إنه لفقه عظيم عندما يعيش الإنسان بين فقهي الأولية، والأبدية، فقه الأولية الوجودية للكون(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)(الأنبياء:30)، وللإنسان (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)(الإنسان:1)، وفقه الأبدية (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(القصص:88).
فبفقه الأولية يعرف الإنسان حقيقة نفسه، والكون الذي يعيش فيه الذي ينطق بمعجزاته الإلهية، وبفقه الأبدية يعرف قدر ربه وخالقه، وهنا تتزن الرؤية الحياتية للإنسان، فلا يتكبر على خالقه بل يطيعه ولا يعصى أوامره، ويعرف معنى الإنسانية فيعيش عمره متسامحًا مع خلقه ومع كونه، مدركًا بدايته ونهايته، سائرًا نحو هدفه وطريقه الذي خلق له..
إن أولية الوجود مسلمة آمن بها الجميع على وجه الإجمال، بمعنى أن الكل يسلم ويعترف أن هناك أولية لكل شيء في الوجود، فرقم واحد -الذي قبله العدم وهو الصفر- يعترف الجميع أنه سابق كل شيء، ولكن عند التفصيل في أولية الوجود وهو أن الوجود -ومنه الإنسان- خالقه هو الله تجد الأيدولوجيات تختلف فمنهم المؤمن بأن خالق الوجود كله الله، وأن الإنسان صنع الله كما أن الكون صنع الله، وأن إلى الله المنتهى، فمنه البداية وإليه النهاية، فمنه أولية الوجود وإليه أبدية الخلود، وهذه الفئة المؤمنة بقضية الأولية والأبدية فئة عرفت هدفها وتسعى لتحقيقه إيمانًا وعملاً في الدنيا حتى تنعم بالحياة الطيبة في الدنيا وتنعم بالحياة الطيبة في الآخرة.
وهناك طائفة أخرى تشترك مع الطائفة الأولى في الإيمان بأولية الوجود وأبدية الخلود، ولكنها تشرك مع الله غيره متوهمة أن ذلك يقربها إلى الله زلفى، مع أن الله أخبر أنه أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذه الطائفة لم -ولن- تنعم في الدنيا ولا في الآخرة إلا عندما تتخلى عن هذا الشرك؛ لأنها ستكون كالذي استهوته الشياطين حيران في الأرض، وكالذي خر من السماء فتخطفه الطير في مكان سحيق.
أما الطائفة الثانية التي لم تؤمن بأن أولية الوجود لا يملكها إلا الله، كما أن أبدية الخلود لا يملكها إلا الله فهي طائفة خالفت فطرتها وعقلها ونواميس الكون، فهي طائفة تسير عكس اتجاه الكون؛ لأن الكون كله ينطق بفطرته بوحدانية الله، ويؤمن بفقه الأولية والأبدية، فالكون -كما يقولون- قرآن صامت وما فيه ينطق بوحدانية الله، فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها، وفي كواكبها، ودورانها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها، ولا تغير في سيرها، بل تجري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر، لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها وبديعها..
وإذا نظرت إلى الأرض كيف خلقت، رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشًا ومهادًا، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم ، ووسع أكنافها، ودحاها فمدها وبسطها، وطحاها فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتًا للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتًا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء وبطنها وطن للأموات… ثم انظر إلى قطعها المتجاورات، وكيف ينزل عليها ماء واحد فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة، واللقاح واحد والأم واحدة…
وهذه الطائفة التي لم تؤمن بأولية الوجود وأبدية الخلود في وهم المادية، توافقت أقوالها وأفكارها مع الدهريين الذين قالوا، كما حكى القرآن الكريم (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(الجاثية:24)، فشقوا في الدنيا والآخرة بوهمهم وجهلهم…