هل يمكن العيش بدون الجبال؟

في بواكير مرحلة التعليم الثانوي ثم الجامعي، طَفَتْ في أذهان الكثير منا أسئلة مصيرية: كيف نشأ هذا الكون؟ هل من حكمة وتقدير في وجود مظاهر الحياة على ما هي عليها؟ هل نظرية “داروين” حقيقة علمية مؤكدة؟ ما العلاقة بين العلم ونظرياته وظواهره، وبين الدين ومعتقداته وثوابته؟ وهل بينهما توافق وانسجام أم تنافر وخصام؟ وكنا زملاء وأصدقاء متأثرين بمعلمين أفذاذ في العلوم والأحياء، نتناقش حول هذه الأمور وغيرها، وكان لنا زميل تخصص في علم “الجيولوجيا”، شغوف بطرح الأسئلة لإثارة ملكات التفكر والتدبر، سأل يومًا: لماذا خُلقت الجبال؟ وهل يمكن العيش بدونها؟ أما كانت الأرض في انبساطها تصلح لحياة البشر دون تلكم التضاريس الجبلية كبيرة الحجم، شاهقة الارتفاع، شديدة الانحدار؟ ألا تترك انطباعات نفسية مشحونة بالخوف والرهبة؟ وكانت خلاصة مناقشاتنا في السطور التالية، لعل فيها فائدة لأصدقائنا المحدثين.
تغطي الجبال نحو 22% من يابسة الأرض، وهي ليست تلك النتوءات القابعة على سطح الأرض، بل إنها تتمتع بقوة ورسوخ. فكثافة كتلتها مستقلة عن كثافة ونوعية التربة المحيطة بها، فكأنها أثقال وأدوات ترسو على الأرض فتثبت قشرتها. فالطبقة التي تلي القشرة الأرضية تتكون من صخور ذات درجة حرارية عالية وضغط مرتفع، وتليها طبقة ثالثة أكثر حرارة وضغطًا ولزوجة، وبالتالي فكأن الطبقتين الأولى والثانية تَسبحان فوق الثالثة كألواح تطفو على سطح ماء. فلو لم تكن الجبال (الرواسي) موجودة لمادت بنا الأرض كقارب فوق بحر لجي، ولفقدت الأرض صلاحيتها للحياة. أما من حيث الرسوخ فالجبال كـ”الأوتاد” لها جزء ظاهر (قد يبلغ ثلثها) ولها امتدادات ضخمة (قد تبلغ الثلثين) تحت سطح الأرض، وهي مغروسة كالضرس في عظام الفكين. ولقد أكدت على ذلك، الدراسات المسحية الجيولوجية، كما أشارت لدورها الهام في إيقاف حركة الكثبان الرملية التي تتحرك أثناء هبوب الرياح، وقد تسبب خسائر فادحة.

توجد في الجبال نصف أهم مناطق التنوع البيولوجي العالمي، تدعم نحو ربع التنوع البيولوجي على الكوكب، حيث تستضيف 28% من غابات العالم، وتحتوي على 25% من التنوع البيولوجي.

مستودعات مياه

الجبال مستودعات مياه وتمدنا بنحو 60-80% من المياه العذبة. ويعتمد حوالي نصف سكان العالم، الذين يعيشون في جنوب وشرق قارة آسيا وأستراليا وغيرها، على الجبال (أبراج مياه) مصدرًا للمياه العذبة. وثمة علاقة بين الجبال والغيوم، فنرى أن قممها غالبًا ما تغطى بالغيوم أو الثلوج معظم أيام السنة، فتصميمها الانسيابي يجعل التيارات الهوائية تندفع بحركة أفقية، ثم تصطدم بالجبال فيتغير مسارها للأعلى، مما يسهم في تبريدها وتَشكُّل الغيوم والأمطار والثلوج، ومن ثم نزول الماء الفُرات، وتفجر الينابيع والأنهار شديدة العذوبة والنقاء. ففي أمريكا الشمالية يتغذى نهرَا كولورادو وريو جراندي العظيمان بشكل رئيس، من جبال روكي.
وهناك علاقة بين ارتفاع الجبل وكمية الماء الهاطل والمتدفق منه؛ إذ كلما كان أعلى ارتفاعًا كانت كمية الماء أكبر وأكثر نقاء وأطيب مذاقًا. وفي بلدان عديدة تحفظ الجبال الثلوج الهاطلة في الشتاء، ثم تذوب ببطء خلال الربيع والصيف. وغالبًا ما يعتمد الري في المناطق القاحلة، على المياه الناتجة من ذوبان الثلوج من جبال بعيدة. كما تلعب الجبال دورًا رئيسًا في توفير الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الكهرومائية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والغاز الحيوي لسكان المدن والمجتمعات الجبلية النائية.

كنوز مخبّأة في الجبال

تمثل الجبال موطنًا (أَكْنَانًا) يؤوي نحو 13% من سكان العالم، ويعيش أكثر من 90% من هؤلاء السكان، في البلدان النامية؛ حيث يقطن أعاليها مجتمعات محلية ذات ثقافات عريقة ومتميزة. وعلى مر القرون تعلم قاطنوها العيش في بيئة جبلية قاسية، ودشنوا نظمًا زراعية لا تزال ناجحة عبر قرون، كما دجنوا حيوانات محلية -كاللاما، وأبقار الياك- قادرة على تحمُّل تلك البيئة.
وهناك عدد من المحاصيل الغذائية الأساسية، يعود أصلها إلى نباتات برية لا تزال تنمو في الجبال، فهي توفر زراعة عددٍ من المحاصيل الضرورية، مثل الذرة، والبطاطا، والبندورة، والقمح، والأرز، والشعير.. وتعتبر جبال اليمن موطنًا قديمًا لزراعة البنّ، والقمح، والشعير، والذرة، كما تُنتج كثير من المجتمعات الجبلية، وفرة من محاصيل الكاكاو، والعسل، والأعشاب، والتوابل، والصناعات اليدوية التي تحسّن سبل العيش، وتعزز الاقتصاديات العالمية والمحلية.

التنوعات البيولوجية والنظم الإيكولوجية

توجد في الجبال نصف أهم مناطق التنوع البيولوجي العالمي، تدعم نحو ربع التنوع البيولوجي على الكوكب، حيث تستضيف 28% من غابات العالم، وتحتوي على 25% من التنوع البيولوجي. ويحتوي ما يقرب من 60% من المحميات نظمًا إيكولوجية جبلية. فلقد أدت عزلة كثير من المناطق الجبلية إلى أن تكون ملجأ لأنواع نباتية وحيوانية قد تكون اختفت من المنخفضات؛ فمثلاً، يعيش في حديقة “كينابالو” الوطنية في ماليزيا 4,500 نوعًا من النباتات، كما أن حيوانات الباندا العملاقة في الصين، ونسور الكندور في جبال الأنديز، والنمور البيضاء في آسيا الوسطى، تعتمد على البيئة الطبيعية للجبال. ولقد صمم مزارعو الجبال الأصليون نظمهم الزراعية بطريقة تحمي التربة من التعرية، وتحافظ على الموارد المائية، وتقلل مخاطر الكوارث الطبيعية، لكن قد تتضرر النظم الإيكولوجية الجبلية جراء التغييرات المناخية العالمية.
وتعتبر الجبال جرس إنذار لتغير المناخ؛ فالثلوج الجبلية تذوب بمعدلات غير مسبوقة. ومع استمرار الاحترار العالمي، فإن سكان الجبال يواجهون تحديات كبرى. كما تبقى الجبال مُهددة جراء تدهور الأراضي، والاستغلال المفرط، والكوارث الطبيعية، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب مدمرة بالنسبة للمجتمعات الجبلية وبقية العالم.

أهمية ثقافية ونفسية وسياحية

سمّت منظمة اليونسكو العديد من الجبال، كمواقع تراث عالمي، ومحميات محيط حيوي. وحددت الجمعية العامة للأمم المتحدة تاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول من كل سنة، يومًا عالميًّا للجبال. ومنذ 2003 يُحتفل بهذا اليوم سنوياً للتوعية بأهمية الجبال في الحياة، وتسليط الضوء على فرص ومعوقات التنمية الجبلية. فضلاً عن تشكيل وعي بيئي عالمي من شأنه إحداث تغييرات إيجابية تصب في صالح شعوب الجبال والبيئات المحيطة بها. ولم يكن “جون ميور” (عالم بيولوجي وكاتب أميركي) مخطئًا عندما أشار منذ أكثر من قرن، إلى أن للجبال قدرة على تحريك مشاعر الإنسان. فالجبال المهيبة تولّد إعجابًا وانبهارًا بجمالها، ورهبة في نفوسنا، وتريحنا بسكونها، وتسحرنا بتنوع نباتاتها وحيواناتها.. ولذلك يقصد ملايين الأشخاص سنويًّا المناطق الجبلية ينشدون فيها انتعاشًا لنفوسهم، ومتعة لأبصارهم، وإلهامًا لأرواحهم.
وتحتل السياحة الجبلية الترفيهية نسبة 15-20% من صناعة السياحة العالمية؛ فهي تجذبهم إلى مجموعة من الأنشطة والمغامرات، بما في ذلك رياضة التزلج على الجبال الجليدية، وتسلق الجبال، واستكشاف الكهوف والمغارات، ورياضة السير لمسافات طويلة.. وليس من قبيل المبالغة أو التحيز القول إن وطننا العربي يتمتع بمقومات طبيعية مؤثرة في السياحة الجبلية، كالموقع الجغرافي، والتركيب الجيولوجي، وتشكيلات سلاسل الجبال، والمناخ المعتدل، وتنوع الحياة البرية، الحيوانية والنباتية.
كما تجذب الحدائق الوطنية النائية ملايين السياح سنويًّا، حيث يسافر الناس إلى حديقة “دينالي” الوطنية في “ألاسكا” لرؤية جبل “ماكينلي” أعلى قمة في أمريكا الشمالية، ويقصد كثيرون الأخدود العظيم للتمتع بمشاهدة جبلَي كيليمانجارو وميرو المَهيبَين، أو لمراقبة القطعان الكبيرة من الحيوانات البرية التي تعيش في الوادي الفاصل بين هاتَين القمتَين، وتفيد هذه السياحة العديد من المجتمعات الجبلية.

أنواع وألوان وجمال

تنتظم جبال العالم في ثلاثة أنواع: جبال منفردة، وسلاسل جبلية، وأحزمة جبلية. وتتعدد أنواعها؛ فمنها الجبال الالتوائية الأكثر انتشارًا، وهي عبارة عن أعداد لا نهائية من الجبال، تكونت أثناء الحركة الالتوائية التي تعرضت لها الأرض في العصر الثالث. ويصنف الجبل بأنه التوائي عندما يتجاوز ارتفاعه أربعمائة متر على الأقل، ولا يتخطى عرضه ألف متر على الأكثر، ومن أهم أمثلته جبال الألب، والبرانس، والروكي. ومنها الجبال الانكسارية التي مرت بنفس ظروف تشكل الجبال الالتوائية تقريبًا، لكن بدلاً من الالتواء حدث الانكسار فسميت بذلك، ولا توجد أعداد كبيرة منها. وهناك الجبال الجليدية، وغالبًا ما تكون في قلب أحد الأنهار أو المحيطات، أما الجبال الزرقاء فتحتوي من الجمال ما يكفي لجعلها ضمن مناطق التراث العالمي، وتُعتبر مزارًا سياحيًّا عالميًّا.
وللجبال ألوان مثل البشر؛ فهناك جبال بيض وحمر وسود. وتختلف الجبال من مكان لآخر وفقًا لكمية ونوعية معادنها؛ فالجبال البيضاء مملوءة بمواد جيرية، ولهذا فإن معظم مصانع الجير تكون عادة بالقرب من هذه الجبال. أما الجبال التي تكون غالبية مكوناتها من الحديد فألوانها مائلة إلى الأحمر؛ حيث الحديد الموجود في تربتها يتفاعل مع المطر والرطوبة، مما يجعله يتأكسد مُتحولاً إلى اللون الأحمر والبني. أما الجبال التي غالب مكوناتها من البازلت أو من البراكين فتكون سوداء.. لذا، فالجبال مصدر هام لأنوع المعادن والثروات الهائلة التي تختفي فيها، ومن أجل أن يظفر الناس بهذه الثروات، فهم يهرعون إليها للبحث عنها. أما الجبال الخضر فأخذت لونها من الأشجار والغابات التي تكسوها وليس لونها الأصيل.

الجبال مستودعات مياه وتمدنا بنحو 60-80% من المياه العذبة. ويعتمد حوالي نصف سكان العالم، الذين يعيشون في جنوب وشرق قارة آسيا وأستراليا وغيرها، على الجبال مصدرًا للمياه العذبة.

وأما جماليًّا فأنت تقف أمام معرض كوني جميل، ولوحات وتشكيلات مفرداتها سماء صافية، وشمس مشرقة، ونسمات مُنعشة، ومياه فيروزية، وشلالات مهيبة، وبحيرات ساحرة، ورمال ناصعة، وشواطئ متعرجة، وكهوف رخامية، وتشكيلات صخرية، وألوان بديعة وتكوينات دقيقة فريدة.. تأخذك الدهشة والرهبة والإبهار من هذا التناسق والتناسب والروعة والإبداع. ولقد تكونت هذه التشكيلات الصخرية، والكهوف الحجرية، والشواطئ المتعرجة للجبال عبر ملايين السنين، نتيجة عدة عوامل من أهمها المياه والثلوج والرياح، وتقلّبات الطقس، وطاقة الشمس، وحركة الأرض، وقوة الجاذبية الأرضية، والتفاعلات الكيميائية، وتأثير الأحياء والإنسان.. ويُسفر التأثير المتداخل المتفاوت الرتيب لهذه العوامل، عن ظاهرة التعرية (Erosion)، والتي تُجزئ التكتلات الصخرية وتفككّها وتفتتها “التجوية” (Weathering). ولا تختلف الظاهرتان عن بعضهما البعض، فلهما الأثر البالغ في عملية الحتّ، إلا أن التعرية تفتت الصخور، وتنقلها لأماكن أخرى، بينما تقتصر التجوية على التفكيك والتفتيت فقط. وتتم الأخيرة بطريقتين متكاملتين ميكانيكية وكيميائية؛ فالأولى تسبب تصدّع الصخور ومعادنها، وتفتتها إلى أجزاء أصغر فأصغر، تتحاتّ ببعضها خلال تعريتها وانتقالها إلى مواقع استقرارها، ويكون التآكل الميكانيكي على أشده في الأماكن العارية من النباتات. بينما تختلف المعادن وفق صلابتها وصلادتها من حيث قابليتها للتجوية. ففي الوجود الجامد جمال، كما في الوجود الحي جمال، ولا ينبغي أن يُرى هذا الجمال المتغلغل في الكون دون تذوقه ومعرفة مُبدعه ومُوجده.

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.