لقد قضت حكمة الله تعالى أن جعل الاختلاف قديم قدم الخلق، وهو سنة كونية أبدية، وطبيعة بشرية، فمن المستحلات الثابتة جمع الناس على كلمة واحدة، يقول الحق سبحانه (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذَلكَ خَلَقَهُمْ)(هود:118-119)، ويقول أيضًا في محكم تنزيله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(البقرة: 251). فسنة الاختلاف عند الخلق دليل بالغ على كمال الخالق، ولولا سنة الاختلاف لاندثرت الخليقة، ولذلك أضحى اختلاف الناس بين مدرك واع بهذه السنة الكونية، فهو مشرف على كمال العقل البشري في أبهى حلته في فهم سنة الاختلاف، وبين مقبل على البهيمية بأشد ما تكون عليه من الغباء بالإجرام بحق كل ذي رأي مختلف. وإن هذا الصنف الأخير الذي ترعرع في الجمود والانغلاق، ونشأ على التفرد والاستبداد بالرأي والفكر، والذي يغلق أبواب عقله على مرضه، يرى رأيه الرأي المنير وقوله القول الفصل الحكيم، فجدير بنا أن نقر بأن هذا الصنف شر بلية أريدت بنا، وشر خيبة سيقت لنا، ولا غرابة إن قلت هو السبب الأعظم لتخلفنا عن ركب الأمم.
إن الاختلاف ضرورة واقعة وأمر طبيعي بين الناس لتفاوت ادراكهم وفهمهم، وطرق استدلالهم، ولا يقع عليه البتة ذم ولا تنقيص بقدر ما يقع على السلوكيات السيئة الناتجة عن عدم التخلق بآدابه.
ها نحن ذا نقدم العلاج الأمثل، والدواء المفعم في ثلاثة جرعات لفهم الاختلاف ووعيه ونبذ الخلاف وتركه: جرعة ترك الهوى، وجرعة ترك التقليد الأعمى، وجرعة نبذ التعصب، وقبل أخذ هذه الجرعات لا بد من تهييء العقل والقلب.
أولاً: الإقرار بهذا المرض إقرارًا باطنًا لا ظاهرًا، إقرارًا عمليًّا لا قولاً نفسيًّا حتى نكون أصحاب فهم دقيق ورأي بديع.
ثانيًا: أن ندرب أنفسنا على أسمى معاني الإنسانية، وترويدها على ما يتميز به البشر في العلو أو الانحطاط. وقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء”أن يونسَ الصدفي قَالَ: مَا رَأَيتُ أَعْقَلَ منَ الشافعي، نَاظَرْتُهُ يَوْما في مَسْأَلة فَلَمْ نَتَفقْ، فَلَقيَني بَعْدَهَا وَأَخَذَ بيَدي، وَقَاَل: يَا أَبَا مُوسَى أَمَا يَسْتَقيمُ أَن نَكونَ إخْوَانا وَإنْ اخْتـَلَفْنَا في مَسْأَلَة”.
وحتى نستصيغ الدواء ونتخلص من الداء، تعالوا معانا نضع قاعدة مشتركة ألا وهي: استيعاب أن الاختلاف ليس اعتداء متعمدًا أو تعبيرٌ عن قوة أعلى بل هو أمر أراده سبحانه ليؤدي وظيفته. وحتى يتأتى هذا الفهم للخروج من هذه الأزمة الفكرية المتجذرة، لا بد من نبذ ثلاثة أمور رئيسية، حيث تبين بالاستقراء والتتبع أن مرد جهل سنة الاختلاف وتعميق جرح الخلاف، وهجر ضوابطه وعدم التحلي بآدابه هو:
1- الهوى: وهو ميل النفس إلى الصنم الخفي بذواتنا، الذي نهوي إليه مكبرين مهللين كلما هممنا على اختلاف، دون الاستناد إلى مبادئ فطرية، أو دلائل عقلانية، أو تجارب علمية، بل هو وضع الذات في كفة، والحكم على المخالف في كفة، وترجيح الذات ابتداء.
2- التقليد الأعمى: وهو الظل الذي يستظل به بدوي القدوة، وإنزال الناس منزلة العصمة ومقام العظمة، فكم مرة أمكننا فهم اختلاف وفض النزاع بإقناع أو اقتناع، لكن الركون إلى الأشخاص الزائفين جعل الاختلاف ينحرف عن مساره الصحيح ليسلك طريق إمعة، ويضع السدود بين طرفين بدلاً من إعانة على المقاربة والالتحام.
3- التعصب: وهو تمركز حول الذات وهجر الموضوعية، والرد الصريح لسنة الاختلاف، وتحجير العقل واخراجه عن وظيفته الطبيعية في تناول القضايا الخلافية، ليصبح استيراده للمعرفة من قناة واحدة دون أدنى حرج، وهو من أبرز سمات وأسس هذه الأزمة الفكرية المتجذرة .
إن إدراك المعاني الحقيقية للهوى والتقليد والتعصب، ونبذها هو السبيل الموصل إلى إدراك أن الاختلاف ضرورة واقعة وأمر طبيعي بين الناس لتفاوت ادراكهم وفهمهم، وطرق استدلالهم، ولا يقع عليه البتة ذم ولا تنقيص ولا تفريق بقدر ما يقع على السلوكيات السيئة الناتجة عن عدم التخلق بآدابه، كالظلم والبغي والرد للحق وهضم للخصم.
وقد أشار بن القيم -رحمه الله- في كلام قيم، أن المخالف إذا سلم قصده لا تضر مطيته حين قال “فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزيب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسول، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الانسانية”، وكما آثَرَ الإمام مالك نفسه -رحمه الله- في موقف رفيع وقول بديع، إفساح المجال للمخالف واحترامه وذاك حين أراد الخليفة العباسي حمل الناس على الموطأ -وهو كتاب مالك وخلاصته في الحديث والفقه- فَقَالَ “لَا تَفْعَلْ يَا أَميرَ المُؤمنينَ” معتبرًا و مقررًا مبدأ الاختلاف، وأن لكل عصر ومصر علماءه وآراءه، دون أدنى محاولة لإشباع الذات، فَعَدَلَ الخليفة عن ذلك، فظهر أن الاختلاف سائغ وواقعٌ ما دام في الحدود والضوابط المشروعة، بل يكون ممدوحًا وهادفًا إذ هو مصدر من مصادر الإثراء الفكري، والغنى المعرفي، ودافعًا لتلاقح الأفكار والآراء، ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعًا لهذا الاختلاف الرحيم قال تعالى(وَشَاورَهُمْ في الأَمْر)(آل عمران:159). إذ نحن التزمنا بآدابه كالعذر بالجهل، والعذر بالاجتهاد، والرفق في التعامل، واللين في القول، ومراعاة المصالح والمفاسد عند الرد أو الإنكار.
إن قبول الاختلاف وفقهه، والتحلي بآدابه ضرورة لا محيد عنها، وواجب ملزم لمن أراد استشراف المستقبل بأمان، حيث أن فكر المخالف وآراءه منبع إلهام، وصرح لنحت الأفكار، وسبب عظيم من أسباب الازدهار، وإحياء لروح التسامح في الأمة ونبذ الكره والتباغض، وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين قاطبة. وإدراك أن الاختلاف وجهة مشروعة وجب استثمارها، أما تحجر الأذهان وصمم الآذان وإعجاب كل ذي رأي برأيه لم يبرز إلا الضعف والوهن والتشرذم.