلاقات الدبلوماسية، إرث العصر العباسي، عبد المنعم عبد العظيم، جريدة العرب اللندنية، العدد:9844.