في عام 1971م، لم يكن في مخيلة “مايكل هارت”، الطالب بجامعة إلينوي، أن وضعه لإعلان الاستقلال الأمريكي على حاسوب، وجعله متاحًا للجميع على شبكة متصلة من عدة حواسيب، التي أصبحت فيما بعد تُعرَف باسم “شبكة الإنترنت”، سيكون النواة الأولى لثورة جديدة من المعرفة قائمة على الكتب الإلكترونية. فقد نجحت فكرة “هارت” عندما قام ستة أشخاص من مستخدمي الشبكة آنذاك، بتنزيل النسخة الرقمية من إعلان الاستقلال الأمريكي من الشبكة. وقد كان ذلك إيذانًا بولادة مشروع أطلق عليه “هارت” لاحقًا اسم مشروع “غوتنبرغ”، وذلك تكريمًا للعالم الألماني “يوهان غوتنبرغ” الذي اخترع في القرن الخامس عشر أسلوبًا جديدًا للطباعة، وأحدث ثورة في عالم الطباعة والنشر. آمن “هارت” بضرورة توفير كل مصادر المعلومات والثقافة إلى الناس بأسلوب مقارب من الذي فعلته مطابع غوتنبرغ في منتصف الألفية الثانية، ولكن بشكل عصري يتناسب مع الأجيال الجديدة.
قام “هارت” بوضع 100 كتاب رقمي على تلك الشبكة، ووصل عدد الكتب إلى 313 كتابًا رقميًّا في عام 1987م، وذلك رغبةً منه في توسيع فكرته ليصبح هدف مشروعه هو إنشاء مكتبة إلكترونية يمكن أن تغير العالم وتشجع على القراءة وحب المعرفة.
فأهم ما يميز مشروع مكتبة غوتنبرغ الإلكترونية أنه مجاني بشكل كامل، حيث لا يطلب من المستفيدين منه دفع أي رسوم، وهو أيضًا لا يسعى للحصول على أي منح أو حقوق رعاية من مؤسسات أو أفراد. فالمجانية المطلقة هي السمة المميزة لهذا المشروع، وذلك حتى لا يتحول إلى مكتبة عادية، لذا فهو قائم فقط على أساس الجهود التطوعية. وقد بلغ عدد المتطوعين في المشروع 50 ألف شخص حتى الآن.
لا شك أن مشروع “غوتنبرغ” هو أول وأقدم مكتبة إلكترونية توفر المعلومات على الإنترنت، ويضم أكبر مجموعة فريدة من الكتب الإلكترونية، معظمها مجاني، حيث يقدم المشروع أسبوعيًّا عشرات الكتب الإلكترونية مجانًا عبر موقع إلكتروني يسمى موقع “آيبيبلو” تابع لجامعة نورث كارولينا. ومعظم الكتب التي يقدمها المشروع تتمتع بانتهاء أجل حظر نشرها طبقًا لقوانين حماية الملكية الفكرية بالولايات المتحدة، كما يقدمها بلغات متعددة. ففي إحصائية سابقة وُجد أن المشروع قد قدم 1053 كتابًا بالفرنسية، و451 كتابًا بالألمانية، و396 كتابًا بالفنلدية، و279 كتابًا بالهولندية، و155 كتابًا بالإسبانية، و114 كتابا بالإيطالية، و113 كتابًا بالبرتغالية، و54 كتابًا بلغة التغالوغ التي تتحدث بها جزر الفليبين، كما تضم المجموعة كتبًا ببعض اللغات القديمة مثل الكاتالان والفريزيان. وقد أعرب “هارت” عن توقعه بأن يحوي مشروع مكتبة غوتنبرغ الإلكترونية مليون كتاب بـ100 لغة. وقد عمل “هارت” لاحقًا على تطوير مشروعه، حيث أصبح يقدم كتبًا صوتية، وتسجيلات موسيقية، وأفلامًا سينمائية، ولوحات ورسومًا بيانية وتوضيحية، وغيرها من الأشكال الرقمية، للمعرفة والفنون، كما يعتقد بأن الكتب الإلكترونية خيار يسهم في الحفاظ على البيئة بوصفه بديلاً للكتب المطبوعة، كما أن معظم الناس قد لا تتحمل تكلفة الكتاب التقليدي حينما يتعلق الأمر باقتناء مكتبة كاملة، لذا فإن البديل هو اقتناؤها في صورة إلكترونية. فأي كتاب ينقل من الورق ليصبح ملفًّا رقميًّا يمكن نشره ونسخه ملايين المرات بدون أي تكلفة تقريبًا، كما أن الكتاب الإلكتروني لا تنفذ طبعاته من السوق أبدًا، كما يسهُل الإضافة والتعديل والحذف لمحتوى الكتاب، وهو ما يسهل من إصدار أكثر من طبعة للكتاب في فترات متقاربة لسهولة التعديل والتنقيح.
لا شك أن مشروع “غوتنبرغ” هو أول وأقدم مكتبة إلكترونية توفر المعلومات على الإنترنت، ويضم أكبر مجموعة فريدة من الكتب الإلكترونية معظمها مجانية.
إذن، هل انتهى عالم الورق؟ وهل سيختفي الكتاب الورقي التقليدي في الأيام اللاحقة؟ إن مسألة اندثار الورق باتت مسألة وقت، فمبيعات الكتب الإلكترونية، في تصاعد ينذر باختفاء الكتب المطبوعة. صحيح أن الكتاب صمد ولم يختف منذ أكثر من 500 عام، كما تتكون بين القراء والكتاب المطبوع علاقة عاطفية محسوسة مع الصفحات على عكس الكتاب الإلكتروني الذي يكون أكثر برودة، لكن طبيعة القراء تغيرت كثيرًا، فمنذ 10 أعوام فقط لم يكن أكثر المتفائلين يمكنه تصور عدد مستخدمي وسائل ومنتجات التكنولوجيا الحديثة كما هو الأمر الآن.. فالكتاب الإلكتروني أكثر مرونة في التنقل وبالتالي يوفر الوقت، إلى جانب إمكانيات متعددة مثل ضبط الخط، والوصول إلى روابط إلكترونية خارجية مختلفة من خلاله بسهولة، حتى إن الحديث عن صعوبة القراءة من شاشات الأجهزة الإلكترونية، وكونها غير مريحة للعين مثل الكتاب الورقي، قد أكدت بعض الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة لا توجد لديها مشكلة في التعاطي والقراءة من الشاشات، خاصةً مع تطور أنواع الشاشات وتقنياتها. كما أنه في الغالب يكون الكتاب الإلكتروني أرخص من نظيره الورقي، فبضغطة ذر في الشبكة العنكبوتية وبكل بساطة ويسر، يمكننا الوصول إلى ملايين الكتب والمراجع؛ كتب تقفز فوق الحواجز وتتخطى كل الحدود، ولا توقفها عراقيل المنع في الجمارك.
فاليوم لم يعد الكتاب ينتظر الإذن بالدخول لبلدٍ ما، لقد أصبح متاحًا على الشبكة للجميع. والدلائل كثيرة على أننا نسير نحو عالم رقمي بحت؛ منها أن سلسة محلات إيكيا العالمية، عملاق صناعة الأثاث المنزلي والمكاتب، قالت قبل أشهر قليلة إنها بدأت تحور رفوف المكتبات التي تنتجها، لتتلاءم مع متطلبات التقنية التخزينية الحديثة، موضحة إنها بدأت تصنع مكتبات تناسب الوضع الجديد، الذي يتطلب رفوفًا تضم أسطوانات مدمجة، وأدوات تخزين إلكترونية، وما شابه ذلك.
لقد فرض النشر الإلكتروني نفسه بقوة على المشهد الثقافي الغربي، وساعد ذلك على إطلاق منصات شهيرة، وباتت الكتب الرقمية تحتل مكانة متقدمة في قوائم الأكثر مبيعًا، أو الـ”بيست سيللر”.
مع استمرار الحداثة، فقد أصبح هناك كتّاب رقميون ينشرون كل نتاجهم الأدبي عبر الوسائط الحديثة، وقد نالوا شهرة واسعة جعلتهم في مراتب تصنيف متقدمة، منهم -على سبيل المثال- الروائية الأمريكية “أماندا هوكينج” التي ألّفت أكثر من 17 عملاً روائيًّا، و50 قصة قصيرة، وكانت دور النشر ترفض نشر أعمالها وتتجاهلها، لكنها لم تيأس وأتاها الحظ من رحم الأزمة؛ ففي أبريل من العام 2010م علمت بأن معرض لـ”جيم هينسون” لفن تحريك العرائس سيقام في شيكاغو بنهاية العام، ولأنها كانت عاشقة لهذا الفن وكانت ترغب في حضور المعرض، فكان لا بد من توفير 300 دولارًا كي تسافر إليه.. فاتخذت قرارًا كان من شأنه أن يغيّر حياتها بالكامل فيما بعد، حيث قررت نشر كتبها على منصات النشر الإلكتروني، مثل أمازون كندل، وسماش ووردز، ورغم أنها لم تكن تعقد أملاً كبيرًا على الأمر، لكنها سرعان ما باعت تسع نسخ من أول كتاب نشرته رقميًّا في يوم واحد، ثم أتبعت ذلك بكتب أخرى.. فقفزت مبيعاتها إلى أرقام قياسية، حتى انضمت أماندا إلى نادي مليونيرات النشر الإلكتروني، وتدخل قائمة أكثر الكتّاب مبيعًا على أمازون كندل. لقد أصبحت “أماندا هوكينج” ظاهرة أدبية مذهلة، ومليونيرة في فترة وجيزة بفضل النشر الإلكتروني، ونجاحها المدهش قد لفت إليها أنظار دور النشر الورقية، وكان النشر الإلكتروني بمثابة بوابة عبورها لعالم الورق، لكن النسخ الرقمية لمبيعاتها ما زالت هي الأعلى.
عربيًّا، صار هناك كتّاب رقميون أيضًا، لكنهم ما زالوا خارج دائرة الاهتمام حتى الآن، ولم ينالوا حظهم من الشهرة والتعريف بهم كما ينبغي، ربما لأن من يهاجمون الثقافة الإلكترونية هم الأعلى صوتًا الآن، كما أن الناشرين العرب الذين يتصدرون المشهد الثقافي، هم من أصحاب الكتب الورقية ويرفضون الكتب والكُتَّاب الإلكترونيين.
أعتقد أن وقتًا قصيرًا فقط سيمر حتى نتقبل الكتاب الإلكتروني بشكل كامل ونتكيف معه، لعلنا نصل ذات يوم إلى ما وصل إليه العالم الغربي الآن.. فالنشر الإلكتروني قد فرض نفسه بقوة على المشهد الثقافي الغربي، وساعد ذلك على إطلاق منصات شهيرة، مثل “أمازون” و”كيندل” وغيرهما، وباتت الكتب الرقمية تحتل مكانة متقدمة في قوائم الأكثر مبيعًا، أو الـ”بيست سيللر”.
كما أن المكتبات الإلكترونية قد أصبحت أمرًا واقعًا، وهو ما دفع عددًا من الجامعات في بعض الدول المتقدمة لترقيم مكتباتها، بالتزامن مع قيام محرك البحث العملاق “جوجل” بمشروع لترقيم ملايين الكتب، مع توفير الحماية اللازمة لهذا عن طريق مشروع جوجل للمكتبات. لكن “ما لا يدرك كله لا يترك جله”؛ فقد بدأت منذ أعوام محاولات وتجارب عربية مشابهة لمكتبة غوتنبرغ، صحيح أن عدد المؤلفات المنشورة عليها ما زالت قليلة، إلا أن الخطوة محمودة وفي طريقها للاتساع. من تلك المشاريع “مكتبة هنداوي” التي تأسست عام 2007م، ومتخصصة في نشر وترجمة الكتب والمقالات العلمية والثقافية، تعتبر من رواد النشر الإلكتروني بالعربية، وجميع ما تحويه من كتب إما انتهت حقوق ملكيتها أو أن المكتبة حصلت على حق النشر من ورثة المؤلف، على غرار اتفاقها مع أسرة “طه حسين” على نشر جميع أعماله إلكترونيًّا وإتاحتها بالمجان.. كذلك مكتبة الشرق الأوسط العربية في جامعة ييل الأمريكية، وكذلك الأرشيف الرقمي للمجلات الأدبية والثقافية لشركة صخر، الذي يعدّ أول مبادرة عربية مجانية في رقمنة المجلات العربية القديمة وفهرستها وإتاحتها بالمجان إلى الجمهور، والمكتبة الرقمية للجامعة الإسلامية بغزة، وكذلك موقع القرية الإلكترونية الذي تقوم عليه مؤسسة غير ربحية مقرها أبو ظبي، تأسست عام 1998م.. وهذه نماذج تستحق الثناء والتشجيع والعمل على توسيعها.
ختامًا، فإن الكتاب الورقي سيبقى، ربما حتى تتم معالجة المشاكل التي يواجهها الكتاب الإلكتروني تقنيًّا وتسويقيًّا وقانونيًّا، حينها ربما تنقلب الآية ويصبح الحديث، عن ضرورة المحافظة على الكتب الورقية في مواجهة الغزو الرقمي لعالم الكتب.
(*) كاتب وباحث مصري.