فكرةٌ نزلت -مثل قطرة ماءٍ- على سفوح عقلي العطشَى، فغمرتها سُقيًا وريًّا، واهتزَّت لها تربة قلبي الجذب، فربَت وأنبتت ما كان مِن قبلُ عدمًا في عالم الملكوت؛ ليصير بعد حين حقيقة ماثلة، وجوهرًا حاضرًا.
أن أتجوَّل شوارع المدينة باحثًا عن “سبب كلِّ شيء”، لأربط بحبل مِن علاقة بين الأسباب ومسبباتها، فحملتُ زادي، ومشيت بعيدًا.. بعيدًا.. إلى أن وصلت.
دخلتُ من الباب الشرقي للمدينة، فيمَّمت وجهي نحو حافلةٍ في محطة وركبتُها، ثم سألت السائق بهدوء: مَن صنع هذه القطعة المتحرِّكة من الحديد؟
فأجاب باختصار وقال: لا أعرفه، ولكن أعرف أنَّه عالم مبدِع في الميكانيكا، وفي فيزياء المواد والحركة.
ثم قصدتُ ناطحة سحابٍ تقع وسط البلد مثل عروس ممشوقة القامة والقوام، وسألت بوابها: من صانع هذا الجبل المشذَّب من كلِّ جانب، الشامخ الفاره؟
فقال: لا أعرفه، ولكن أعرف يقينًا، هو صاحب علم غزير في الهندسة وفي قوانين الفيزياء.
غادرت المدينة، وقد سألت أكثر من فيها عن أكثر ما فيها.. سألتُ عن الشوارع، وعن البنوك، ومحلات البيع، والمصانع، والأنفاق.. وكان الجواب هو نفسه كلَّ مرة: لا أعرف، ولكن هو.
غادرت المدينة، وغبتُ عنها ألف عامٍ كاملة، ثم عدت على قدَر لأستكمل مهمَّة البحث مرَّة أخرى؛ فسألتُ عن الحافلة، والعمارة، والمصنع، والنفق.. وغيرها.
لم أجد الحافلة، ولا حتى ما يشبهها، كلُّ شيء قد تغير وتبدَّل، قلبًا وقالبًا، شكلاً ومضمونًا؛ أمَّا وظيفة الانتقال مِن مكان إلى مكان، فقد بقيت هي هي.. وأمَّا وسائل الانتقال، فلا شيء منها بقي على حاله.. كما كان قبل ألف عام.
وبحثت عن العمارة، فقلتُ: لعلَّها تختلف عن الحافلة كونها لا تغادر المكان؛ إلا أنني لم أجدها، لا هي ولا المكان. فلم أهتد إلى موضعها السابق؛ مَن يدر لعلها صارت تتحرك مثل وسائل النقل؟ فخاب ظني في الاهتداء إلى ذات الناطحة؛ لكنَّ وظيفة السكن، وإيواء الناس إلى بيوتهم، بقيت هي هي، كما عهدتـُها منذ ألف عام.. لم تتبدَّل ولم تتغير.
فجأةً، تذكَّرتُ أني في زيارتي الأولى، قبل ألف عام، كنتُ قد التقيت بطفلٍ يافعٍ في الخامسة من عمره، يلعب في حديقة غنَّاء مع أترابه، كأنهم الحمام حول الأيك؛ فسألته: عن اسمه، وعائلته، وأحاسيسه، وبعضِ قناعاته ودعاباته.. فأجابني بذكاء فائق، وبلاغة غير معهودة.
قلت وقد عدتُ: لعلِّي أجد هذا الطفل، ولعلَّه مثل فتية الكهف، لم يمرَّ عليه نهر الزمن، فلم يشِخ ولم يـمُت.. لكنَّني لم أجد ذات الحديقة، فقصدتُ أقرب حديقة مني، وإذا فيها ثلَّة من الأطفال يلعبون ويمرحون، يضحكون ويبكون.. قلتُ في نفسي: لم يتغيَّر اللعب ولا المرح، ولا الضحك ولا البكاء.
ثم بحثت عن ذلك الطفل الذي لم تغادر صورته مخيِّلتي رغم طول الوقت.. فلم ألفِه بينهم بلحمه وعظمه، لكنَّ جميع الأطفال كانوا شبهًا له، لا شيء تغيَّر فيهم: فلا رأس أكبر من العنق، ولا يد غيرت مكانها، ولا عينَ حوَّرت وظيفتها.
ثم سافرتُ ثانية، وغبت الغيبة الطويلة.. ابتعدت فيها عن جغرافية الأرض، وعن محيط بني البشر.. وعدت مرَّة أخرى بعد مليون عام، فكانت النتيجة نفسها: عالـَم الأشياء كلُّه تطوَّر، وعالـَم الإنسان صمَد على شكله وصورته.
الجسم، والقوام، والنبرات، والملامح هي هي.. كذا الأعراض، والعواطف، والملامح، ونوازع الحبِّ والبغض، والخير والشر.. جميعُها هي هي.. لا شيء طرأ عليها.
سألت حائرًا نفسي مرَّات ومرَّات، عن الفرق بين الحافلة والعمارة والطفل؟
ما الذي جعل الأوليَان يتغيَّران، وجعل الثالثَ يصمُد؟
هل يمكن للعقل وحده أن يفسِّر هذا الفارق بعلم يقين؟
وهل ثمة أدلة مقنعة على ذلك؟
للجواب على السؤال، اهتديتُ إلى ثلاث عبارات، جمعتها في عبارة واحدة، جاء فيها:
“الله والحرية لا ينفصلان.. فإذا سلَّمنا بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله، إما ضمنًا أو صراحة.. والله وحده هو القادر أن يخلق مخلوقًا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق” (سبنسر، وبيجوفيتش).
ثم أحسست بصوت ينبعث من عالمي الجواني، وأنا أقرأ لعلي عزت قوله: “إنَّ الله لا ينتِج ولا يشيِّد، إنَّ الله يخلق”.
رحتُ أستعرض جملة من الأسئلة تكملة للفهم: ألم تكن الحرية فارقًا بين آدم عليه السلام قبل الامتحان، وأبينا آدم عليه السلام بعد الامتحان؟
أولم تكن فرقًا جوهريًّا بينه وبين الملائكة حين أُسجِدوا له؟
ألم يعترضوا على ذات الحرية التي قد تحمله على الإفساد في الأرض وسفك الدماء؟
أليست الحرية هي الحدُّ الفاصل بين “الإلهي” و”الإنساني”؟
وهل يمكن لإنسان أن يصنع شيئًا (ماكينة، عمارة، آلة) أو أي شيء آخر، له حرية الاختيار؟
حافلة مدينتنا، ليس لها الحرية في أن تسير أو تتعطَّل، وليس لها الحرية أن تختار مَن تحمل ومن لا تحمل، ولا أن تتمرَّد أو تحتج على مالكها.. والعمارة كذلك، لا حرية لها في قبول السكَّان أو رفضهم، في أن تكون هنا أو هنالك، في أن تؤدي مهمتها أو تضرب عنها.
لذلك فقط تتهالك الحافلة، وتتقادم العمارة، شكلاً ومضمونًا.. إنها لا تحمل وجهًا ميمَّمًا شطر السماء؛ هي أرضية بكلِّ ما فيها.
أمَّا بني الإنسان (الطفلُ هنا) فهو يختار في كلِّ شيء، وقد مُنحت له الحرية:
أن يقول: نعم، أو يقول: لا.
أن يتقدم أو يتأخر،
أن يطيع أو يعصي،
أن ينشط أو يحرن،
أن ينساق أو يتمرد..
هو حرٌّ؛ وحريته نفَس ربَّاني فيه، نزل عليه من السماء (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا). حرية الإنسان ليست مكونًا أرضيًّا ترابيًّا (مثل لحمه وعظمه).. حرية الإنسان، هي فوق التراب وأكثر من الترابي.
ولذا، فما دام الله تعالى له صفة الخلود (من ذاته سبحانه)، فهو -بفضلٍ منه- وهب الإنسان صفحة الخلود (من غيره). فالإنسان لا يختار أن يوجد أو لا يوجد، أن يولد أو لا يولد.. ولكنه حين يوجد ويولد (أي حين يـُخلق) يكون مصيره أبديًّا، دائمًا، خالدًا.. ثم قد يتمنى أن يفنى مثل باقي الحيوانات، أو مثل التراب، فلا يُسمح له بذلك؛ (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)(النبأ:40)
الفرق ظاهر في نوع الحياة التي يحياها هنالك في الشوط الثاني من وجوده؛ أي في مرحلة الخلود، والحرية، والهبة الربانية التي بدونها لا معنى للاختيار.
المدرسة (والجامعة، والدولة، والمجتمع) حين تقتل الحرية في الإنسان، هي بالضرورة تعتدي على الجانب العلويِّ فيه، تغتال أعظم هبة، وتكفر أكبر نعمة، وتظلم أقدس مظهر من مظاهر إنسانيته:
الحرية.. التي بها يتوجه نحو السماء، نحو الأبد، نحو الخلود.
والدرس العقدي إذا لم يجعل الحرية محوريًّا معرفيًّا وحقيقة وجودية، انحرف بزاوية واسعة عن مصدره (القرآن الكريم)، ومقصده (سعادة الإنسان)؛ ذلك أنَّ العقيدة والعبودية ضدَّان لا يلتقيان، فمن لم يكن موحِّدًا كان عبدًا، ومن لم يلتفت نحو السماء أخلد إلى الأرض، ومن لم يتعلق بالله تعالى حبًّا تعلق بغيره هوى، ومن لم يسجد للذي وهبه الحرية خنع لمن يسلب منه إنسانيته.
ليست مشكلة العالم اليوم -شرقِه وغربه- سوى تلك الأسطورة التي قتلت الإنسان حين اغتالت فيه حريته، واستعبدته بخبت ومكر وكيد.. وليست مشكلة البلاد الإسلامية سوى تلك الغفلة التي جعلت بعضهم يؤلَّه باسم الحاكم، أو الأمير، أو الوصي (آلهة من الحلوى)، وجعلت البعض الآخر يؤلِّه غيره باسم الحاجة، أو الجهل، أو التبعية الحزبية والأيديولجية.
(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.